وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} جاءَ في حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ، المُتَقَدِّمِ أَوَّلَ القِصَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ، قالَ في قَوْلِهِ تَعَالى: "وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ": ((كَانَ طُبِعَ ـ يَوْمَ طُبِعَ، كَافِرًا، وَكَانَ قَدْ أُلْقِيَ عَلَيْهِ مَحَبَّةٌ مِنْ أَبَوَيْهِ)). وكانَ يَقْرَأُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأُبَيٌّ رَضِي اللهُ عنهُم: "وَأَمَّا الغُلامُ كانَ كافِرًا وكانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ). وَالتَثْنِيَةُ هُنَا للتَّغْليبِ، وَالمُرادُ بِـ "أَبَوَاهُ"، أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَغَلَّبَ المُذَكَّرَ عَلى المُؤْنَّثِ، وَهُوَ شائِعٌ. وَمِثْلُهُ: "القَمَرَانَ" و "العُمَرانِ". وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَنَّهُ يُرَادُ بِالأَبَوَيْنِ الأَبُ وَالخَالَةُ، فَهَذَا أَقْرَبُ.
قولُهُ: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} فَخَشِينَا: هُنَا بَمَعْنَى: فَكَرِهْنَا، قَالَهُ قُطْرُبٌ والأَخْفَشُ. انْظُرْ كتابَ "مَعَانِي القُرْآنِ" للأَخْفَشِ: (2/620). وَقَالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَجَّاجُ في "مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرَابُهُ" لَهُ: (3/305): (الخَشْيَةُ مِنَ اللهِ: الكَرَاهَةُ، وَمِنَ الآدَمِيِّينَ: الخَوْفُ). وَعَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: فَخَافَ رَبُّكَ "أَنْ يُرْهِقَهُمَا" أَيْ يُرْهِقَ الغُلامُ أَبَوَيْهِ. قَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: (الخَشْيَةُ صَلُحَتْ خَبَرًا عَنِ اللهِ بِمَعْنَى الكَرَاهِيَةِ، فَإِذَا وُصِفَ المَخْلُوقُ بِهَا أَفَادَتْ هَلَعًا وَفَزَعًا، وَإِذَا أُخْبِرَ بِهَا عَنِ الخَالِقِ دَلَّتْ عَلى تَأْويلِ الكَرَاهَةِ، كَمَا كانَ الاسْتِهْزَاءُ مِنَ المَخْلُوقِ سَفَهًا، وَمِنَ الخَالِقِ اسْتِدْرَاجًا). انْظُرْ: "زَاد المَسِير في عُلُومِ التَّفْسيرِ" لِجَمَالِ الدِّينِ أَبي الفَرَجِ عبدِ الرحمنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ محَمَّدِ المَعْروفِ بِابْنِ الجَوْزِيِّ: (5/179)، وَ "الجامِعُ لأَحكامِ القَرْآنِ" للقُرْطُبِيِّ: (11/36)، و "البَحْرُ المُحيطُ" لأَبي حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيِّ: (6/155). وقالَ الفَرَّاءُ في "مَعَانِي القُرْآنِ" لَهُ: (2/157)، مَعْنَاهُ: "فَعَلِمْنَا". وَهوَ قُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، في رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ. وَهِيَ قِراءَةُ أُبَيِّ بْنِ كعبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، إِذْ قَرَأَ: "فَخَافَ رَبُّكَ" انظُرْ "مَعَاني القُرْآنِ" للفَرَّاءِ: (2/157)، وتَفْسيرُ "البَحْرُ المُحِيطُ" للشّيْخِ أَبي حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيِّ: (6/155). عَلَى مَعْنَى: عَلِمَ رَبُّكَ، وَقدْ تَقَدَّمَ في الآيَةِ: 182، مِنْ سُورَةِ البقرةِ، أَنَّ الخَوْفَ بِمَعْنَى: العِلْمِ، وذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ ـ تَعَالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} أَيْ: فَمَنْ عَلِمِ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثمًا.
وَمَعْنَى "يُرْهِقَهُما" يَحْمِلَهُما عَلَى الرَّهَقِ، وَهُوَ الجَهْلُ. و "رَهِقَ" كَ "فَرِحَ": غَشِيَ ولَحَقَ، ويَرْهَقُ رَهَقًا ومِنْ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُم قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} الآية" 26، ورَهِقَهُ رَهَقًا: إِذا دَنا مِنْهُ، وقيلَ: الرَّهَقُ هو السَّفَهُ. وَقِيلَ: هُوَ النَّوْكُ والخِفَّةُ والعَرْبَدَةُ، ورُكُوبُ الشَّرِّ، وَقَالَ الفَرَّاءُ: الرَّهَقَ هوَ الظُّلْمُ، وقِيلَ: هُوَ غِشْيانُ المَحارِم. وقيلَ الرَّهَقُ: مِنَ الإِرْهاقِ أَيْ حَمْلُ الإِنْسانَ عَلى مَالَا يُطِيقُ. والرَّهَقُ أيْضًا: الكَذِبُ. والعَجَلَةُ وفي الحَدِيثِ الشَّريفِ: ((إنَّ في سَيْفِ خالِدٍ رَهَقًا)). و "الرَّهِيقُ" ك "أَمِيرٍ" لُغَةٌ في الرَّحِيقِ بِمَعْنَى الخَمْرِ كما يقولونَ "المَدْح" و "المَدْه". و "الرَّهُوقُ" ك "صَبُورٍ" الناقَةُ الوَساعُ الجَوادُ التي إِذا قدْتَها رَهِقَتْكَ حَتَّى تَكادَ تَطَؤُكَ بِخُفَّيْها. ويَقولونَ: القَوْمُ رُهاقُ مئَةٍ، أَيْ: زُهاؤُها، وَأَرْهَقَهُ طُغْيانًا أَيْ: أَغْشَاهُ إِيَّاهُ، وأَرْهَقَه عُسْرًا، أَيْ: كَلَّفَهُ إِيَّاهُ، وقد تقدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيَةِ: 73، مِنْ هذهِ السُّورَةِ المُباركَةِ: {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} والمُرْهَقُ مَنْ أُدْرِكَ ليُقْتَلَ و "المُرَهَّقُ" المَوْصُوفُ بالرَّهَقِ، وهوَ الجَهْلُ والخِفَّةُ في العَقْل وقِيلَ: هوَ مَنْ يُظَنَّ بِهِ السُّوءُ، أَوْ يُتَّهَم ويُؤَبَّنُ بشَرٍّ أَوْسَفَهٍ، و "المُرَهَّقُ" أَيضًا: مَنْ يَغْشاهُ النَّاسُ كَثِيرًا وتَنْزِلُ به الأَضيافُ قالَ زُهَيْرٌ يَمْدَحُ هَرِمَ بنَ سِنَانٍ:
ومُرَهَّقُ النِّيرانِ يُطْعِمُ في الــ .................... ــلأْواءِ غَيْرُ مُلْعَّنِ القِدْرِ
وَقالَ ابنُ هَرْمَةَ :
خَيْرُ الرِّجالِ المُرَهَقُونَ كَمَا ................... خَيْرُ تِلاع ِالبِلادِ أَوْطَؤُها
وراهَقَ الغُلامُ مُراهَقَةً : قارَبَ الحُلُمَ فَهُوَ مُرَاهِقٌ وَالجَارِيَةُ مُراهِقَةٌ.
والرَّهَقُ ـ أَيْضًا: التُّهمَةُ وَالإِثْمُ والذِّلَّةُ والضَّعْفُ والغَيُّ والفَسَادُ والعَظَمَةُ والكِبْرُ والعَنَتُ واللَّحاقُ والهَلاكُ. والرَّهِقَةُ: المَرْأَةُ الفاجِرَةُ. ويُقال : جارِيَةٌ راهِقَةٌ، وَغُلامٌ راهِقٌ، إذا بَلَغَا العَشَرَةَ إِلى إِحْدَى عَشَرَةَ. ورَجُل رَهِقٌ: مُعْجِبٌ ذُو نَخْوَةٍ. ورَهِقَهُ الدَّيْنُ: غَشِيَهُ وَرَكِبَهُ، وَهوَ منَ المَجازِ. وَقالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ثَعْلَب: "يُرْهِقَهُما": يُغْشِيَهُما. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، المعنى: خَشِينَا أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يَدْخَلَا فِي دِينِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَرِحَا بِهِ حِينَ وُلِدَ، وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَوْ بَقِيَ كانَ فِيهِ هَلاكُهُمَا، فَرَضِيَ امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللهِ، فإِنَّ قَضَاءَ اللهِ لِلْمؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ قَضَائِهِ فِيمَا يُحِبُّ. فَقَدْ بَيَّنَ الخَضِرُ لِمُوسَى أَنَّ قَتْلَ الغُلامِ كانَ لِمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُ اللهِ تَعَالى، فَمَضَى فِيهِ حُكْمُهُ ـ سُبْحانَهُ، لِأَنَّ في بَقَائِهِ فِتْنَةً لِوَالِدَيْهِ، وَفِي إِبْدَالِهِ بِآخَرَ يَخْلُفُهُ سَعَادَةٌ لَهُمَا.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "أَمَّا" حَرْفُ شَرْطٍ. وَ "الْغُلَامُ" مَرْفُوعٌ بالابْتِداءِ. و "فَكَانَ" الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "أَمَّا"، و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ. و "أَبَوَاهُ" اسمُ "كانَ" مرفوعٌ بها، وعلامةُ رفعِهِ الأَلِفُ لأنَّهُ مثنَّى، وهو مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مُؤْمِنَيْنِ" خبرُ "كانَ" منصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ مثنَّى، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفرَدِ. وجُمْلَةُ "كانَ" مِنِ اسْمِهَا وَخَبَرِها فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ "الْغُلَامُ"، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وخَبَرِهِ واقعةٌ جَوَابَ "أَمَّا" وَجُمْلَةُ "أَمَّا" مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَمَّا" منَ الآيةِ التي قَبلَها عَلَى كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ.
قولُهُ: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} الفاءُ: للعَطِفِ، و "خَشِينَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ، و "نَا" الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ، والجُمْلَةُ في مَحلِّ الرَّفُعُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "كانَ". و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ وَمَصْدَرٍ. و "يُرْهِقَهُمَا" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بِهِ وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الوَلَدِ. و "هما" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ، و "طُغْيَانًا" مَنَصوبٌ على أنَّهُ مَفْعولٌ لِأَجْلِهِ، أَو مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الحَالِ المُقَدَّرَةِ. وَ "كُفْرًا" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "أَنْ يُرْهِقَهُما" في مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لـ "خَشِينَا". وَجُمْلَةُ "يُرْهِقَهُمَا" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، والتقدير: فَخَشِينَا إِرْهَاقَهُ إِيَّاهُما طُغْيانًا وَكُفْرًا.
قَرَأَ العامَّةُ: "مُؤْمِنَيْنِ" بالياءِ. وَقَرَأَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وَالجَحْدَرِيُّ "مُؤْمِنانِ" بِالْأَلِفِ. وَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلى لُغَةِ بَنِي الحارِثِ وَغَيْرِهِمْ. ثانِيها: أَنَّ فِي "كَانَ" ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَ "أَبْوَاهُ مُؤْمِنانِ" مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ كَقَوْلِ العُجَيْرِ بْنِ عبْدِ اللهِ السَّلُولِيِّ:
إِذا مِتُّ كانَ النَّاسُ صِنْفانِ شامِتٌ ....... وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنْتُ أَصْنَعُ
فَهَذَا أَيْضًا مُحْتَمِلٌ للوَجْهَيْنِ. والثَّالِثُ: أَنَّ فِي "كانَ" ضَمِيرَ الغُلامِ، أَيْ: فَكانَ الغُلامُ، وَالجُمْلَةُ بَعْدَهُ الخَبَرُ. وَهُوَ أَحْسَنُ الوُجُوهِ.