فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ} الْفَاءُ هُنَا: للتَفْرِيعِ، وَالْجُمْلَةُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ دُعَائِهِمْ المَتقدِّمِ فِي الآيَةِ التي قَبْلَها، مِمَّا يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الجُملةِ هُوَ اسْتِجَابَةُ لِدُعائهِمْ، فَأَنامَهُمُ اللهُ تَأْييدًا وتَكْريمًا لَهُمْ. وسَلَّمَهُمْ مِنَ العَذابِ بِأَيْدِي أَعْدَائِهِمْ، وَأَثْبَتَ بِذَلِكَ للنَّاسِ بأَنَّهُمْ كانُوا عَلَى الْحَقِّ، وَإِنْ تَمَّ ذلكَ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ. وَيَجوزُ أَنْ يكونَ التَفْريعُ عَلَى جُمْلَةِ "إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ" مِنَ الآيةِ السابقةِ، ويكونُ فَيهِ إِيذانٌ بِأَنَّ اللهَ تَعالى عَجَّلَ لَهُمْ حُصُولَ مَقْصودِهم بمَا لَمْ يَكُنْ فِي حُسْبَانِهِمْ. وَالضَّرْبُ: هُنَا بِمَعْنَى الْوَضْعِ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ عَلَيْهِ حِجَابًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 61، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والْمَسْكَنَةُ. وَلمْ يُذكَرْ مَفْعُولُ "فَضَرَبْنَا" لِظُهُورِهِ، أَيْ ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ غِشَاوَةً، أَوْ حَائِلًا عَنِ السَّمْعِ، كَمَا يُقَالُ: بَنَى عَلَى امْرَأَتِهِ، فالتَقْدِيرُ: بَنَى بَيْتًا.
ومَعْنَى "ضَرَبْنا عَلى آذنِهم" أَنَمْنَاهُمْ، قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَضَرَبْنَا عَلَى آذانِهِمْ بِالنَّوْمِ. تَفْسيرُ الطَبري "جامِعُ البَيَانِ": (13/ 538). وقالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاجُ: أَيْ مَنَعْنَاهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا؛ لِأَنَّ النَّائِمَ إِذَا سَمِعَ انْتَبَهَ) "معاني القرآن" للزَّجَّاجِ: (3/271). فالمَعْنَى: أَنَمْنَاهُمْ وَمَنَعْنَاهُمُ السَّمْعَ. قالَ الأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُر النَّهشَلِيُّ:
وَمِنَ الحَوَادِثِ لَا أَبالَكِ أَنَّنِي ............ ضُرِبَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بالأَسْدَادِ
قوْلُهُ: (الأَسْداد) جَمْعُ سَدٍّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كانَ ضَريرًا لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ المَشْيِ فِي الأَرْضِ، فَكَأَنَّ الأَرْضَ قَدْ ضُرِبَتْ بِالأَسْدَادِ عَلَيْهِ، حَيْثُ مُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ:
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بنَسْجِها ..... وقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنَزَّلُ
ونَصَّ عَلى الآذانِ لِأَنَّ النُّومُ إنَّما يَحْصُلُ بِالضَّرْبِ عَلَيْهَا خُصُوصًا. فَالضَّرْبُ عَلَى الْآذَانِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِنَامَةِ لِأَنَّ النَّوْمَ الثَّقِيلَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ السَّمْعِ، فَالسَّمْعَ السَّلِيمَ لَا يَحْجُبُهُ إِلَّا النَّوْمُ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ الصَّحِيحِ فَقَدْ يُحْجَبُ بِتَغْمِيضِ الْأَجْفَانِ. وَهَذِهِ الْكِنَايَةُ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ الكريمِ المُعْجِزِ، فإِنَّها لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ نًزًولِ هَذِهِ الْآيَةِ المُباركةِ. و "فِي الْكَهْفِ" بَيَانٌ لِمَحَلِّ الضَّرْبِ عَلَى آذانِهِمْ بِالنَّوْمِ، وهو "الكَهْفُ"، فَهُوَ ظَرْفٌ مكانٍ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ ظَرْفَ الزَّمَانِ بعدَ ذَلِكَ فَقَالَ: "سِنِينَ عَدَدًا".
قَوْلُهُ: {سِنِينَ عَدَدًا} إِذًا: "سِنِينَ" هُوَ ظَرْفُ مَكانِ الضَّرْبِ عَلَى آذانِهِم. و "عَدَدًا" هُوَ نَعْتُهُ. وَ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْكَثْرَةِ، أَيْ سِنِينَ ذَاتَ عَدَدٍ كَثِيرٍ. وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِ السيِّدَةِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ، أُمِّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها: (فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى غَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ) ذَوَاتِ الْعَدَدِ) تُرِيدُ الْكَثِيرَةَ. وَقَدْ أُجْمِلَ الْعَدَدُ هُنَا تَبَعًا لِإِجْمَالِ الْقِصَّةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} الفاءُ: للعَطْفِ والتَّفْريعِ. و "ضَرَبْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وَ "نَا" التَّعْظيمِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلةِ {قالُوا} مِنَ الجُمْلةِ التي قبلَها عَلى كَوْنِها فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ضَرَبْنا"، و "آذانِهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. وَمَفْعُولُ "ضَرَبْنا" مَحْذوفٌ، والتقديرُ: فَضَرَبْنَا عَلَى آذانِهِمْ فِي الكَهْفِ حِجَابًا مَانِعًا مِنَ السَّمَاعِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ الضَّميرِ في "آذانهم"، لِأَنَّ المُضافَ جِزْءٌ مِنَ المُضَافِ إِلَيْهِ، و "الْكَهْفِ" مجرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "سِنِينَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ مُلْحَقٌ بالجمعِ المُذَكَّرِ السَّالِمِ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِـ "ضَرَبْنَا". و "عَدَدًا" نَعْتٌ لِـ "سِنِينَ" لِأَنَّهُ فِعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ: سِنِينَ مَعْدُودَة. أَوْ هو عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذَواتِ عَدَدٍ، وهوَ حِينَئِذٍ مَصْدَرٌ.