أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} غَوْرًا: أَيْ، أَوْ يُصْبِحَ ماؤها غائرًا في أَعْماقِ الأَرْضِ، فَتَهْلِكَ بِذَهابِ المَاءِ منها؛ وإِنَّما يَكونُ هَلاكُ البَسَاتِينِ بِذَهَابِ مَائِها وجفافِهِ، أَوْ بَالغَضَبِ النَّازِلِ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ ريحٍ محرِقةٍ وغيرِ ذَلِكَ. وجَميعُ أَهْلِ المَعَانِي: عَلَى أَنَّ الغَوْرَ هَهُنا بِمَعْنَى: الغائرِ، فقدْ أُقيمَ المَصْدَرُ مقامَ الصِّفَةِ للمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقولُ: فلانٌ وَجْهُهُ نُورٌ سَاطِعٌ، وَعَلَيهِ: مَاءٌ غَوْرٌ، ومِياهُ غُورٌ، كَمَا يُقالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ. وَلَا يُثَنَّى، ولا يُجْمَعُ، ولا يُؤَنَّث، فَتَقولُ: رَجُلٌ نَوْمٌ، ورَجُلٌ صَوْمٌ، وَرَجُلٌ فِطْرٌ، ورَجَالٌ نَوْمُ، ونِسَاءٌ نَومٌ، وَنِسَاءٌ صَوْمٌ. ويُقَالُ أَيْضًا للنِّسَاءِ إِذا نُحْنَ: نَوْحٌ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالتَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ. قَالَ الشاعرُ الجاهليُّ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ منْ قصيدتِهِ الشهيرةِ التي يفاخرُ بها بصفاتِ قومهِ وسجاياهم وبُطولاتِهم:
تَظَلُّ جِيَادُهُ نَوْحًا عَلَيْهِ ........................... مُقَلَّدَةً أَعِنَّتُهَا صُفُونًا
وقالَ الشاعِرُ الجاهِلِيٌّ صَخْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الخَيْثَمِيِّ الهُذَليُّ، المُلَقَّبُ بِصَخْرِ الغَيِّ:
وَذَكَّرَني بُكايَ عَلَى تَلِيدٍ ................... حَمَامٌ جَاوَبَتْ نَوْحًا حَمَامَا
تُرَجِّعُ مَنْطِقًا عَجَبًا وَأَوْفَتْ ..................... كَنَائِحَةٍ أَتَتْ نَوْحًا قِيَامًا
أَيْ نَائِحَاتٍ. والمَعْنَى: يَذْهَبُ مَاؤُها غَائِرًا فِي الأَرْضِ، أَيْ: ذَاهِبًا فِيها. وَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: "غَوْرًا" إِذَا غَوَّرَ، فسَقَطَ المُضافُ، وَخَلَفَهُ المُضافُ إِلَيْهِ، والمُرادُ بالطَّلَبِ هَهُنَا: الوُصُولُ، فَقَامَ الطَّلَبُ مَقَامَهُ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ. وَقِيلَ: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا ذَا غَوْرٍ، فَحُذِفَ المُضافُ، كقولِهِ تعالى منْ سُورةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} الآيةَ: 82، ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَاءٌ غَوْرٌ. وَقَدْ غَارَ المَاءُ يَغُورُ غَوْرًا وَغئورًا، أَيْ سَفُلَ فِي الْأَرْضِ. وَغَارَتْ عَيْنُ الرجُلِ تَغُورُ غَوْرًا وغئورًا، دَخَلَتْ فِي الرَّأْسِ. وَغَارَتْ تَغَارُ لُغَةٌ فِيهِ. وَقَالَ الشاعِرُ عَمْرُو بْنُ أَحْمَرَ الباهِلِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
وسائلَةٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ عَنِّي ..................... أَغَارَتْ عَيْنُهُ أَمْ لَمْ تَغَارَا
وَغَارَتِ الشَّمْسُ تَغُورُ غِيَارًا، أَيْ غَرَبَتْ. ومِنْ ذلكَ قَولُ الشَّاعِرِ أَبُي ذُؤَيْبٍ الهُذَليُّ:
هَلِ الدَّهْرُ إِلَّا لَيْلَةً وَنَهَارُهَا .............. وَإِلَّا طُلُوعُ الشَّمْسِ ثُمَّ غِيَارُهَا
قوْلُهُ: {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} أَيْ: لَنْ تَسْتَطِيعَ رَدَّ الْمَاءِ الْغَائِرِ، وَلَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ، وَلَنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِ بِحِيلَةٍ. ولَنْ تَتَمَكَّنَ من اسْتِخْراجِهِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسائِلِكَ، ولنْ يَبْقى لَهُ أَثَرٌ تَطْلُبُهُ بِهِ، وَلنْ تَنَالَهُ الأَيْدي وَلَا الدِّلاءُ والأَرْشِيَةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى في الآيَةِ: 30، مِنْ سُورةِ المُلْكِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ}. وَقِيلَ: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ طَلَبَ غَيْرِهِ بَدَلًا مِنْهُ. وَهَكذَا انْتَهَتْ المُناظَرَةُ فيما بَيْنَهُما بهذا والإنْذارِ المُخِيفِ والتحذيرِ الشديدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أَوْ: حرفُ عَطْفٍ للتَنْويعِ. و "يُصْبِحَ" فعلٌ مُضارعٍ ناقصٌ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلى {يُرْسِلَ}. وَ "ماؤُها" اسْمُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلٍّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "غَوْرًا" خَبَرُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، والجملةُ في محلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ {يُرْسِلَ} مِنَ الآيةِ: 40، السابقةِ عَطْفًا عَلَى كَوْنِهَا في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "أَنْ" عَطْفًا على جملةَ {أنْ يؤْتيَني}. قَالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّان الأَنْدَلُسِيُّ: وَ "أَوْ يُصْبِحَ" عطفٌ على قولِهِ: {ويُرْسِلَ} لأَنَّ غُؤُوْرَ الماءِ لا يَتَسَبَّبُ عَنْ الآفةِ السَّمَاويَّةِ، إِلَّا إِنْ عَنَى بالحُسْبَانِ القَضَاءَ الإِلهيَّ، فحِينَئِذٍ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ إِصْباحُ الجَنَّةِ {صَعيدًا زَلَقًا}، أَوْ إِصَبَاحُ مَائِها "غَوْرًا".
قولُهُ: {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} الفاءُ: حرفُ للعَطْفِ والتعقيبِ. وَ "لَنْ" حَرْفٌ ناصِبٌ. و "تَسْتَطِيعَ" فعلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ "لَنْ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى صَاحِبِ الجَنَّةِ. و "لَهُ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "طَلَبًا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "طَلَبًا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يُصْبِحَ" على كونِها في محلِّ النَّصْبِ.
قرأَ الجُمْهُورُ: {غَوْرًا}، بفتحِ الغَيْنِ. مِنْ غارَ الماءُ يَغُورُ غَوْرًا، إذا غاضَ وَذَهَبَ فِي الأَرْضِ. وَقَرَأَ البَرْجَمِيُّ، وأَبُو المُتَوَكِّلِ، وَأَبُو الجَوَزَاءِ وطائفةٌ مِنَ القرَّاءِ "غُؤُورًا" بِضَمِّ الغَيْنِ وَالهَمْزَةِ وَوَاوٍ سَاكِنَةٍ. مِثْلُ: جَلَسَ جُلوسًا، وهيَ لُغَةٌ فِي المَصْدَرِ.