إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} مَكَنَّا لَهُ: أَيْ أَعْطَيْنَاهُ الإِمْكانَاتِ وَالقُدُراتِ الَّتي يَسْتَطِيعُ بِهَا أَنْ يُصْرِّفَ كُلَّ أُمُورِهِ التي يُريدُهَا؛ لأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى تَصْريفِ الأُمُورِ بِحَسَبِ المِنْهَجِ المكلَّفِ بِهِ مِنَ اللهِ ـ تعَالى، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ سيِّدِنا يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} الآيةَ: 56، مِنْ سُورَةِ يوسف. فقد ذَكَرَ ابْنُ كَثيرٍ والبَغَوِيُّ في تَفْسيرَيْهِمَا أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عليًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: (سَخَّرَ اللهُ لَهُ السَّحَابَ فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا، وَمَدَّ لَهُ فِي الأَسْبَابِ، وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ، وَكانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاء). وَهَذَا مَعْنَى التَمْكينِ لَهُ فِي الأَرْضِ، فقد سَهَّلَ عَلَيْهِ المَسيرَ فِيهَا، وَذَلَّلَ لَهُ طُرُقَها، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْها أَنَّى شاءَ.
يُقَالُ: مَكَّنَهُ إِذَا جَعَلَهُ قادرًا وَقوِيًّا، وَمَكَّنَ لَهُ: أَيْ جَعَلَ لَهُ قُدْرَةً وَقُوَّةً، ولِتَلَازُمِهما فِي الوُجُودِ، وَتَقَارُبِهِمَا فِي المَعْنَى فإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُما فِي مَحَلِّ الآخَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} الآيةَ: 6، والتَمْكِينُ لذي القَرْنَيْنِ فِي الأَرْضِ يَعْنِي فِيمَا يَعْنِيهِ النُّبُوَّةَ، لِأَنَّ العُمُومُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: "وآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" يَقْتَضَي أَنَّ الدِّينِ دَاخِلٌ فِي هَذَا التَمْكِينِ دُخولًا أَوَّلِيًّا، وَالتَّمْكِينُ الْكَامِلُ فِي الدِّينِ هُوَ النُّبُوَّةُ، فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتي يَقْتَضَيهَا هَذَا الْعُمُومِ. إِذًا فقدْ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى سَبَبًا فِي النُّبُوَّةِ. وهو المرويُّ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ، والحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُما، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: ذُو القَرْنَيْنِ نَبِيٌّ. وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: كانَ نَبِيًّا، وَدَليلُهُ قَولُهُ تَعَالى فِي الآيَةِ: 86، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}؛ قالَ الحَسَنُ: وهَذَا تَحْكيمٌ مِنَ اللهِ إِيَّاهُ فِيمَا ذُكِرَ، وَلَا يُوَلِّي الحُكْمَ إِلَّا مَنْ كانَ نَبِيًّا. وَكَذَلِكَ فإِنَّ الَّذِي يُكَلِّمُهُ اللهُ تَعَالَى لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، واللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ أَسْبَابًا تُوصِلُهُ إِلَى كُلِّ مَا يُريدُ، فَلَا يُريدُ شَيْئًا إِلَّا هَيَّأَ اللهُ لَهُ الوَسَيلَةَ المُوصِلَةَ إِلَيْهِ. قالَ أَبو العبَّاسِ المُبَرِّدُ: وَكُلُّ مَا وَصَلَ شَيْئًا بِشَيْءٍ فَهُوَ سَبَبٌ. فَالسَّبَبُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هوَ: الْحَبْلِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ يَشمَلُ هُنَا الْعِلْمَ، وَالْقُدْرَةَ، وَالْآلَةَ المُسْتَخْدَمَةَ فِي بُلوغِ المَقْصُودِ، والوصولِ إِلَى الهَدَفِ المَنْشُودِ.
ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَبِيًّا، قَالُوا: وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ النُّبُوَّةُ ـ كما تَقَدَّمَ، لأَنَّ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ، قَدْ أَعْطَاهُ الطَّرِيقَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُ إِلَى تَحْصِيلِ النُّبُوَّةِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ نَبِيًّا قَالُوا: الْمُرَادُ بِقولِهِ: "وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي إِصْلَاحِ مُلْكِهِ سَبَبًا، إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} إِنَّا: "إِنَّ" حَرْفٌ نَاصْبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، وَ "نَا" ضميرُ المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُها. وَ "مَكَّنَّا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ، وَمَفْعُولُ "مَكَّنَّا" مَحْذُوفٌ والتَقْديرُ: مَكَّنَّا لَهُ أَمْرَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ إِنَّ: مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ الذِّكْرِ المَتْلُوِّ عَلَيْهِمِ. وَ "لَهُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "مَكَّنَ" والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلّقٌ بـ "مَكَّنَ" أَيْضًا، و "الْأَرْضِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "آتَيْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ بالمَفْعُوليَّةِ كونَهُ مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ للإيتاءِ. والجملةُ في محلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "مَكَّنَّا". و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ سَبَبًا لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، و "كُلِّ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، و "شيْءٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ. و "سَبَبًا" مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ "آتَيْنَا".
قَرَأَ الجُمْهُورُ: {فَأَتْبَعَ} بِهمزةِ قَطْعٍ فوقَ الْأَلِفِ وَسُكُونِ التَّاءِ مُخَفَّفَةً. وقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "فَاتَّبَعَ" بِالْوَصْلِ وتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَكَذَلِكَ "ثُمَّ اتَّبَعَ" أَيْ سَلَكَ وَسَارَ.