وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
قولُهُ ـ جلَّ وعَلَا: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أَيْ: وَمَا مِنْ قَرْيَةٍ مِنَ القُرَى "إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القَيَامَةِ" بِإِمَاتَةِ أَهْلِهَا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ، فَالْقَرْيَةُ الصَّالِحَةُ إِهْلَاكُهَا بِالْمَوْتِ، وَالْقَرْيَةُ الطَّالِحَةُ إِهْلَاكُهَا بِالْعَذَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، والظاهِرُ العُمُومُ، فَـ "إِنْ" نَافِيَةٌ، وَ "مِنْ" زَائِدَةٌ لاسْتِغْراقِ الجِنْسِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفُ الصِّفَةِ، فالْمَعْنى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ظَالِمَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا .. . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ شُمُولَ ذَلِكَ الْقُرَى الْمُؤْمِنَةَ، عَلَى مَعْنَى أَنْ لَا بُدَّ لِلْقُرَى مِنْ زَوَالٍ وَفَنَاءٍ فِي سُنَّةِ اللهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَارِضٌ لِآيَاتٍ أُخْرَى، وَلِأَنَّهُ مُنَافٍ لِغَرَضِ تَحْذِيرِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ. يَدُلُّ عَلَى هَذَا الحذْفِ عَدَدٌ مِنْ آيَاتِ الذكْرِ الحَكيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ الأَنْعامِ: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} الآيةَ: 131، أَيْ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تُنْذِرَهُمُ الرُّسُلُ فَيَكْفُرُوا بِهِمْ وَبِرَبِّهِمْ، وَكقَوْلِهِ مِنْ سورةِ هُود: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} الآيةَ: 117، وكقولِهِ مِنْ سُورةِ القَصَصِ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} الآيةَ: 59، وَكقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الطَّلاق: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} الآيتانِ: (8 و 9).
وَحَذْفُ النَّعْتِ مَعَ وُجُودِ أَدِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ كَثِيرٌ فِي القُرْآنِ الكَريمِ والشعرِ العربيِّ، فَمِنَ القُرآنِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَة: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} الآية: 71، أَيْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الْوَاضِحِ الَّذِي لَا لَبْسَ مَعَهُ فِي صِفَاتِ الْبَقَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ، وقولُهُ مِنْ سُورَةِ الكَهْف: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} الآيةَ: 79، أَيْ: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، بِدَلِيلِ أَنَّ خَرْقَ الْخَضِرِ ـ لِلسَّفِينَةِ الَّتِي رَكِبَ فِيهَا هُوَ وَمُوسَى يُرِيدُ بِهِ سَلَامَتَهَا مِنْ أَخْذِ الْمَلِكِ لَهَا، لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْمَعِيبَةَ الَّتِي فِيهَا الْخَرْقُ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الصَّحِيحَةَ، وَمِنْ حَذْفِ النَّعْتِ في الشِعْرِ الْعَرَبِيِّ قَوْلُ الشاعِرِ الْمُرَقَّشِ الْأَكْبَرِ:
وَرُبَّ أَسِيلَةِ الْخَدَّيْنِ بِكْرٍ ....................... مُهَفْهَفَةٍ لَهَا فَرْعٌ وَجِيدُ
أَيْ فَرْعٌ فَاحِمٌ وَجِيدٌ طَوِيلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَبِيدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:
مَنْ قَوْلُهُ قَوْلٌ وَمَنْ فِعْلُهُ .......................... فِعْلٌ وَمَنْ نَائِلُهُ نَائِلُ
أَيْ قَوْلُهُ قَوْلٌ فَصْلٌ، وَفِعْلُهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ، وَنَائِلُهُ نَائِلٌ جَزِيلٌ. فإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَحَدَّى مُشْركي قريشٍ في الآيةِ: 56، السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولا تحويلًا}، ثُمَّ عَرَّضَ بِتَهْدِيدِهم في الآيَةِ: 57، بِقَوْلِهِ: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا}، جَاءَ هنا بِصَرِيحِ التَّهْدِيدِ بِأَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ مِثْلِ قَرْيَتِهِمْ، وتُشْبهُها فِي شِرْكِها لَا يَعْدُوها عَذَابُ الاسْتِئْصالِ، وَهُوَ سَيَأْتِي عَلَى الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا، أَوْ عَذَابُ الِانْتِقَامِ بِالسَّيْفِ، وَالذُّلِّ وَالْأَسْرِ، وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ، وَسَيَأْتِي عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِثْلَ ما حَدَثَ لِصَرْعَى بَدْرٍ، وذَلِكَ كُلُّهُ فِي الدُّنْيَا.
قوْلُهُ: {أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} قالَ قتادةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فيما أخرجهُ الطَبَرِيُّ في تفسيرِهِ: (15/107)، أَيْ: يُهْلِكُهَا بِعَذَابٍ مُسْتَأْصِلٍ إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ، وكَذَّبُوا رُسُلَهُ. وأَخْرَجَ أيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي أَهْلِ قَرْيَةٍ أَذِنُ اللهُ فِي هَلَاكِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، في هَذِهِ الآيَةِ: فَهَلْكُ أَهْلِهَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ، أَوْ يُعَذِّبُهمْ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِأَهْلِ مَكَّةَ؛ عَذَّبَهمْ بِالجُوعِ حَتَّى أَكَلُوا العَلْهَزَ. تَفْسيرُ الطَبَرِيِّ: (14/186 ـ 187). وقالَ مُقاتِل: أَمَّا الصَّالِحَةُ فَبِالْمَوْتِ، وَأَمَّا الطالِحَةُ فَبِالعَذَابِ. تَفْسيرُ مُقَاتِلٍ: (1/216 أ). وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاجُ: أَيْ مَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ إِلَّا سَيُهْلَكُ؛ إِمَّا بِمَوْتٍ، وإِمَّا بِعَذابٍ يَسْتَأْصِلُهُمْ. مَعاني القُرْآنِ وَإِعْرابِهِ: (3/247).
قولُهُ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} الْكِتَابُ: مُسْتَعَارٌ هُنَا لِعِلْمِ اللهِ ـ تَعَالى، وَسَابِقِ تَقْدِيرِهِ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في الآيَةِ: يُريدُ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: "كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطورًا" قَالَ: فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ إِذًا: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، ويَجُوزُ أنْ يكونَ قدْ أُرِيدَ بِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَتَعْرِيفُهُ إذًا لِلْجِنْسِ، فَهوَ يَشْمَلُ الْقُرْآنَ الكريمَ وَغَيْرَهُ مِنَ الكُتُبِ السَمَاوِيَّةِ.
وَالْمَسْطُورُ: الْمَكْتُوبُ، يُقَالُ: سَطَّرَ الْكِتَابَ إِذَا كَتَبَهُ سُطُورًا، قَالَ تَعَالَى منْ سورةِ القلمِ: {وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ} الْآيةَ: 1. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ جَرِيرِ بْنِ عَطِيَّةَ:
مَنْ شَاءَ بَايَعْتُهُ مَالِي وَخُلْعَتَهُ ........... مَا تُكْمِلُ الْتَيْمُ فِي دِيوَانِهَا سَطَرَا
الْخُلْعَةُ، بِضَمِّ الخاءِ: خِيَارُ المَالِ. و (سَطْرًا) جَمْعُ أَسْطَارٍ كَسَبَبٍ وَأَسْبَاب. وَجَمْعُ السَّطْرِ (أَسْطُرٌ) وَ (سُطُورٌ)، مِثْلُ: أَفْلُسٍ وَفُلُوسٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، وَ "إِنْ" نافِيَةٌ. وَ "مِنْ" حرفُ جرٍّ زَائدٍ في المُبْتَدَأِ لاسْتِغْراقِ الجِنْسِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ لِبَيَانِ الجِنْسِ، وفيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ التي لِلْبَيانِ لا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَها مُبْهَمٌ مَّا، تُفَسِّرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 2، مِنْ سُورَةِ فاطِر: {مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ}، وهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ مُبْهَمٌ. قالَ الشيخُ أبو حيَّانَ في البَحْرِ: وَلَعَلَّ قَوْلَهُ لِبَيَانِ الجَنْسِ مِنَ النَّاسِخِ، وَيَكونُ هوَ قَدْ قالَ: لاسْتِغْراقِ الجِنْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَقِيلَ: المُرَادُ الخُصوصُ. وخبرُ المبتدأ الجملةُ المحصورةُ مِنْ قولِه: {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا}. وثانِيهُما: أَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ أَنْ يَسْبِقَها مُحَلَّى بِـ "أَلْ" الجِنْسِيَّةِ، وأَنْ يَقَعَ مَوْقِعَها "الذي" كما في قَوْلِهِ تعالى منْ سُورةِ الحَجِّ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ} الآيةَ: 30. وَ "قَرْيَةٍ" مَجرورٌ بحرْفِ الجرِّ لَفْظًا، مرفوعٌ بالابْتِدَاءِ محلًا.
قولُهُ: {إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، (أَداةُ حَصْرٍ). وَ "نَحْنُ" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. وَ " مُهْلِكُوها" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، وَهوَ مُضافٌ، وَ "هَا" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَ "قَبْلَ" مَنْصوبٌ عَلى الظَرْفيَّةِ الزَّمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ: "مُهْلِكُوها"، وهوَ مُضافٌ. وَ "يَوْمِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ، وهوَ مُضافٌ أَيْضًا. وَ "الْقِيامَةِ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ للمُبْتَدَأِ الأَوَّلِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ الأُولى مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} أَوْ: حرفُ عَطْفٍ وتنويعٍ، و "مُعَذِّبُوها" مثلُ: "مهلكوها" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. و "عَذابًا" منصوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِـ "مُعَذِّبُوها". وَ "شَدِيدًا" صِفَةٌ لـ "عَذابًا" منصوبٌ مِثْلُهُ.
قوْلُهُ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} كانَ: فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ. و "ذلِكَ" ذا: اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ"، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "مَسْطُورًا"، و "الْكِتابِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "مَسْطُورًا" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بها، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.