لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
قوْلُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي} اسْتِدْراكٌ مِنْ قولِهِ {أَكَفَرْتَ}، كَأَنَّهُ قَالَ لِأَخِيهِ: أَنْتَ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِفْهامُ تَقْريرٍ، لَكِنَّنِي أَنَا مُؤْمِنٌ نَحْوَ قَوْلِكَ: زَيدٌ غائبٌ لكنَّ عَمْرًا حَاضرٌ. لأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عَمْروٍ أَيْضًا. فـ "لكنَّا" هِيَ "لَكِنْ" الاسْتِدْراك؟، وضميرُ المُتَكَلِّمِ "أَنَا" فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ وأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي النُّونِ، فَإِنَّ الأَلِفَ حِينَ أُلْقِيَ مِنْ "أَنَا" أُثْبِتَ بَعْدَ النُّونِ، والمَعْنَى: لَكِنِّي أَقُولُ هُوَ اللهُ رَبِّي. فإنَّ المُؤْمِنَ يَسْتَدْرِكُ عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُهُ الكافرُ في الآيةِ التي قبلَها قائلًا: أَنَا لَسْتُ مِثْلَكَ فِيمَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، فإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ قَدْ كَفَرْتَ بِالذي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ. ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، فَأَنَا لَمْ أَكْفُرْ بِمَنْ خَلَقَنِي، فَأَنا قَوْلِي ومُعْتَقَدِي الذي أُومِنُ بِهِ: "هُوَ اللهُ رَبِّي".
قوْلُهُ: {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} ولَمْ يَقُلْ الكافرُ: "اللهُ رَبِّي"، إِنَّما جاءَتْ "رَبِّي" عَلى لِسَانِهِ فِي مَعْرِضِ حَديثِهِ حينَ قالَ في الآيةِ: 36، السَّابقةِ: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى ربِّي لأَجِدَنَّ خيْرًا مِنْها مُنْقَلَبًا}، وَالْفَرْقُ واسِعٌ بَيْنَ قَوْلِهِ هذا، وقولِ صاحبِهِ المُؤْمِنَ هُنَا: "اللهُ ربِّي"؛ لأَنَّ الرَّبَّ هُوَ الخَالِقُ المُتَوَلِّي للتَّرْبِيَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ، ولا أَحَدٌ يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ، إِنَّما الشَّكُّ فِي الإِلَهِ المَعْبُودِ المُطاعِ، فالرُّبوبِيَّةُ عَطَاءٌ، والأُلُوهِيَّةُ تَكْليفٌ؛ وَلِذَلِكَ اعْتَرَفَ الكافِرُ بالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنْكَرَ الأُلُوهِيَّةَ وَالْتَكْلِيفَ. وَلَمْ يَكْتَفِ المُؤْمِنُ بِأَنْ بَيَّنَ لِصَاحِبِهِ مَا هوَ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ، بَلْ أَرادَ أَنْ يُعَدِّيَ إِيمانَهُ إِلَى الغَيْرِ، فَهَذِهِ طَبيعَةُ المُؤْمِنِ إِذْ يَحْرِصُ عَلَى هِدَايَةِ غَيْرِهِ، لِذَلِكَ نَرَى المُؤْمِنَ بَعْدَ أَنْ أَوْضَحَ لصاحِبِهِ الكافِرِ إِيمانَهُ بِاللهِ تَعَالَى، أَرادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ كَيْفَ يَكونُ مُؤْمِنًا، لأَنَّ إِيمانَ المُؤْمِنِ لا يَكْمُلُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
قولُهُ تَعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي} لَكِنَّا: لَكِنْ: حَرْفُ اسْتِدْراكٍ، اسْتَدْرَكَ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ: {أَكَفَرْتَ بالذي خلقكَ مِنْ ترابٍ ثمَّ مِنْ نُطفةٍ ثمَّ سواكَ رَجُلًا} مِنَ الآيَةِ التي قبلَها. وَ "أَنَا" ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، عَلَى أَنَّهُ مُبتَدَأٌ أَوَّلُ. وَ "هُوَ" ضَميرُ شَأْنٍ مَبنّيٌّ عَلى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ، عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ ثانٍ. وَلَفْظُ الجَلالةِ "اللهُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ عَلى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ ثَالثٌ. و "رَبِّي" خَبَرُ المُبتَدَأِ الثالثِ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على ما قبلِ ياءِ المتكلِّمِ لاشتغالِ المحلِّ بالحركةِ المناسِبَةِ للياءِ، وهوَ مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلَةُ الاسْميَّةُ الثالِثَةُ هذِهِ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرًا للمبتَدَأِ الثاني، والجُمْلَةُ الاسْميَّةُ الثانيَةُ خَبَرٌ للمَبْتَدَأِ الأوَّلِ، والجُمْلَةُ الاسْميَّةُ الأُولى فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ". والرَّابِطُ بَيْنَ الأَوَّلِ وَبَيْنَ خَبَرِهِ الياءُ مِنْ "رَبَّي". وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ لفظُ الجَلالَةُ بَدَلًا مِنْ "هو" أَوْ نَعْتًا لهُ أَوْ عطفَ بَيَانٍ إِذا جُعِلَ "هوَ" عائدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {.. بِالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ..} لا عَلى أَنَّهُ ضَميرُ الشَّأْنِ، وَإِنْ كانَ أَبُو البَقَاءِ قد أَطْلَقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِالبَيِّنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ الضميرُ المنفصِلُ "هوَ" مُبْتَدَأً، وَيكونَ مَا بَعْدَهُ خَبَرَهُ، وَ "هُوَ" خَبَرُهُ خَبَرُ "لِكِنَّ". ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ تَأْكيدًا للاسْمِ، وَأَنْ يَكونَ فَصْلًا. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ ضَميرَ شَأْنٍ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا عَائدَ عَلى اسْمِ "لَكِنَّ" مِنْ هَذِهِ الجُمْلَةِ الوَاقِعَةِ خَبَرًا للمبتَدَأِ.
قوْلُهُ: {وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} الواوُ: عاطفةٌ. وَ "لا" نَافِيَةٌ. و "أُشْرِكُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنا) يَعُودُ عَلَى الرَّجُلِ المُؤْمِنِ مِنْهُمَا. و "بِرَبِّي" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُشْرِكُ"، و "رَبِّي" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرَةٌ مُقَدَّرةٌ على ما قبلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحركةِ المناسِبَةِ لياءِ المُتَكَلِّمِ، وهوَ مُضافٌ، وَياءُ المُتَكَلِّمِ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "أَحَدًا" منصوبٌ على المَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "اللهُ رَبِّي".
قرأَ العامَّةُ: {لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي} بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: "لَكِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي أَنَا"، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ مِنْ" أَنَا" طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَأُدْغِمَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَحُذِفَتْ أَلِفُ" أَنَا" فِي الْوَصْلِ وَأُثْبِتَتْ فِي الْوَقْفِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَالْمَازِنِيِّ أَنَّ الْأَصْلَ "لَكِنَّ أَنَا" فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى نُونِ لَكِنَّ وَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ وَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي النُّونِ فَالْوَقْفُ عَلَيْهَا "لَكِنَّا" وَهِيَ أَلِفُ "أَنَا" لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَصْلُ "لَكِنَّ أَنَا"، فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ فَالْتَقَتِ نُونَانِ فَجَاءَ بِالتَّشْدِيدُ لِذَلِكَ، وَأَنْشَدَنَا الْكِسَائِيُّ:
وَبِي مِنْ تَبَاريحِ الصَّبابَةِ لَوْعةٌ .............. قَتِيلةُ أَشواقي وشَوْقي قَتيلُها
لَهِنَّكَ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لَوَسِيمَةٌ ............... عَلَى هَنَوَاتٍ كَاذِبٌ مَنْ يَقُولُهَا
أَرَادَ: للهِ إِنَّكَ لَوَسِيمَةٌ، فَأَسْقَطَ إِحْدَى اللَّامَيْنِ مِنْ "للهِ" وَحَذَفَ الْأَلِفَ مِنْ "إِنَّكَ".
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِإِثْباتِ الأَلِفِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَالأَصْلُ فِي هَذِهِ الكَلِمَةِ "لَكِنْ أَنَا" فَنَقَلَ حَرَكَةَ هَمْزَةِ "أَنَا" إِلَى نُونِ "لَكِنْ" وَحَذَفَ الهَمْزَةَ، فَالْتَقَى مِثْلانِ فَأَدْغَمَ. وَهَذَا أَحْسَنُ الوَجْهَيْنِ فِي تَخْريجِ هَذَا. وَقِيلَ: حَذَفَ همزةَ "أَنَا" اعْتِباطًا فَالْتَقَى المِثْلانِ فَأَدْغَمَ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِجَرْيِ الأَوَّلِ عَلى القَوَاعِدِ، فالجَمَاعَةُ جَرَوْا عَلى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ فِي حَذْفِ أَلِفِ "أَنَا" وَصْلًا وَإِثْباتِها وَقْفًا، وَكانَ تَقَدَّمَ لنا أَنَّ نَافِعًا يُثْبِتُ أَلِفَهُ وَصْلًا قَبْلَ هَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ، أَوْ مَكْسُورَةٍ، أَوْ مَفْتُوحَةٍ بِتَفْصيلٍ مَذْكُورٍ فِي سورةِ البَقَرَةِ، وَهُناَ لَمْ يُصادِفْ هَمْزَةً، فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ أَيْضًا، وَلَوْ أَثْبَتَ الأَلِفَ هُنَا لَكَانَ أَقْرَبَ مِنْ إِثْباتِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَهَا فِي الوَصْلِ فِي الجُمْلَةِ.
وأَمَّا ابْنُ عَامِرٍ، فَإِنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَصْلِهِ فِي الجُمْلَةِ؛ إِذْ لَيْسَ مِنْ مَذْهَبِهِ إِثْباتُ هَذِهِ الأَلِفِ وَصْلًا في مَوْضِعٍ مَّا، وَإِنَّمَا اتُّبَعَ الرَّسْمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّها لُغَةُ تَميمٍ أَيْضًا.
وقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "لَكِنَّهْ" بِـ "هاءِ السَّكْتِ" وَقْفًا؛ لِأَنَّ القَصْدَ بَيَانُ حَرَكَةِ نُونِ "أَنَا"، فَتَارَةً تُبَيِّنُ بِالأَلِفِ، وَتَارَةً بِـ "هاءِ السَّكْتِ". وَعَنْ حاتِمٍ الطائي: هَكَذَا فَرْدِي أَنَهْ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبي عَمْرٍو: رَوَى عَنْهُ هَارونُ "لَكِنَّهُ هُوَ اللهُ" بِضَميرٍ لَحِقَ "لَكِنْ". فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَيْسَ بِـ "هَاءِ السَّكْتِ"، بَلْ تَكونُ الهاءُ ضَميرًا اسْمًا لـ "لَكِنْ" وَمَا بَعْدَها الخَبَرُ. وَخَرَّجَهُ أَبُو عليٍّ الفَارِسِيُّ عَلَى وَجْهٍ غَريبٍ: وَهُوَ أَنْ تَكونَ "لَكِنَّا" هي عبارة عَنْ "لَكِنَّ" واسْمَهَا وهوَ "نا"، والأَصْلُ: "لكنَّنا" فَحَذَفَ إِحْدَى النُّوناتِ، نَحْوَ: {إِنَّا نَحْنُ} وكانَ حَقُّ التَرْكيبِ أَنْ يَكونَ "رَبَّنَا"، "ولا نُشْرِكُ بِرَبِّنا" قالَ: ولكنَّهُ اعْتَبَرَ المَعْنَى فَأَفْرَدَ. وَهُوَ غَريبٌ جِدًا.
وأَمَّا في قراءَةِ العامَّةِ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكونَ "لكنَّ" مُشَدَّدَةً عامِلَةً لِوُقوعِ الضَّميرِ بَعْدَهَا بِصِيغَةِ المَرْفُوعِ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، "لكنْ أَنَا هُوَ" عَلى الأَصْلِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَلا إِدْغامٍ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ خَالَوَيْهِ: "لكنْ هوَ اللهُ" بِغَيْرِ "أَنَا". وَقُرِئَ أَيْضًا "لَكِنَنَا". قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَسَّنَ ذَلِكَ ـ يَعْني إِثباتَ الأَلِفِ فِي الوَصْلِ، وُقوعُ الأَلِفِ عِوَضًا مِنْ حَذْفِ الهَمْزَةِ. وقال: وَنَحْوُهُ ـ يَعْني إِدْغامَ نُونِ "لَكن" فِي نُونِ "نا" بَعْدَ حَذْفِ الهَمْزَةِ، قوْلُ القائلِ:
وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أَيْ أنت مُذْنِبٌ .......... وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِي
الأَصْلُ: لَكِنَّ أَنَا، فَنَقَلَ وَحَذَفَ وَأَدْغَمَ. قَالَ الشيخُ أبو حيَّان الأندلُسيُّ: وَلا يَتَعيَّنُ مَا قالَهُ فِي البَيْتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكونَ حَذَفَ اسْمَ "لكنَّ"، وحَذْفُهُ لِدَليلٍ كَثِيرٌ، وَعَلَيْهِ قوْلُ الفَرَزدقِ:
فلو كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرابَتي ............. ولكنَّ زَنْجِيُّ عَظِيمُ المَشافِرِ
أَيْ: وَلَكِنَّكَ، وَكَذَا هُنَا: وَلكِنَني إِيَّاكَ. قُالَ السَّمينُ الحلَبيُّ: لَمْ يَدَّعِ الزَّمَخْشَرِيُّ تَعَيُّنَ ذَلِكَ فِي البَيْتِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ.
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجَهُ البَصْرِيُّونَ فِي بَيْتٍ اسْتَدَلَّ بِهِ الكُوفِيُّونَ عَلَيْهِمْ فِي جَوَازِ دُخُولِ لامِ الابْتِداءِ فِي خَبَرِ "لَكِنَّ" وَهُوَ قولُهُ:
يلومونني في حبِّ لَيْلَى عَواذِلي ............... ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ
فَأَدْخَلَ اللامَ في خَبَرِ "لكنَّ". وَخَرَّجَهُ البَصْرِيُّونَ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ: وَلَكِنْ إِنِّي مِنْ حُبِّهَا، ثُمَّ نَقَلَ حَرَكَةَ هَمْزَةِ "إنِّي" إِلَى نُونِ "لكن" بَعْدَ حَذْفِ الهَمْزَةِ، وأَدْغَمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر "إنَّ"، هذا على تقديرِ تَسْليمِ صحَّةِ الرِّوايَةِ، وَإِلَّا فَقَالوا: إِنَّ البَيْتَ مَصْنُوعٌ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ قائلٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَرَوَوْا عَنْ عَاصِمٍ "لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي" وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا لَحْنٌ، يَعْنِي إِثْبَاتَ الْأَلِفِ فِي الْإِدْرَاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِثْبَاتُ الْأَلِفِ فِي "لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي" فِي الْإِدْرَاجِ جَيِّدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ حُذِفَتِ الْأَلِفُ مِنْ أَنَا فَجَاءُوا بِهَا عِوَضًا. قَالَ: وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ ـ رَضِيَ الله عنْهُ: "لَكِنَّ أَنَا هُوَ اللهُ رَبِّي". كَذَا قَرَأَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيِّ "لَكِنَّ هُوَ اللهُ رَبّي" بِمَعْنَى لَكِنَّ الْأَمْرَ هُوَ اللهُ رَبِّي، فَأَضْمَرَ اسْمَهَا فِيهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْمَسِيلِيُّ (هُوَ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بِنْ مُحَمِّدِ بْنِ سَعِيدٍ) عَنْ نَافِعٍ وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ "لكِنَّا" فِي حَالِ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ مَعًا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ حَمِيدُ بْنُ ثَوْرٍ:
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ................. حُمَيْدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا
وقيلَ هوَ لحميدِ بْنِ مجدلٍ الكَلْبيِّ. وَقَالَ الْأَعْشَى:
فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالَ الْقَوَافِي ............... بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارًا
وَلَا خِلَافَ فِي إِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ.