فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا
(65)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} فلمَّا اقْتَفَى سَيِّدُنا موسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَمعَهُ فَتَاهُ، آثَرَ الْحُوتِ، ومَشَيَا عَلَى دَرْبِهِ فَوْقَ الماءِ المُتَجَمِّدِ، وَصَلَا الجَزيرَةَ، فَوَجَدَا هُناكَ الخَضِرَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، واسْمُهُ اليَسَعَ كَمَا هوَ مَذْكورٌ في القرآنِ الكَريمِ، وسُمِيَّ الخَضِرَ، لِأَنَّهُ كانَ إِذَا صَلَّى في مَكَانٍ اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ، فقَد أَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ إِذا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ).
وَأَخْرَجَ الأَئمَّةُ: أَحْمَدُ، والبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْن أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ)). مُسْنَدُ الإمامِ أحمدٍ: (2/312، برقم: 8098)، وَصحيحُ الإمامِ البُخَاريِّ: (4/190، برقم: 3402). كلاهُما عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ، وَصِحيحُ سُنَنِ الإمامِ التِّرمِذيِّ، برقم: (3151)، عَنْ عَبْدِ الرزاقِ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْفَرْوَةُ الْبَيْضَاءُ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْحَشِيشِ الْأَبْيَضِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْهَشِيمِ، وَقِيلَ، الْفَرْوَةُ: الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَقِيلَ: هِيَ الْهَشِيمُ الْيَابِسُ. وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ جِلْدَةِ الرَّأْسِ فَرْوَةً، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِ الراعي النُّمَيرِيِّ:
دَنِسُ الثِّيَابِ كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ ............. غُرِسَتْ فَأَنْبَتْ جَانِبَاهَا فُلْفُلا
وَاخْتَلَفُوا فِي نَسَبِ الْخَضِرِ، فَقِيلَ: هُوَ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ: وَهَذَا قَوْلٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ مِنْ طَرِيقِ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم، فقد أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الأَفْرادِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَ جميعًا، قَالَ: الْخَضِرُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ وَنُسِئَ لَهُ فِي أَجَلِهِ حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ. وَرَوَّادٌ ضَعِيفٌ، وَمُقَاتِلٌ مَتْرُوكٌ، وَالضَّحَّاكُ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي كِتَابِ الْمُعَمَّرِينَ، ثُمَّ سَاقَ سَنَدَهُ وَقَالَ: هُوَ مُعْضَلٌ وَحَكَى صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّهُ اسْمُهُ خَضِرُونَ وَهُوَ الْخَضِرُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَامِرٌ، ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ الْبَغْدَادِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ بِلْيَامُ بْنُ مَلْكَانِ بْنُ فَالِغِ بْنِ شَالَخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ الْمُعَمِّرَ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: خَضْرُونُ بْنُ عَمَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليْهِ السَّلامُ: وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْضًا ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِح،ٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ بَعِيدٌ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ: إِنَّهُ أَرْمَيَا بُنُ حَلْقِيَا، وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ. وَقِيلَ: ابْنُ فِرْعَوْنَ لِصُلْبِهِ، حَكَاهُ النَّقَّاشُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الْيَسَعُ، حُكِيَ عَنْ مُقَاتِلٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّهُ بَعِيدٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ فَارِسٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: جَاءَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مِنْ رِوَايَةِ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَنْ وَلَدِ بَعْضِ مَنْ كَانَ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَقِيلَ: كَانَ أَبُوهُ فَارِسِيًّا، وَأُمُّهُ رُومِيَّةً، وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ محمَّدِ ابْنِ إِسْحَاقٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابنَا: إِنَّ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، جَمَعَ بَنِيهِ فَقَالَ: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ سَيُنْزِلُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ عَذَابًا، فَلْيَكُنْ جَسَدِي مَعَكُمْ فِي المَغَارَةِ حَتَّى إِذا هَبَطْتُمْ فَابْعَثُوني وادْفِنوني بِأَرْضِ الشَّامِ. فَكَانَ جَسَدُهُ مَعَهمْ، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ نُوحًا ضَمَّ ذَلِكَ الْجَسَدَ، وَأَرْسَلَ اللهُ الطُّوفانَ عَلى الأَرْضِ فَغَرِقَتِ الأَرْضُ زَمَانًا، فجَاءَ نُوحٌ حَتَّى نَزَلَ بَابِلَ، وَأَوْصَى بَنِيهِ الثَّلَاثَةَ وَهُمْ: سَام، وَحَام، وَيَافِث، أَنْ يَذْهَبُوا بِجَسَدِهِ إِلَى الْغَارِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْفِنُوهُ بِهِ. فَقَالُوا: الأَرْضُ وَحْشِيَّةٌ لَا أَنيسَ بِهَا، وَلَا نَهْتَدِي لِطَريقٍ، وَلَكِنْ كُفَّ حَتَّى يَعْظُمَ النَّاسُ وَيَكْثُرُوا. فَقَالَ لَهُم نُوحٌ: إِنَّ آدَمَ قَدْ دَعَا اللهَ أَن يُطِيلَ عُمْرَ الَّذِي يَدْفنُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَلَمْ يَزَلْ جَسَدُ آدَمَ، حَتَّى جَاءَ الْخَضِرُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ الَّذِي تَوَلَّى دَفْنَهُ فَأَنْجَزَ اللهُ لَهُ مَا وَعَدَهُ، فَهُوَ يَحْيَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَحْيَا.
وقدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءَ فِي الْخَضِرِ: هَلْ هُوَ حَيٌّ إِلَى الْآنِ، أَمْ مَيِّتٌ، تُوُفِيَ في ما مَضَى مِنَ الزَّمَانِ؟. فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ حَيٌّ، وَأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ عَيْنٍ تُسَمَّى عَيْنَ الْحَيَاةِ، وممَّنْ نَصَرَ هذَا الْقَوْلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الجامع لِأَحْكامِ القرآنُ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لصحيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَابْنُ الصَّلَاحِ، وَالنَّقَّاشُ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَطْنَبَ النَّقَّاشُ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى، يَعْنِي حَيَاةَ الْخَضِرِ وَبَقَاءَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَكُلُّهَا لَا تَقُومُ عَلَى سَاقٍ.
وَحَكَايَاتُ الصَّالِحِينَ عَنِ الْخَضِرِ ـ عليْهِ السَّلامُ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ يَحُجُّ هُوَ وَإِلْيَاسُ كُلَّ سَنَةٍ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمَا بَعْضَ الْأَدْعِيَةِ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، وَمُسْتَنَدُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ غَالِبَهُ حِكَايَاتٌ عَنْ بَعْضِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ الصَّلَاحُ، وَمَنَامَاتٌ وَأَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ، وَكُلُّهَا ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ. وَمِنْ أَقْوَاهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ آثَارُ التَّعْزِيَةِ حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (التَمْهِيدِ) عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا تُوَفِّي النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُجِّيَ بِثَوْبٍ هَتَفَ هَاتِفٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} الْآيَةَ: 185، مِنْ سورةِ آلِ عِمران، إِنَّ فِي اللهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَعِوَضًا مِنْ كُلِّ تَالِفٍ، وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ فَبِاللهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ). فَكَانُوا (يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى حَيَاةِ الْخَضِرِ بِآثَارِ التَّعْزِيَةِ كَهَذَا الْأَثَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَوَّلُهُما: أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، فقد قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: (وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ فِي بَقَاءِ الْخَضِرِ إِلَى الْآنِ، ثُمَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَوْلَيْنِ، وَمَالَ هُوَ وَابْنُ الصَّلَاحِ إِلَى بَقَائِهِ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٍ عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَاءَ ذِكْرُهُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَشْهَرُهَا حَدِيثُ التَّعْزِيَةِ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ).
الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ حَدِيثَ التَّعْزِيَةِ، فإنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عِرْفَانًا، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُعَزِّي هُوَ الْخَضِرُ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، فقد يكونُ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ، لِأَنَّ اللهَ تعالى قال فِيهِمْ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} الآيةَ: 27، مِنْ سُورَةِ الأَعْرَاف. وَمثلُ هَذِهِ الدَعْوَى يًحْتاجُ إِلى دَلِيلٍ، فإنَّ القَوْلَ بِأَنَّهُمْ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخَضِرُ لَا حُجَّةَ فيهُ، يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخْطِئُوا فِي ظَنِّهِمْ، وَلَا يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى إِجْمَاعٍ شَرْعِيٍّ مَعْصُومٍ. ورُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ غيرُ ظاهِرٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثمَّ إِنَّ الْخَضِرَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ليسَ بِحَيٍّ، بَلْ هوَ متوفًّى لِعِدَدٍ مِنَ الأَدِلَّةٍ:
أَوَّلُها: ظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الأَنبياءِ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} الآيةَ: 34، فَقَوْلُهُ "لِبَشَرٍ" نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، ولِذَلِكَ فَإِنَّها تَعُمُّ كُلَّ بَشَرٍ، وَالْخَضِرُ بَشَرٌ مِنْ قَبْلِهِ، وعَلَيْهِ فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ نَفْيُ الْخُلْدِ عَنْ كُلِّ بَشَرٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، فَلَوْ كَانَ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ، وَصَارَ حَيًّا خَالِدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَكَانَ اللهُ تعالى قَدْ جَعَلَ لِذَلِكَ الْبَشَرِ الَّذِي هُوَ الْخَضِرُ مِنْ قَبْلِهِ الْخُلْدَ، وهو مناقضٌ لمضمونِ الآيةِ الكريمةِ.
ثَانِيها: قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما أَخْرَجَ مسلِمٌ َوغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الحديثِ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى: ((اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ)) فَقَدْ أَخْرجَ الأئمَّةُ عَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنْ أَميرِ المؤمنينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِئَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: ((اللَّهُمَّ أَنْجِزَ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ))، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} الآية: 9، مِنْ سُورَةِ الأَنْفَالِ، فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَد: (1/30، 208)، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ برقم: (31)، وَمُسْلمٌ: (5/156 و 157، برقم: 4609 و 4610)، وأَبو داودَ برقم: (2690)، والتِّرمِذِيُّ برقم: (3081). وَفِي رِوَايَةِ الإِمامِ البُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ يَوْمَ بَدْرٍ: ((اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ))، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ! فَخَرَجَ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَمَ، وَهُوَ يَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} الآيةَ: 45، مِنْ سُورةِ القَمَر، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ))، وهذا فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهُوَ بِمَعْنَى: لَا تَقَعُ عِبَادَةٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَعَنْ مَصْدَرٍ وَنِسْبَةٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْبَلَاغِيِّينَ، فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِهِ إِجْمَاعًا، فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ النَّفْيُ فَيُؤَوَّلُ إِلَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، إِذًا فإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تَقَعُ لَكَ عِبَادَةٌ فِي الْأَرْضِ، وهذَا النَّفْيَ يَشْمَلُ بِعُمُومِهِ وُجُودَ الْخَضِرِ حَيًّا فِي الْأَرْضِ، والْخَضِرَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَا دَامَ حَيًّا فَإِنَّهُ سَيَعْبُدُ اللهَ فِيها، إِذًا فَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: ((اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ)) أَيْ: إِنْ شِئْتَ إِهْلَاكَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ، فَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تقدَّمَتْ عَنْ مُسْلِمٍ وغيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَفيهِ الدَّليلُ عَلَى وَفَاةِ الْخَضِرِ ـ عليْهِ السَّلامُ.
ثَالِثُها: إِخْبَارُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ عَلَى رَأْسِ كلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا بِالْحَدِيثِ لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي الْأَرْضِ لَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَ الْمِئَةِ الْمَذْكُورَةِ، جاءَ ذَلكَ فيما أخرجَهُ الأئمَّةُ: مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رَحِمَهُ اللهُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَبُي بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: ((أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِئَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحمدُ في مُسْنَدِهِ: (2/88، برقم: 5617)، والبُخَاريُّ في صحيحِهِ: (1/40، برقم: 116)، ومسْلِمٌ في صحيحه: (7/186، برقم: 6570)، وأَبوداودَ في سُنَنِهِ برقم: (4348)، وَالتِّرْمِذِيُّ في سُننهِ، برقم: (2251)، والنَّسَائيُّ في سُنَنِهِ الكبْرَى برقم: (5841). قَالَ ابْنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِلْكَ، فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَنْ مِئَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ))، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ. وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأنْصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قال قَبْلَ أَنْ يَنتَقِلَ إلى الرَّفيقِ الأَعْلَى بِشَهْرٍ: ((تَسْأَلُونِي عَنِ السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ، وَأَقْسَمَ اللهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِئَةُ سَنَةٍ)). وَفي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لأَصْحَابِهِ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، يَأْتِي عَلَيْهَا مِئَةُ سَنَةٍ، وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أحمد: (3/305، برقم: 14332) ومُسْلِمٌ: (7/187، برقم: 6574). وفَيهِ أَيْضًا تَصْرِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ لَا تَبْقَى نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ (حَيَّةً) عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هذَا الْعُمُومَ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ يَشْمَلُ الْخَضِرَ ـ عَلَيْهِ السلامُ، لِأَنَّهُ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ عَلَى الْأَرْضِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا إِلَى زَمَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَلَنَصَرَهُ، وَقَاتَلَ مَعَهُ، لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى منْ سُورَةِ الأعرافِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الآيةَ: 158، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الفُرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية: 1، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ سَبَأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية: 28، وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّهُ أَخَذَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ الْمِيثَاقَ الْمُؤَكَّدَ أَنَّهُمْ إِنْ جَاءَهُمْ نَبِيُّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ، وَذَلِكَ بقَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الآيتان: (81 ـ 82)، مِنْ سورةِ آلِ عِمْرانَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَغَيْرُهُ مِنَ المفسِرينَ، الْمُرَادُ بِالرَّسُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هَو نَبِيُّنَا محمدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعَلَيْهِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَبعدُ فالآيةُ عَامَّةٌ، وهُوَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْخُلُ فِي هذا العُمُومِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي زَمَنِهِ لَجَاءَهُ وَنَصَرَهُ وَقَاتَلَ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ نَبِيٌّ إِلَّا اتَّبَعَهُ. لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ، وَالْبَزَّارُ، مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عبدِ اللهِ الأَنْصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ فَغَضِبَ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَقَالَ: ((لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي))، وَروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيضًا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: جَاءَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ قُرَيْظَةَ، فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَابِتٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: رَضِينَا بِاللهِ رِبَّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. قَالَ: فَسُرِّيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ)) تفسيرُ ابْنِ كَثِيرٍ ـ ط/ العلميَّة: (4/ 315). وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، فِي تَارِيخِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ آيَةَ (آلِ عِمْرَانَ) الْمَذْكُورَةِ آنِفًا مُسْتَدِلًّا بِهَا عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ لَوْ كَانَ حَيًّا لَجَاءَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَصَرَهُ. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيَّنَا إِلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ، وَقد أَمَرُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.
فَإِنْ كَانَ الْخَضِرُ نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَانَ أَشْرَفَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، يُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ، وَيَنْصُرُهُ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالصَّدِيقُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَمُوسَى أَفْضَلُ مِنْهُ. وَهَذَا الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ وَيُعْلَمُ مِنَ الدِّينِ عِلْمَ الضَّرُورَةِ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُكَلَّفُونَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَانُوا كُلُّهُمْ أَتْبَاعًا لَهُ وَتَحْتَ أَوَامِرِهِ، وَفِي عُمُومِ شَرْعِهِ، كَمَا أَنَّهُ ـ صَلَوَاتِ اللهِ وَسَلَامَهُ عَلَيْهِ، لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِمُ في الْإِسْرَاءِ، رُفِعَ فَوْقَهُمْ كُلِّهِمْ، وَلَمَّا هَبَطُوا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَحَانَتِ الصَّلَاةُ، أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ اللهِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَحَلِّ وَلَايَتِهِمْ وَدَارِ إِقَامَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْمُبَجَّلُ الْمُقَدَّمُ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
إِذًا فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ ـ علَيْهِ السَّلامُ، حَيًّا لَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقْتَدى بِشَرْعِهِ لَا يَسَعُهُ إِلَّا ذَلِكَ، وكذَا سيِّدُنا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فإِنَّهُ يَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَا يَحِيدُ عَنْهَا، نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَلَمْ يَنْقُلْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ أَنَّ الْخَضِرَ اجْتَمَعَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالًا فِي مَشْهَدٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَهَذَا يَوْمُ بَدْرٍ يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ فِيمَا دَعَا بِهِ رَبَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، في الحديثِ المتقدِّم عنْ عمَرَ بْنِ الخطابِ، وَاسْتَنْصَرَهُ، وَاسْتَفْتَحَهُ عَلَى مَنْ كَفَرَهُ: ((اللَّهُمَّ إِنَّ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ)) وقدْ تقدَّمَ. وَتِلْكَ الْعِصَابَةُ كَانَ تَحْتَهَا سَادَةُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَسَادَةُ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ فِي بَيْتٍ يُقَالُ بِأَنَّهُ أَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ:
وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ ................. جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ
فَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ وُقُوفُهُ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ أَشْرَفَ مَقَامَاتِهِ، وَأَعْظَمَ غَزَوَاتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمَاتِ، ثُمَّ مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِفَاءِ؟ وَظُهُورُهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ، وَأَعْلَى فِي مَرْتَبَتِهِ، وَأَظْهَرُ لِمُعْجِزَتِهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَهُ لَكَانَ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ.
وإذًا فَالْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْخَضِرِ حَيًّا بَاقِيًا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى وَفَاتِهِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ ـ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْأَحَادِيثَ وَالْحِكَايَاتِ الْوَارِدَةَ فِي حَيَاةِ الْخَضِرِ: وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَالْحِكَايَاتُ هِيَ عُمْدَةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى حَيَاتِهِ إِلَى الْيَوْمِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ جِدًّا، لَا تَقُومُ بِمِثْلِهَا حُجَّةٌ فِي الدِّينِ. وَأَكْثَرُ الْحِكَايَاتِ عَنِ الخَضِرِ التي تُفِيدُ بِأَنَّ الخَضِرَ حيٌّ لَا يَخْلُو مِنْ ضَعْفٍ فِي الْإِسْنَادِ، وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ.