وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنَى: الِاعْتِقَادِ، لأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى الظَّنُّ بِأَمْرٍ ثَبَتَ الظَّنُّ بِضِدِّهِ. وَ "قائمَةً" وَاقِعَةً، فَقَدْ انْتَقَلِ إِلَى إِنْكارِ البَعْثِ للحِسَابِ والجَزَاءِ بَعَدَ المَوْتِ، بَعْدَ إِنْكارِهِ خَرَابَ جَنَّتِهِ وهلاكَها وفَنَاءَهَا، مُصَرِّحًا لِصاحِبِهِ بِكُفْرِهِ، وعدَمِ اعْتِقادِهِ بِفَنَاءِ الدُّنْيا، وَقيامِ السَّاعَةِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (أَنْكَرَ البَعْثَ والثَّوابَ والعِقَابَ). وَقالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: (أَخْبَرَ أَخَاهُ بِكُفْرِهِ بالسَّاعَةِ، وَبِكُفْرِهِ بِفَنَاءِ الدُّنْيَا) مَعاني القُرْآنِ وإعرابُهُ: (3/285).
قوْلُهُ: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} الْمُنْقَلَبُ: الْمَكَانُ الَّذِي يُنْقَلَبُ إِلَيْهِ، أَيْ يُرْجَعُ. فإنَّهُ قاسَ الآخِرَةَ عَلى الدُنْيَا، فَظَنَّ أَنَّ مَا كانَ لَهُ مِنْ رِزْقٍ فِي دُنْيَاهُ لَمْ يُكُنْ إِلَّا لِكَرَامَةٍ فِي نَفْسِهِ، يَمْتَازُ بِها، ونِعْمَةٍ يَسْتَوْجِبُها، فَقَالَ: فَإِنْ كانَ ثَمَّ رُجُوعٌ، فَسَتَكونُ حالِي كَذَا وَكَذَا. فقد أَشْبَهَ اليَهُودَ فِي غُرُورِهم وعقائدِهِمُ الفاسِدةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (يُريدُ إِنْ كانَ البَعْثُ حَقًا) "لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا" يُريدُ: كَمَا أَعْطَاني هَذَا فِي الدُنْيا سَيُعْطِينِي فِي الآخِرِةِ أَفْضَلَ مِنْهُ لِكَرَامَتِي عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (شَكَّ، ثُمَّ قَالَ عَلَى شَكِّهِ فِي الرُّجُوعِ إِلَى رَبِّهِ: مَا أَعْطاني هَذَا إِلَّا وَلِي عِنْدَهُ خَيْرٌ مِنْهُ). تَهَكُّمًا سَوَّلَتْهُ لَهُ نَفْسُهُ). وهَذَاَ مِنْهُ تَهَكُّمٌ بِصَاحِبِهَ وَنَصَائحِهِ لَهُ التي مَحَّضَهُ إِيَّاها، وَهُوَ كَقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، لِخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَيَكُونَنَّ لِي مَالٌ هُنَالِكَ فَأَقْضِيَكَ دَيْنَكَ مِنْهُ. وَقَدْ أَكَدَّ كَلَامَهُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ مُبَالَغَةً فِي التَّهَكُّمِ. وهذا كقولِهِ تَعَالَى في الآيَةِ: (50)، مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}.
قولُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "ما" نَافِيَةٌ. و "أَظُنُّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنا) يَعُودُ عَلى الدَّاخِلِ جَنَّتُهُ، وَالجُمْلَةُ في مَحلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ {مَا أَظُنُّ} الأُولَى عَلَى كَوْنِهِا في محلِّ النَّصْبِ بالقولِ. و "السَّاعَةَ قائِمَةً" مَفْعُولانِ لِـ "أَظُنُّ" مَنْصُوبانِ بِهِ.
قوْلُهُ: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} الواوُ: عَاطِفَةٌ، وَاللَّامُ: مُوْطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٍ. و "رُدِدْتُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌ للمجهولِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والتاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ فِي محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "إِلى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رُدِدْتُ" وَ "رَبِّي" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى مَا قَبْلِ يَاءِ المُتَكَلِّم، وهو مُضافٌ، والياءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. والجُمْلَةُ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفً عَلَى جُمْلَةِ "ما أَظُنُّ".
قولُهُ: {لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} اللَّامُ: وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ القَسَمِ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى. وَ "أَجِدَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوْكِيدِ الثَّقيلَةِ، والنُّوُنُ المُشَدَّدةُ للتَوْكيدِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعودُ عَلى الداخِلِ جنَّتَهُ. و "خَيْرًا" مَفْعُولٌ بِـ "أَجدَنَّ" مَنْصوبٌ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ "وَجَدَ" بِمَعْنَى أَصَابَ. و "مِنْها" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَيْرًا"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وَهذا الضَمِيرُ عائدٌ لِلْجَنَّتَيْنِ عَوْدًا إِلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ تَفَنُّنًا فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ "مِنْهُمَا" بِالتَّثْنِيَةِ. و "مُنْقَلَبًا" منصوبٌ على التَمْيِيزِ لـِ "خَيْرًا"، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ القَسَمِ كَمَا هِيَ القَاعِدَةُ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ في أَلْفِيَّتِهِ:
وَاحْذُفْ لَدَى اجْتِماعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ......... جَوابَ مَا أَخَّرْتَ فَهُوَ مُلْتَزَمْ
والتَقْديرُ: إِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي أَجِدُ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةُ هِيَ جُملةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنِ القَسَمِ وَجَوَابِهِ ولذلك فليسَ لها مَحَلَّ مِنَ الإعْرابِ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {خَيْرًا مِّنْهَا} بِالتَثْنِيَةِ، نَظَرًا إِلَى الأَصْلِ فِي قَوْلِهِ: {وكانَ لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} وقولِهِ: {كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها}، وقدْ رُسِمَتْ فِي مَصَاحِفِ الحَرَمَيْنِ والشَّامِ بالمِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العلاءِ، والكوفِيوُّنَ، وَعَاصِمٌ، وَالأَخَوانِ: (حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ)، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: "مِنْها" بِالْإِفْرَادِ جَرْيًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} وَقَوْلِهِ: {أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ}. وَهِيَ في مَصَاحِفِ العُرَاقِ دُونَ مِيمٍ. فَإنَّ كُلًّا مِنَ الفَريقينِ قَدْ وَافَقَتْ قراءَتُهُ رَسْمَ مُصْحَفِهِ.