وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
قولُهُ ـ تَعَاَلى شَأْنُهُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ} مِنَ الْآية: 50، مِنْ هذهِ السُّورةِ المُباركةِ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. أَيْ: وَاذْكُرْ ذَلِكَ الزَّمَنَ وَمَا جَرَى فِيهِ. لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَوْعِظَةً وَذِكْرَى كَمَا فِي قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ ـ عَليْهِ السَّلامُ.
وَ "فَتَاهُ" خَادِمُهُ وَتَابِعُهُ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنْ سِبْطِ أَفْرَائيمَ، بْنُ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَهُوَ أَحَدُ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا الَّذِينَ بَعَثَهُمْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي أَرْضِ كَنْعَانَ جِهَةَ حَلَبَ وَحَبْرُونَ، لِيَنْظُرُوا في خَيْرَاتِ أَرْضِهَا، ويَخْتَبِرُوا بَأْسَ أَهْلِهَا فَمَكَثُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي هَذِهِ المهَمَّةِ. وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ شَجَّعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى دُخُولِ أَرْضِ كَنْعَانَ وَهُمَا المَذكورانِ فِي الآيَةِ: 23، مِنْ سُورةِ المائدَةِ حَيْثُ قَالَ تَعالى: {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ}. كَمَا كَانَ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذيْنِ عَهِدَ إِلَيْهِمَا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِأَنْ يُقَسِّمَا الْأَرْضَ بَيْنَ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقد أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُوسَى بِأَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَعَهِدَ إِلَيْهِ مُوسَى بِذَلِكَ، فَصَارَ نَبِيئًا مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَدَبَّرَ أَمْرَ الْأُمَّةِ بَعْدَ مُوسَى سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ عَمَّرَ مِئَةً وَعَشْرَ سِنِينَ، فَكَانَ مِيلَادُهُ سَنَةَ: (1463) قَبْلَ مِيلادِ السَيِّدِ الْمَسِيحِ ـ عليْهِ السَّلامُ، وَكانتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ: (1353) تقريبًا. وَكِتَابُ يُوشَعَ هُوَ أَوَّلُ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَانَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ قَرَّبَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَاتَّخَذَهُ تِلْمِيذًا وَخَادِمًا. فَقَدْ كانَ يَخْدمُهُ وَيَتْبَعُهُ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ. وَإِضَافَةُ الْفَتَى إِلَى ضَمِيرِ "مُوسَى" عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، كَمَا يُقَالُ أَيْضًا: غُلَامُهُ. وَالْفَتَى: الذَّكَرُ الشَّابُّ، وَالْأُنْثَى فَتَاةٌ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّابِعِ وَالْخَادِمِ.
وَلَمَّا كانَتِ الخِدْمَةُ أَكْثَرَ مَا تَكونُ مِنَ الفِتْيَانِ، قِيلَ للخَادِمِ: فَتًى، وتُطْلَقُ أيضًا عَلَى المُريدِ والتِلميذِ وَإِنْ كانَ شَيْخًا، إِذَا كانَ يَخْدمُ شَيْخَهُ وأَسْتاذَهُ، كما كانَ يُطْلَقُ (غُلَامَ ثَعْلَبٍ) عَلى الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، الْمُطَرِّزَ النَّحْوِيَّ اللُّغَوِيَّ، لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِشَيْخِهِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الشَّيْبَانِيّ المُلَقَّبِ بِـ "ثَعْلَبٍ"، وخِدْمتِهِ لَهُ.
قولُهُ: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أَيْ: لَا أَبْرَحُ أَسْيرُ فِي سَفَرِي هَذَا، سَعيًا إِلَى لِقَاءِ عَبْدِ اللهِ الخَضِر ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، فبَرِحَ: زَالَ، وَهُوَ مُضَارِعُ يَزُولُ، وَيَزَالُ فَتَكُونُ فعلًا ناقِصًا مِنْ أَخَوَاتِ "كَانَ" النَّاقِصَةِ. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَعْنَى: لَا أُفارِقُ مَا أَنَا بِصَدَدِهِ، مِنْ مُتَابَعَةِ السَّيْرِ، والسَّعْيِ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَيَكُونَ الفعْلُ "أَبرحُ" تَامًا، بِمَعنى: "زَالَ ، يَزُولُ"، أَي: فَقَالَ مُوسَى ـ عَلَيْه ِالسَّلامُ، لِفَتَاهُ (أَفراييم): لَا أَزَالُ أَسِيرُ فِي طَلَبِ الذي حَضَّني رَبِّي عَلى مُصَاحَبَتِهِ وَهوَ الخَضِرُ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَقد حُذِفَ ذِكْرُ الْغَرَضِ الَّذِي سَارَ لِأَجْلِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَذْف إِعْجَازٍ وبَلَاغَةٍ، للتَشْوِيقِ والإِيجَازِ، لِأَنَّهُ سَيُذْكَرُ بَعْدَ ذَلِكَ، ولِهذا الحَذْفِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ، لِإِخْرَاجِهَا عَنْ مَطْرُوقِ الْقِصَصِ إِلَى أُسْلُوبِ بَدِيعِ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ.
وَقدِ اسْتُعِيرَ لَا أَبْرَحُ هُنَا لِمَعْنَى: لَا أَتْرُكُ، أَوْ لَا أَكُفُّ عَنِ السَّيْرِ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. ومَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ مُلْتَقَى بَحِرِ فَارِسَ وَالرَّومِ مِمَّا يَلِي المَشْرِقَ ـ عَلَى مَا قَالَهُ أَكْثَرُ المُفَسِّرينَ، أَوْ هُوَ حَيْثُ يِجْتَمِعُ البَحْرُ المُحيطُ والبَحْرُ الخَارِجُ مِنْهُ، وَهوَ بَحْرُ الأَنْدَلُسِ عِنْدَ مدينةِ طَنْجَةَ، عَلَى ما قالَهُ ابْنُ جزِّيٍّ: وَهُوَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مُحَمَّدٍ القُرَظِيِّ. وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ المَعنى: أَوْ أَمضيِ زَمَنًا طَويلًا أَتَيَقَّنُ مَعَهُ فَوَاتَ الطَّلَبِ.
قولُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} والحِقَبُ: الدَّهْرُ، أَوِ السُّنُونُ، وَاحِدُهَا حِقْبَةٌ. أَوْ هي مُدَّةُ سَبْعُينَ، أَوْ ثَمَانينَ سَنَةً، قَالَ الشَّاعِرُ قَالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
فَإِنْ تَنْأَ عَنْهَا حِقْبَةً لَا تُلَاقِهَا ............. فَإِنَّكَ مِمَّا أَحْدَثَتْ بِالمُجَرِّبِ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْحُقُبُ سَنَةٌ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَارِدٌ فِي عَشْرِ مواضِعَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ: عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَيَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُم جميعَا، قالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهُما، إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ هما: كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ تعالى، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ. فَأَخَذَ حُوتًا، فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنِ نُونٍ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ، وَضَعَا رُؤوسَهُمَا، فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ مِنْهُ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}. وَأَمْسَكَ اللهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ قَالَ مُوسَى {لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}. قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَا الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قَالَ فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا، فَقَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}. قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟. قَالَ أَنَا مُوسَى. قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا. قَالَ: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ، عَلَّمَنِيهِ، لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ، لَا أَعْلَمُهُ، فَقَالَ مُوسَى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: {فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}. فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا، قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ: لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. ثُمَّ خَرَجَا مِنْ السَّفِينَةِ فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}. قَالَ وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنْ الْأُولَى. {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا، حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} قَالَ مَائِلٌ فَقَامَ الْخَضِرُ فَأَقَامَهُ بِيَدِهِ. فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَلَمْ يُضَيِّفُونَا {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: (وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا) وَكَانَ يَقْرَأُ: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ). فَتْحُ الباري شرحُ صَحِيحِ البُخارِيِّ لابْنِ حجرٍ الهيثميِّ: (8/409). وصحيحُ مُسْلِمٍ: (برقم: 2380). ورواهُ أَيْضًا الإمامُ التِّرمِذِيُّ ـ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالى.
وقد كانَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمَّا ظَهَرَ عَلَى مِصْرَ، بَعْدَ هَلاكِ القِبْطِ، أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ هَذِهِ النِّعْمَةَ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا بِخُطْبَةٍ بَلِيغَةٍ، رَقَّتْ بِهَا القُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ؟ فقَالَ: أَنَا. وَفِي رِوَايَةٍ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَم مِنْكَ؟ فَقَالَ: لَا. فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ لأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلى مَوْلاهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَعْلَمُ مِنْكَ عَبْدٌ لِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، وكانَ قَبْلَ مُوسَى ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَكَانَ فِي مُقَدَّمَةِ ذِي القَرْنَيْنِ، فَبَقِيَ إِلَى زَمَنِ مُوسَى ـ عَلَيْهِما السَّلامُ.
وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: إِنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، سَأَلَ رَبَّهُ: أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الذي يَذْكُرُني وَلَا يَنْسَانِي، قالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَقْضَى؟ قَالَ: الذي يَقْضِي بِالحَقِّ وَلَا يَتَّبِعُ الهَوَى، قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الذي يَسْتَقِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى هُدًى، أَوْ تَرُدًّهُ عَنْ رَدَى، قَالَ: يَا رَبِّ، إِنْ كَانَ في عِبَادِكَ مَنْ هوَ أَعْلَمُ مِنِّي فَدُلَّني عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَعْلَمُ مِنْكَ الخَضِرُ، قَالَ: أَيْنَ أَطْلُبُهُ؟ قالَ: عَلى سَاحِلِ البَحْرِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ. قالَ: يَا رَبُّ، كَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: خُذْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ هُنَاكَ، فَأَخَذَ حُوتًا مَشْويًا، فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، فَقَالَ لِفَتَاهُ: إِذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَأَخْبِرْني، وَذَهَبَا يَمْشِيانِ إِلى أَنِ اتَّصَلا بِالخَضَرِ. وقِصَّةُ سَيِّدِنَا مُوسَى مَعَ الخَضِرِ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، هذِهِ هِيَ السَّبَبُ في ظُهُورِ التَمْييزِ بَيْنَ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَهْلِ البَاطِنِ، فَأَهْلُ الظَّاهِرِ قائمُونَ بإِصْلاحِ الظَوَاهِرِ، وَأَهْلُ البَاطِنِ قَائِمُونَ بِتَحْقِيقِ البَوَاطِنِ. أَهْلُ الظاهِرِ يغْتَرِفُونَ مِنْ بَحْر الشَّريعَةِ، وَأَهْلُ الباطِنِ يَغْتَرِفُونَ مِنْ بَحْرِ الحقيقةِ. وَقِيلَ: هوَ المُرُادُ بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، حَيْثُ اجْتَمَعَ سَيِّدُنا مُوسَى ـ الذي هُوَ بَحْرُ الشَّريعَةِ، وَالخَضِرُ ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، الذي هوَ بَحْرُ الحَقيقةِ.
وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هذا أَنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى خَالٍ مِنَ الحَقَائِقِ، بَلْ كَانَ جَامِعًا كامِلًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى كَمَالِ الشَّرَفِ، بِالتَوَاضُعِ فِي طَلَبِ زِيادَةِ العِلْمِ تَأْدِيبًا وتربِيَةً لَهُ إِذِ نَسَبَ العِلْمَ إِلَى نَفْسِهِ، قالَ ابْنُ عطاءٍ السَّكَنْدَرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي حِكَمِهِ: (مَنَعَكَ أَنْ تَدَّعِي مَا لَيْسَ لَكَ مِمَّا للمَخْلوقِينَ، أَفَيُبيحُ لَكَ أَنْ تَدَّعِي وَصْفَهُ وَهُوَ رَبُّ العالَمِينَ!).
فهَذِهِ عَادَةُ اللهِ مَعَ خَوَاصِّ أَحِبَّائِهِ، إِذا أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنَ القُوَّةِ، أَوْ خَرَجُوا عَنْ حَدِّ العُبُودِيَّةِ، وَلَوْ قيدَ أُنْمُلَةٍ، أَدَّبَهُمْ بِمَنْ هوَ أَصْغَر مِنْهُمْ وأَقَلَّ عِلْمًا وَحالًا، وذلك عِنَايَةً بِهْمِ، وَتَشْريفًا لَّهُمْ لِئَلَّا يَقِفُوا دُونَ ذُرْوَةِ الكَمَالِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ طَلَبِ مُوسَى الخَضِرَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، مَعَ سَعَةِ عِلْمِهِ وعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ، وتَجَشُّمِ مَشَاقِّ السَّفَرِ إِلَيْهِ، طلَبًا للعِلْمِ: الحَثُّ على طلَبِ العِلْمِ ـ وَلا سِيَّمَا عِلْم الباطِنِ، والتَرْغِيبُ فِيهِ، فَهُوَ أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ. قَالَ الإِمامُ الغَزَالِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هُوَ فَرَضُ عَيْنٍ، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ عَيْبٍ، أَوْ إِصْرارٍ عَلى ذَنْبٍ، إِلَّا الأَنْبِيَاءُ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وقالَ الإمامُ الشَّاذِلِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ لَمْ يَتَغَلْغَلْ فِي عِلْمِنَا هَذَا، مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الكَبَائِرِ وَهوَ لَا يَشْعُرْ. واللهُ أَعْلِمُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: وَاذْكُرْ يِا رسولَ اللهِ قِصَّةَ مُوسَى إِذْ قالِ لِفَتَاهُ، وَالجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. و "قالَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "مُوسَى" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وَعَلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا عَلَى الأَلِفِ. و "لِفَتاهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قالَ"، و "فَتاهُ" مجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، وعلامةُ جَرِّهِ كسْرةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِها على الأَلِفِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرّ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضَافةِ "إِذْ" إليها.
قولُهُ: {لَا أَبْرَحُ} لا: نَافِيَةٌ، و "أَبْرَحُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ ـ وَعَلَيْهِ فَفيها تَخْريجانَ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكونَ الخَبَرُ مَحْذُوفًا للدَّلالَةِ عَلَيْهِ، والتقديرُ: لَا أَبْرَحُ أَسِيرُ حَتَّى أَبْلُغَ، إِلَّا أَنَّ بعضُ النَّحْويين نَصَّ عَلى أَنَّهُ لا يَجوزُ حَذْفُ الخَبَرِ فِي هَذَا البابِ وَلَوْ بِدَلِيلٍ، إِلَّا فِي ضَرورَةٍ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الشَّمَرْدَلُ بْنِ شَريكٍ اللَّيْثِيُّ يَرْثي مَنْصورَ بْنَ زيادٍ :
لَهَفي عليكَ للِهْفَةٍ مِنْ خائفٍ ............ يَبْغي جوارَك حينَ ليس مُجِيْرُ
أَمَّا القُبُورُ فَإِنَّهُنَّ أَوَانِسٌ ..................... بِجِوارِ قَبْرِكَ وَالدِّيارُ قُبُورُ
أَيْ: حِينَ لَيْسَ فِي الدُنْيَا مُجِيرٌ. والثاني: أَنَّ فِي الكَلامِ حَذْفَ مُضافٍ، والتَقْديرُ: لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي حَتَّى أَبْلُغَ .. ، ثُمَّ حُذِفَ "مَسيرُ" وأُقيمَتِ الياءُ مُقامَهُ، فَانْقَلَبَتْ مَرْفوعَةً مُسْتَتِرَةً بَعْدَ أَنْ كانَتْ مَخْفُوضَةَ المَحَلِّ بارِزةً، وَبَقِيَ "حَتَّى أَبْلُغَ" عَلَى حَالِهِ هُوَ الخَبَرَ. وَقَدْ خَلَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ فَجَعَلَهُمَا وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَكِنْ فِي عِبَارَةٍ حَسَنَةٍ جِدًّا، فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ "لَا أَبْرَحُ" إِنْ كانَ بِمَعْنَى "لَا أَزُوْلُ" مِنْ بَرِحَ المَكانَ فَقَدْ دَلَّ عَلَى الإِقامَةِ لَا عَلَى السَّفَرِ. وَإِنْ كانَ بِمَعْنَى "لا أَزَالُ" فَلا بُدَّ مِنْ خَبَرٍ. قالَ السَّمينُ: هِيَ بِمَعْنَى "لَا أَزَالُ"، وَقَدْ حُذِفَ الخَبَرُ لِأَنَّ الحالَ والكلامَ مَعًا يَدُلاَّنِ عَلَيْهِ: أَمَّا الحالُ فَلِأَنَّها كانَتْ حالَ سَفَرٍ، وأَمَّا الكلامُ فإِنَّ قولَهُ: "حَتَّى أَبْلُغَ" غَايَةٌ مَضْرُوبَةٌ تَسْتَدْعِي مَا هِيَ غَايَةٌ لَهُ، فَلا بُدَّ أَنْ يَكونَ المَعْنَى: لَا أَبْرَحُ أَسْيرُ حَتَّى أَبْلُغَ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكونَ المَعْنَى: لَا يَبْرَحُ مَسيري حَتَّى أَبْلُغَ عَلَى أَنَّ "حَتَّى أَبْلُغَ" هوَ الخَبَرُ، فَلَمَّا حُذِفَ المُضافُ أُقِيمَ المُضافُ إِلَيْهِ مُقامَهُ، وَهُوَ ضَميرُ المُتَكَلِّمِ، فانْقَلَبَ الفِعْلُ مِنْ ضَمِيرِ الغائبِ إِلَى لَفْظِ المُتَكَلِّمِ وَهوَ وَجْهٌ لَطيفٌ. وهذَا عَلى حُسْنِه فيهِ نَظَرٌ لا يَخْفَى وهوَ: خُلُوُّ الجُمْلَةِ الواقعَةِ خَبَرًا عَنْ "مَسيري" في الأَصْلِ مِنْ رَابِطٍ يَرْبِطُها بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: "حَتَّى أَبْلُغَ" ضَميرٌ يَعُودُ عَلى "مَسيري" إِنَّما يَعودُ عَلى المُضافِ إِلَيْهِ المُسْتَتِرِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لا يُكْتَفَى بِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجابَ عَنْهُ: بِأَنَّ العائدَ مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ، أَيْ: بِمَسيري. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ فِعْلًا تامًّا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا في مَبْحَثِ التَّفْسِيرِ، والمَعْنَى: لَا أَبْرَحُ مَا أَنَا عَلَيْهِ، بِمَعْنَى أَلْزَمُ المَسِيرَ وَالطَّلَبَ، وَلا أُفارِقُهُ وَلَا أَتْرُكُهُ، حَتَّى أَبْلُغَ، كَمَا تَقُولُ: لَا أَبْرَحُ المَكَانَ. فَعَلَى هَذَا يُحْتاجُ أَيْضًا إِلَى حَذْفِ مَفْعُولٍ بِهِ كَمَا تَقَّدَّمَ تَقريرُهُ، فَالحَذْفُ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى تَقْديرَيْ التَّمامِ وَالنُقْصانِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْ النُّقْصانِ. وَاسْمُهُ إِنْ كانَ فعلًا ناقِصًا، أَوْ فَاعِلُهُ إنْ كانَ فعلًا تامًّا، هو ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيِهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وخَبَرُ مَحْذوفٌ، والتَّقديرُ: لَا أَبْرَحُ مَاشِيًا حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولُ القولِ لِـ "قالَ".
قولُهُ: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} حَتَّى: حَرْفُ غَايَةٍ وجَرٍّ، بِمَعْنَى لامِ التَّعْليلِ، وَعِنْدَ أَبي البَقاءِ العُكْبريِّ هِيَ بِمَعْنَى "إِلَى". و "أَبْلُغَ" فعلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بـ "أَنْ" مُضْمَرَةً وُجُوبًا بَعْدَ "حَتَّى" بِمَعْنَى إِلَى أَنْ أَبلُغَ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَا) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "مَجْمَعَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، وهو مضافٌ، وَ "الْبَحْرَيْنِ" مجرورٌ بالإِضافةِ إلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ مُثنّى، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدَ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "أَنْ" المُضْمَرَةِ، و "أَنْ" مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "حَتَّى" التي بِمَعْنَى "إلى"، والجارُّ وَالمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَبْرَحُ"، والتَقْديرُ: لَا أَبْرَحُ مَاشِيًا إِلَى بُلُوغِي مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ.
قوْلُهُ: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} أَوْ: حَرْفُ عَطْفٍ وتنويعٍ. و "أَمْضِيَ" فعلٌ مُضارعٌ منصوبٌ عَطْفًا عَلَى "أَبْلُغَ"، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُوسَى ـ عَليْهِ السَّلامُ. و "حُقُبًا" منصوبٌ على الظَرْفيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَمْضِيَ". وَالجُمْلَةُ الفِعْليَةُ هذهِ في محلِّ النَّصْبِ عَطْفَ نَسَقٍ عَلى جُمْلَةِ "أَبْلُغَ"، بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِبُلوغِهِ المَجْمَعَ، أَوْ بِمُضِيِّهِ حُقُبًا. وَالثاني: أَنَّهُ تَغْيِيَةٌ لِقَوْلِهِ لَا أَبْرَحُ، فَيَكونُ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ، "أَنْ" بَعدَ "أَوْ" بِمَعْنَى "إِلَى" نَحْوَ قولِكَ: (لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي). وقالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ الأَندَلُسيُّ: (فَالمَعْنَى: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرَيْنِ، إِلَى أَنْ أَمْضِيَ زَمَانًا أَتَيَقَّنُ مَعَهُ فَوَاتَ مَجْمَعِ البَحْرَيْن). فَيَكونُ الفِعْلُ المَنْفِيُّ قَدْ غُيِّيَ بِغايَتْينِ مَكانًا وزمانًا، فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولهِما مَعًا، نَحْوَ: لَأَسِيرَنَّ إِلى بَيْتِكَ إِلَى الظُّهْرِ. فَلا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الغايَتَيْنِ. وهذا المَعْنَى الذي ذكرَهُ الشيخُ أَبو حيَّان يَقتَضي أَنَّهُ يَمْضي زَمانًا يَتَيَقَّنُ فِيهِ فَوَاتَ مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ. وَقدْ جَعَلَ العُكْبُريُّ أَبو البَقَاءِ "أَوْ" هُنَا بِمَعْنَى "إِلَّا" فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، قَالَ: وَالثاني: أَنَّها بِمَعْنَى: إِلَّا أَنْ اَمْضِيَ زَمانًا أَتَيَقَّنُ مَعَهُ فَواَتَ مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ. وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ أَبُو البَقاءِ مَعْنًى صَحيحٌ، فَأَخَذَ الشَّيْخَ هذا المَعْنَى، رَكَّبَهُ مَعَ القَوْلِ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى "إلى" المُقْتَضِيَةِ للغَايَةِ، فَمِنْ ثَمَّ جاءَ الإِشْكالُ.
قَرَأَ العامَّةُ: {مَجْمَعَ} بِفَتْحِ المِيمِ، وَهوَ مَكانُ الاجْتِماعِ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ. وَقَرَأَ الضَحَّاكُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ بِكَسْرِهَا، وَهُوَ شَاذٌّ، لِفَتْحِ عَيْنِ مُضَارِعِهِ.
قرأَ العامَّةُ: {حُقُبًا} وَقَرَأَ الحَسَنُ: "حُقْبًا" بِإِسْكانِ القَافِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ تَخْفِيفًا، وَيجوزُ أَنْ يَكونَ لُغَةً مُسْتَقِلَّةً. وَيُجْمَعُ عَلى "أَحْقابٍ" كَ "عُنُقٍ" و "أَعْناقٍ". وَفِي مَعْنَاهُ "الحِقْبَةُ" بكَسْرِ الحاءِ. ومنْهُ قولُ الشاعِرِ امْرُئِ القَيْسِ:
فَإِنْ تَنْأَ عَنْها حَقْبَةً لا تُلاقِها .............. فَإِنَّك مِمَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
والحُقْبَةُ بِالضَمِّ أَيْضًا. وَتُجْمَعُ الأُولى عَلى "حِقَبٍ" بِكَسْرِ الحاءِ، ك "قِرَب"، وَالثانيةُ عَلى "حُقَب" بِضَمِّها ك "قُرَب".