إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} أَوَى: إِلَى الْمَكَانِ أَوْيًا، فَهُوَ آوٍ والمَكانُ مَأْوًى: إِذَا جَعَلَهُ مَسْكَنًا لَهُ. وَ "الْفِتْيَةُ" جَمْعُ فَتًى، أَيْ الشَّابُّ الْمُكْتَمِلُ، وَهُوَ جَمْعُ قِلَّةٍ.
وقدْ أَجْمَلَتْ هذِهِ الآيةُ الكريمةُ قِصَّةَ أَهْلِ الكَهْفِ، للتَنْبِيهِ إِلى أَنَّ قِصَّتَهُمْ لَيْسَتْ أَعْجَبَ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى، وأَنَّ مَا أَكْرَمَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ الْعِنَايَةِ إِنَّمَا كَانَ تَأْيِيدًا لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ.
وَقِصَّةُ أَهْلِ الكَهْفِ وارِدَةٌ في العَديدِ مِنَ الأَخْبارِ المَرْوِيَّةِ عَنْ أَهْلِ العِلْمِ، مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ غَزْوَةَ الْمَضِيقِ نَحْوَ الرُّومِ، فَمَرَرْنَا بِالكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَوْ كُشِفَ لَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ، فَنَظَرْنَا إِلَيْهِم. فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاسٍ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، قَدْ مَنَعَ اللهُ ذَلِكَ عَمَّن هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فَقَالَ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُم فِرَارًا ولَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَعْلَمَ عِلْمَهُمْ. فَبَعَثَ رِجَالًا، فَقَالَ: اذْهَبُوا، فَادْخُلوا الْكَهْفَ فَانْظُرُوا. فَذَهَبُوا، فَلَمَّا دَخَلُوا الْكَهْفَ بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ ريحًا فَأَخْرَجَتْهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ عَنْهُمْ، فَقَالَ: إِنَّهُم كَانُوا فِي مَمْلَكَةِ مَلِكٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ، وَقَدْ أَجْبَرَ النَّاسَ عَلَى عِبَادَتِها، وَكَانَ وَهَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ خَرَجُوا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَجَمَعَهُمُ اللهُ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ لِبَعْضٍ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ أَيْنَ تَذْهَبُونَ؟.
فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُخْفِي عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّهُ لَا يدْرِي هَذَا عَلَى مَا خَرَجَ هَذَا، وَلَا يدْرِي هَذَا. فَأَخَذُوا العُهُودَ وَالمَوَاثِيقَ أَنْ يُخْبِرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى شَيْءٍ وَإِلَّا كَتَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَاجْتَمَعُوا عَلى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {مِرْفَقًا}. قَالَ: فَقَعَدُوا فجَاءَ أَهْلُهُمْ يَطْلُبُونَهُمْ، لَا يَدْرُونَ أَيْنَ ذَهَبُوا، فَرُفِعَ أَمْرُهُمْ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: لَيَكُونَنَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بَعْدَ الْيَوْمِ شَأْنٌ، نَاسٌ خَرجُوا لَا يَدْرِي أَيْنَ ذَهَبُوا فِي غَيْرِ خِيَانَةٍ وَلَا شَيْءٍ يُعْرَفُ.
فَدَعَا بِلَوْحٍ مِنْ رَصَاصٍ فَكُتِبَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ، ثُمَّ طُرِحَ فِي خِزَانَتِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ والرَّقيمِ} والرَّقِيمُ هُوَ اللَّوْحُ الَّذِي كَتَبُوا.
فَانْطَلقُوا حَتَّى دَخَلُوا الْكَهْفَ، فَضَرَبَ اللهُ عَلَى آذانِهِمْ، فَقَامُوا. فَلَو أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ عَلَيْهِم لأَحْرَقَتْهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يُقَلَّبُونَ لَأَكَلَتْهُمُ الأَرْضُ، ذَلِك قَولُ اللهِ: {وَتَرَى الشَّمْسَ ..} الْآيَةَ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْمَلِكَ ذَهَبَ، وَجَاءَ مَلِكٌ آخَرُ، فَعَبَدَ اللهَ، وَتَرَكَ تِلْكَ الْأَوْثَانَ، وَعَدَلَ بَيْنَ النَّاسِ، فَبَعَثَهُمُ اللهُ لِمَا يُرِيدُ: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْمًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْمَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ كَبِيرهمْ: لَا تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْمٌ قَطُّ إِلَّا هَلَكُوا، فَابْعَثُوا أَحَدكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَرَأَى شَارَةً أَنْكَرَهَا، وَرَأَى بُنْيانًا أَنْكَرَهُ. ثُمَّ دَنَا إِلَى خَبَّازٍ، فَرَمَى إِلَيْهِ بِدِرْهَمٍ، وَكَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ كَخِفَافِ الرَّبْعِ ـ يَعْنِي وَلَدَ النَّاقِةِ، فَأَنْكَرَ الخَبَّازُ الدِّرْهَمَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ الدِّرْهَمَ، لَقَدْ وَجَدْتَ كَنْزًا، لَتَدَلّني عَلَيْهِ أَوْ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى الْأَمِيرِ.
فَقَالَ: أَوَ تُخَوِّفُني بِالأَمِيرِ؟. وَأَتَى الدَّهْقَانُ الْأَمِيرَ، قَالَ: مَنْ أَبوكَ قَالَ: فُلَانٌ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ. قَالَ: فَمَنِ الْمَلِكُ؟ قَالَ: فُلَانٌ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ، فَرُفِعَ إِلَى عَالِمِهِمْ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِالَّلوْحِ. فَجِيءَ بِهِ فَسَمَّى أَصْحَابَهُ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَهُمْ مَكْتُوبونَ فِي اللَّوْحِ. فَقَالَ للنَّاسِ: إِنَّ اللهَ قَدْ دَلَّكُمْ عَلَى إِخْوَانكُمْ.
وَانْطَلَقُوا، وَرَكِبُوا حَتَّى أَتَوْا إِلَى الْكَهْفِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْكَهْفِ، قَالَ الْفَتَى: مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ حَتَّى أَدْخُلَ أَنَا عَلَى أَصْحَابِي، وَلَا تَهْجُمُوا فَيَفْزَعُونَ مِنْكُمْ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ قَدْ أَقْبَلَ بِكُمْ، وَتَابَ عَلَيْكُم. فَقَالُوا لَتَخْرُجَنَّ عَلَيْنَا. فَقَالَ: نَعَم، إِنْ شَاءَ اللهُ.
فَدَخَلَ، فَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ ذَهَبَ، وَعُمِّيَ عَلَيْهِمْ، فَطَلَبُوا، وَحَرَّضُوا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الدُّخُولِ عَلَيْهِم. فَقَالُوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَسْجِدًا}، فاتَّخَذُوا عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِم، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُم.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَبْنَاءَ مُلُوكٍ، رَزَقَهُمُ اللهُ الْإِسْلَامَ، فَتَعَوَّذُوا بِدِينِهِمْ، واعْتَزَلُوا قَومَهُمْ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْكَهْفِ، فَضَرَبَ اللهُ عَلَى صِمَاخَاتِهِمْ، فَلَبِثُوا دَهْرًا طَويلًا، حَتَّى هَلَكَتْ أُمَّتًهُمْ، وَجَاءَتْ أُمَّةٌ مُسْلِمَةٌ. وَكَانَ مَلِكُهُمْ مُسْلِمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ والجَسَدِ، فَقَالَ قَائِلٌ: يُبْعَثُ الرُّوحُ والجَسَدُ جَمِيعًا. وَقَالَ قَائِلٌ: يُبْعَثُ الرُّوحُ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَتَأْكُلُهُ الأَرْضُ، فَلَا يَكونُ شَيْئًا. فَشَقَّ عَلَى مَلِكِهِمُ اخْتِلافُهُمْ، فَانْطَلَقَ، فَلَبِسَ المُسُوحَ، وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ، ثُمَّ دَعَا اللهَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، قَدْ تَرَى اخْتِلافَ هَؤُلَاءِ، فَابْعَثْ لَهُمْ آيَةً تُبَيِّنْ لَهُمْ، فَبَعَثَ اللهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ لِيَشْتَرِيَ لَهُمْ طَعَامًا، فَدَخَلَ السُّوقَ، فَلَمَّا نَظَرَ جَعَلَ يُنْكِرُ الْوُجُوهَ، وَيَعْرِفُ الطُّرُقَ، وَرَأَى الْإِيمَانَ ظَاهِرًا بِالْمَدِينَةِ.
فَانْطَلَقَ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ، حَتَّى أَتَى رَجُلًا يَشْتَرِي مِنْهُ طَعَامًا، فَلَمَّا نَظَرَ الرَّجُلُ إِلَى الْوَرِقِ أَنْكَرَهَا، حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: كَأَنَّهَا أَخْفَافُ الرَّبِيعِ ـ يَعْنِي الْإِبِلَ الصِّغَارَ، فَقَالَ الْفَتَى: أَلَيْسَ مَلِكَكُمْ فُلَانٌ؟ قَالَ الرَّجُلُ: بَلْ مَلِكُنَا فُلَانٌ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا حَتَّى رَفَعَهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّكُمُ اخْتَلَفْتُمْ فِي الرُّوحِ والجَسَدِ، وَإِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ آيَةً، فَهَذَا رَجُلٌ مِنْ قَوْمِ فُلَانٍ ـ يَعْنِي مَلِكَهُمُ الَّذِي قَبْلَهُ، فَقَالَ الْفَتَى: انْطَلِقْ بِي إِلَى أَصْحَابِي. فَرَكِبَ الْمَلِكُ، وَرَكِبَ مَعَهُ النَّاسُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ الْفَتَى: دَعُونِي أَدْخُل إِلَى أَصْحَابِي.
فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ وَأَبْصَرَهُمْ ضُرِبَ عَلَى آذانِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَبْطَؤُوهُ، دَخَلَ الْمَلِكُ، وَدَخَلَ النَّاسُ مَعَهُ فَإِذَا أَجْسَادٌ لَا يَبْلَى مِنْهَا شَيْءٌ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا. فَقَالَ الْمَلِكُ: هَذِهِ آيَةٌ بَعَثَهَا اللهُ لَكُمْ، فَغَزَا ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، مَعَ حَبيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَمَرُّوا بِالكَهْفِ، فَإِذا فِيهِ عِظَامٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَذِهِ عِظَامُ أَهْلِ الْكَهْفِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَهَبَتْ عِظَامُهُمْ، أَكَثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِئَةِ سَنَة.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ أَبْنَاءَ عُظَمَاءِ أَهْلِ مَدينَتِهِمْ وَأَهْلِ شَرَفِهِمْ، خَرَجُوا فَاجْتَمَعُوا وَرَاءَ الْمَدِينَةِ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُم ـ هُوَ أَشْبَهُهُمْ: إِنِّي لَأَجِدُ فِي نَفسِي شَيْئًا مَا أَظُنُّ أَحَدًا يَجِدُهُ. قَالُوا: مَا تَجِدُ؟ قَالَ: أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنَّ رَبِّي رَبُّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ.
فَقَامُوا جَمِيعًا فَقَالُوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا، لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}. وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِهِمْ وَأَمْرِهمْ مَا قَدْ ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْكَهْفَ، وعَلَى مَدينَتِهمْ إِذْ ذَاك جَبَّارٌ يُقَالُ لَهُ (دقيوس) فلَبِثُوا فِي الْكَهْفِ مَا شَاءَ اللهُ رُقودًا، ثُمَّ بَعَثَهُمْ اللهُ، فَبَعَثُوا أَحَدَهُمْ لِيَبْتَاعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا خَرَجَ، إِذا هُمْ بِحَظِيرَةٍ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ، فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ هَهُنَا عَشِيَّةَ أَمْسِ، فَسَمِعَ كلَامًا مِنْ كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ أَسْلَمُوا بَعْدَهُمْ، وَمَلَكَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى مَدينَتِهِ الَّتِي خَرَج مِنْهَا، وَإِلَى مَدينَتَيْنِ وجاهَهَا أَسْماؤُهُنَّ: (إِقْسُوس)، و (إِيديوس)، وَ (شامُوس)، فَيَقُولُ: مَا أَخْطَأْتُ الطَّرِيقَ، هَذِهِ (إِقْسُوس)، و (إِيديوس)، و (شاموس). فَعَمَدَ إِلَى مَدينَتِهِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا، ثُمَّ عَمَدَ حَتَّى جَاءَ السُّوقَ، فَوَضَعَ وَرِقَةً فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَظَرَ، فَإِذا وَرِقٌ لَيْسَتْ بِوَرِقِ النَّاسِ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ وَهُوَ خَائِفٌ، فَسَأَلَهُ وَقَالَ: لَعَلَّ هَذَا مِنَ الْفِتْيَةِ الَّذينَ خَرَجُوا عَلَى عَهْد (دِقيوس) فَإِنِّي قَدْ كُنْتُ أَدْعُو اللهَ أَنْ يُرينِيهِمْ، وَأَنْ يُعْلِمَني مَكانَهم.
ودَعَا مَشْيَخَةَ أَهْلِ الْقرْيَةِ ـ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ عِنْدَهُ أَسْمَاؤُهُم، وأَنْسَابُهُمْ، فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ، فَسَأَلَ الْفَتَى، فَقَالَ: صَدَقَ. وَانْطَلَقَ الْمَلِكُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ مَعَهُ، لِأَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْكَهْفِ، سَمِعَ الْفِتْيَةُ حِسَّ النَّاسِ، فَقَالُوا: أُتِيتُمْ، ظُهِرَ عَلَى صَاحِبِكُم، فَاعْتَنَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَجَعَلَ يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِدِينِهم. فَلَمَّا دَنَا الْفَتَى مِنْهُم، أَرْسَلُوهُ، فَلَمَّا قَدِمَ إِلَى أَصْحَابِهِ، مَاتُوا عِنْدَ ذَلِكَ مِيتَةَ الْحَقِّ.
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ، شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِم أَحْيَاءً، وَقَالَ: لَا أَدْفُنَهُمْ إِذًا، فائْتُوني بِصُنْدوقٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَأَتَاهُ آتٍ مِنْهُم فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تَجْعَلَنَا فِي صُنْدوقٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَا تَفْعَلْ، وَدَعْنَا فِي كَهْفِنَا، فَمِنَ التُّرَابِ خُلِقْنَا، وَإِلَيْهِ نَعُودُ. فَتَرَكَهُمْ فِي كَهْفِهِمْ، وَبَنَى عَلى كَهْفِهِمْ مَسْجِدًا. وكَمَا تَرَى فَإِنَّ القِصَّةَ واحِدَةٌ، وإِنَّما اخْتَلَفَ أُسْلوبُ القَصِّ فيما بَيْنَ الرُّواةِ.
وجاءَ فِي (الرَّوْضِ الْأُنُفِ) للإِمامِ السُّهَيْلِيِّ قَولُهُ: (وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ مِنْ أُمَّةٍ عَجَمِيَّةٍ، وَالنَّصَارَى يَعْرِفُونَ حَدِيثَهُمْ، ويُؤَرِّخونَ بِهِ). غَيْرَ أَنَّ مَا تقدَّمِ ذَكَرُهُ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ مِنْ عِلْمِ الْيَهُودِ بِأَهْلِ الْكَهْفِ، وَجَعْلِهِمُ الْعِلْمَ بِأَمْرِهِمْ أَمَارَةً عَلَى نُبُوءَةِ ـ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسِلَّمَ، يُبْعِدُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْكَهْفِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ فَإِنَّ الْيَهُودَ يَتَجَافَوْنَ عَنْ كُلِّ خَبَرٍ فِيهِ ذِكْرٌ لِلْمَسِيحِيَّةِ، واللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قولُهُ: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} تدُلُّ الْفَاءُ فِي هُنَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ بَادَرُوا بِالِابْتِهَالِ إِلَى اللهِ تعالى أَنْ يُؤْتِيَهُمْ رَحْمَةً مِنْ لَدُنْهُ، أَيْ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ تُنَاسِبُ عِنَايَتَهُ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَذَلِكَ الدُعاءُ جَامِعٌ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وزِيَادَةُ "مِنْ لَدُنْكَ" لِلتَّعَلُّقِ بِفِعْلِ الْإِيتَاءِ تُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي "مِنْ" مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَفِي "لَدُنْ" مَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ وَالِانْتِسَابِ بالعُبُوديَّةِ إِلَيْهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَذَلِكَ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ أَنَّهم قَالُوا: آتِنَا رَحْمَةً، لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ بِمَحَلِّ الرَّحْمَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ سَأَلُوا رَحْمَةً خَاصَّةً وَافِرَةً، فِي حِينِ تَوَقُّعِ ضِدِّهَا، وَقَصَدُوا الْأَمْنَ عَلَى إِيمَانِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، لِئَلَّا يُلَاقُوا فِي اغْتِرَابِهِمْ خَوْفًا ومَشَقَّةً وعَذابًا وَأَلَمًا، وَأَنْ لَا يُهِينَهُمْ أَعْدَاءُ اللهِ والدِينِ، فَيَصْبِحُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الْكَافِرِينَ الظالِمينَ.
قولُهُ: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أيْ أَنَّهم سَأَلُوا اللهَ رَبَّهم أَنْ يُقَدِّرَ لَهُمْ أَحْوَالًا تَكُونُ عَاقِبَتُهَا حُصُولَ مَا خَوَّلَهُمْ بِهِ، مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَالنَّجَاةِ مِنْ مُنَاوَأَةِ الْمُشْرِكِينَ ومُعاداتِهم لَهُمْ. فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بِالتَّهْيِئَةِ الَّتِي هِيَ إِعْدَادُ أَسْبَابِ حُصُولِ الشَّيْءِ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} إِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ والتَقْديرُ: اذْكُرْ إِذْ أَوَى. وَ "أَوَى" فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ. و "الْفِتْيَةُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وَ "إلى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَوَى"، وَ "الكَهْفِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ، بالإِضَافَةِ إِلى "إِذْ"، والجُمْلَةُ الفِعْليَّةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} الفاءُ: عاطِفَةٌ. و "قالوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بِواوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَوَى" عَلى كَوْنِها فِي مَحَلِّ الجَرِّ، بالإِضَافَةِ إِلى "إِذْ". وَ "رَبَّنا" مُنَادَى مُضَافٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في محلِّ النَّصْبِ على النِّداءِ، و "نا" ضميرُ جماعةِ المُتَكَلِّمينَ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَجُمْلَةُ النِّداءِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قالوا". "آتِنَا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذفِ حرْفِ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أَنْتَ) يعودُ على "ربَّنا"، و "نَا" ضميرُ جماعةِ المُتَكَلِّمينَ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِأَنَّ "آتِنَا" بِمَعْنَى أَعْطِنَا، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قالوا" عَلَى كَوْنِهَا جَوابَ النِّداءِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "رَحْمَةً"، و "لَدُنْكَ" اسْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِل بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "رَحْمَةً" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصُوبٌ لِـ "آتِنَا".
قولُهُ: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "هَيِّئْ" فِعْلُ دُعاءٍ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ الظاهِرِ عَلى آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى "رَبَّنا"، و "لَنَا" اللامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "هَيِّئْ"، و "نَا" ضَمِيرُ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمِينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "آتِنا" عَلَى كونِها في محلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قالوا". و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "رَشَدًا"، و "أَمْرِنَا" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، "نَا" ضَمِيرُ جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمِينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إليْهِ، وَ "رَشَدًا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ.
قَرَأَ العامَّةُ: {وَهَيِّئْ} بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الياءِ المُشَدَّدَةِ، وقرأَ أَبو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، والزُّهْرِيُّ "وهَيِي" بِيَاءَيْنِ: الثانِيَةُ منهما خَفِيفَةٌ، وَكَأَنَّهُ أَبْدَلَ الهَمْزَةَ يَاءً، وَإِنْ كانَ سُكونُها عَارِضًا. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قرَأَ "وَهَيَّ" بِيَاءٍ واحِدةٍ مُشَدَّدَةٍ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ حَذَفَ الهَمْزَةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ تَخْفِيفًا، وَأَنْ يَكونَ أَبْدَلَهَا كَمَا فَعَلَ أَبُو جَعْفَر، ثُمَّ أَجْرَى الياءَ مُجْرَى حَرْفِ العِلَّةِ الأَصْلِيِّ فَحَذَفَهُ، وَإِنْ كانَ الكَثِيرُ خِلافَهُ، وَمِنْهُ قولُ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
جَرِيْءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ ........... سَريعًا وَإِلَّا يُبْدَ بِالظُلْمِ يَظْلُمِ
قرأَ العامَّةُ: {رَشَدًا}، بِفَتْحِ الرَّاءِ والشِّينِ. وَقَرَأَ أَبو رَجَاءٍ: "رُشْدًا" بِضَمِ الرَّاءِ وَسُكونِ الشِّينِ. وَقِراءِةُ العامَّةِ هُنَا أَلْيَقُ لِتُوَافِقَ الفَوَاصِلَ.