وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} أي: لَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ صَالِحٍ أَنْ يَصْحَبَنِي، فَيَرَى مِنِّي مَا يُنْكِرُ ولَا يُغَيِّرُهُ لأَنَّهُ مَأْمورٌ بِذَلِكَ. فإِنَّهُ بَعَدَ أَنْ نَفَى الْخَضِرُ ـ عَليْهِ السَّلامُ، في الآيةِ التي قبلَ هَذِهِ اسْتِطَاعَةَ الصَّبْرِ مَعَهُ مؤْكِدًا ذَلِكَ بـ "إِنَّ" وَ "لَنْ"، وَكَأَنَّ اسْتِطاعَةَ الصَّبْرِ مَعَهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْتَقِيمُ، عَلَّلَ ذَلِكَ هُنَا بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى أُمُورًا هِيَ فِي ظَاهِرِهَا يُنْكِرُهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ، فَكَيْفَ النَّبِيُّ فَلَا يَتَمَالَكُ أَنْ يَشْمَئِزَّ لِذَلِكَ، وَيُبَادِرَ بِالْإِنْكَارِ بِـ "وَكَيْفَ تَصْبِرُ" أَيْ: إِنَّ صَبْرَكَ عَلَى مَا لَا خِبْرَةَ لَكَ بِهِ مُسْتَبْعَدٌ، وَفِيهِ إِبْدَاءُ عُذْرٍ لَهُ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ لِمَا يَرَى مِنْ مُنَافَاةِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ شَرِيعَتِهِ.
وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ لَمْ تُحْطْ بِعِلْمِ الغَيْبِ. "الكَشْفُ والبَيَانُ عَنْ تَفْسيرِ القُرْآنِ" لأَبي إِسْحاقَ أَحْمَدٍ الثَّعْلبيِّ: (3/391 أ).
وَقالَ الزَّجَّاجُ أَبُو إِسْحَاق: ثُمَّ أَعْلَمَهُ العِلَّةَ فِي تَرْكِ الصَّبْرِ، فَقَالَ: "وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا" أَيْ: كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا ظَاهِرُهُ مُنْكَرٌ، والأَنْبِياءُ وَالصَّالِحُونَ لَا يَصْبِرونَ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مُنْكَرًا. "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" للزَّجَّاجِ: (3/301).
وَ "خُبْرًا" بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ: مَعْنَاها عِلْمًا. أَيْ: وَأَنْتَ لَا تَستطيعُ الصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِعِلْمِهِ. وَالْإِحَاطَةُ هُنَا: مَجَازٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ العِلْمِ، تَشْبِيهًا لِقُوَّةِ تَمَكُّنِ الِاتِّصَافِ بِالعِلْمِ، بِتَمَكُّنِ الْجِسْمِ الْمُحِيطِ بِمَا أَحَاطَ بِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} الوَاوُ: واوُ الحالِ، وقيلَ للعطْفِ، وَ "كَيْفَ" اسمٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ التَعَجُّبِيِّ مبنيٌّ على الفتحِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى التَشْبيهِ بِالحَالِ مِنْ فَاعِلِ "تَصْبِرُ"، فِي مَعْنَى النَّفْيِ. و "تَصْبِرُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يعودُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. والجُملةُ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنِ كافِ الخِطابِ في قَوْلِهِ "إِنَّكَ" مِنَ الجُمْلَةِ التي قَبْلَها، الذي هٌوَ في محلِّ النَّصْبِ اسْمًا لِـ "إِنَّ" أَوْ مِنْ الضَمِيرِ فِي {تَسْتَطِيعَ}، وقيلَ هي في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "إِنَّكَ" عَلَى كَوْنِهَا مَقَولَ "قالَ"، والأولُ أَرْجَحُ فَالْوَاوُ هنا وَاوُ الْحَالِ، وَلَيْسَتْ وَاوَ الْعَطْفِ لِأَنَّ شَأْنَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ لَا تُعْطَفَ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا كَمَالَ الِاتِّصَالِ إِذِ الثَّانِيَةُ كَالْعِلَّةِ لِلْأُولَى. وَإِنَّمَا أُوثِرَ مَجِيئُهَا فِي صُورَةِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، دُونَ أَنْ تُفْصَلَ عَنِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَتَقَعَ عِلَّةً مَعَ أَنَّ التَّعْلِيلَ هُوَ الْمُرَادُ، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا عِلَّةٌ مُلَازِمَةٌ لِمَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ هِيَ حَالٌ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا. وَ "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "تَصْبِرُ". و "ما" اسمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي" مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "لم" حرفُ جَزْمٍ وقَلْبٍ ونفيٍ. و "تُحِطْ" فعلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بـ "لم" وعلامةُ جزمِهِ السكونُ الظاهرُ على آخِرِهِ، وَقَدْ حُذِفتِ الياءُ مِنْ وسطِهِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِـ "تُحِطْ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "خُبْرًا" مَنْصُوبٌ عَلى التَمييزِ لِنِسْبَةِ الْإِحَاطَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ، أَيْ إِحَاطَةً مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ، وهوَ مَنْقُولٌ مِنَ الفاعِلِيَّةِ، إِذِ الأَصْلُ فيهِ أَنْ يُقالَ: مِمَّا لَمْ يُحِطْ بِهِ خُبْرُكَ. ويَجُوزُ: أَنْ يكونَ مَصْدَرًا لِمَعْنَى لَمْ تُحِطْ، إِذْ هُوُ فِي قُوَّةِ: لَمْ يُخْبِرْهُ خُبْرًا. والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ فلَا مَحَلَّ لهَا مِنَ الإعْرابِ، والعائدُ هو الضميرُ في "بِهِ".
قرَأَ العامَّةُ: {خُبْرًا} بِضَمَّةٍ فَسُكونٍ، وَقَرَأَ الحَسَنُ، وابنُ هرمُز ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، "خُبُرًا" بِضَمَّتَيْنِ.