الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة الكهف الآية: 75
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} عِتَابٌ مِنَ الخَضِرِ لِمُوسَى ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، عَلَى عدَمِ تَنْفيذِهِ الوَصِيَّةَ، وقِلَّةِ الصَّبْرِ التَثَبُّتِ. وكانَ اسْتِغْرابُ مُوسَى شَديدًا هذِهِ المرَّةَ، وَكانَ مَعَ اسْتِنْكَارِهِ وَصْفٌ لَهُ بِالنُّكْرِ، ولِذَلِكَ جاءَ التَذْكِيرُ بِأَنَّهُ لِمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصْبِرَ بِأُسْلُوبٍ أكْثَرَ قُوَّةً وَأَشَدَّ لَوْمًا مِنَ المرَّةِ الأُولى، فَزَادَ فيهِ "لَكَ" حيثُ اللَّامُ فِيهِ للتَّبْلِيغِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى اسْمِ أَوْ ضَمِيرِ السَّامِعِ لِقَوْلٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، نَحْوَ: قَلْتُ لَهُ، وَأَذِنْتُ لَهُ، وَفَسَّرْتُ لَهُ وَذَلِكَ عِنْد مَا يَكُونُ الْمَقُولُ لَهُ الْكَلَامُ مَعْلُومًا مِنَ السِّيَاقِ فَيَكُونُ ذِكْرُ اللَّامِ لِزِيَادَةِ تَقَوِّي الْكَلَامِ وَتَبْلِيغِهِ إِلَى السَّامِعِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ لَامُ التَّبْلِيغِ. وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقَوْلِ. وَإِذْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ مَعْلُومًا مِنْ مَقَامِ الْخِطَابِ كَانَ فِي التَّصْرِيحِ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقَوْلِ تَحْقِيقٌ لِوُقُوعِ الْقَوْلِ وَتَثْبِيتٌ لَهُ وَتَقْوِيَةٌ، وَالدَّاعِي لِذَلِكَ أَنَّهُ أَهْمَلَ الْعَمَلَ بِهِ. وهذا يُفِيدُ المَزَيدَ اللَّوْمِ، إِذ إنَّهُ يُذَكِّرُهُ بِأَنَّ الخِطابَ كانَ لَهُ. وَفِي ذَلِكَ زيادةُ تَوْكِيدٍ وتأْكيدُ لَوْم، لأَنَّ ذلكَ أَفادَ أنَّ الخطابَ هو لهُ خاصَّةً ولَيْسَ لِغَيْرِهِ، بَلْ كانَ لَهُ ابْتِداءُ. والاسْتِفْهَامُ هُنَا هُوَ للإِنْكَارِ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى إِنْكارِ وُقُوعِ الاعتراضِ مِنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَعَ اللَّوْمِ وتَحْقِيقِ القَوْلِ، والمَعْنَى لَقَدْ قُلْتُ لَكَ "إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا. وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِعَدَمِ الاسْتِطَاعَةِ بِالجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ وَ بِـ "إِنَّ" الدَّالَّةِ عَلَى التَوْكِيدِ، وَ بِـ "لَنْ" أَيْضًا المُؤَكِّدَةِ للنَّفْيِ، وَبِتَنْكِيرِ الصَّبْرِ المُفيدِ للتَّعْميمِ، أَيْ صَبْرًا قَلِيلًا كانَ أَوْ كَثِيرًا.
وَلَمْ يَعْتَذِرْ مُوسَى بِالنِّسْيَانِ هُنَا، وَذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسَ، وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ بِدُونِ مُوجِبٍ، عَلَى وَاجِبِ وَفَائهِ بِما الْتَزَمَ بِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ نَسِيَ وَلكنَّهُ أَعَرَضَ عَنِ الِاعْتِذَارِ بِالنِّسْيَانِ لِسَمَاجَةِ تَكْرارِ الِاعْتِذَارِ بِهِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ عَدَلَ إِلَى الْمُبَادَرَةِ بِاشْتِرَاطِ مَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُ صَاحِبِهِ، بِأَنَّهُ إِنْ عَادَ لِلسُّؤَالِ الَّذِي لَا يَبْتَغِيهِ صَاحِبُهُ، فَقَدْ جَعَلَ لَهُ الحَقَّ بِأَنْ لَا يُصَاحِبَهُ بَعْدَهُ أَبَدًا.
وَفِي الْحَدِيثِ المتقدِّمِ روايتُهُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ((كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، وَالثَّانِيَةُ شَرْطًا))، فَاشْتَمَلَ كَلَامُهُ ـ عليْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ)، يَعودُ عَلَى الخَضِرِ عليهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "أَلَمْ" الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَقْرِيرِيِّ المُضَمَّنِ التَوْبِيخَ، وَ "لَمْ" حرفُ جَزْمٍ ونفيٍ وقَلْبٍ. و "أَقُلْ" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِهَا، وعلامةُ جزمِهِ السكونُ الظاهِرُ على آخرِه، وقد حذِفتِ الواوُ مِنْ وسَطِهِ لالتقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيِهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ (أَنَا) يَعُودُ عَلَى الخَضِرِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "لَكَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَقُلْ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} إنَّكَ: "إنَّ" حَرْفٌ نَاصِبٌ ناسَخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مَتَّصِلٌ بِهِ اسِمْهُ في مَحَلِّ النَّصِبِ. وَ "لَنْ" حرفٌ ناصِبٌ. و "تَسْتَطِيعَ" فعلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بِهَا، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) عائدٌ على سيِّدِنا موسَى عَلَيْهِ السَّلامُ. و "مَعِيَ" منصوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الاعتباريَّةِ، وعلامةُ النَّصْبِ فَتْحةٌ مُقَدَّرةٌ على آخِرهِ منعَ مِنْ ظهورها اشْتِغالُ المَحَلِّ بالحركةِ المُنَاسَبَةِ لِيَاءِ المُتَكَلِّمِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "أَقُلْ".