يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} قالَ أَبُو إسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ ـ رحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: يَعْني بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ. مَعَاني القرآنِ وَإِعْرَابِهِ: (3/252). وهذا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وانْتِقَالٌ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْعَذَابِ العَاجِلِ فِي الدُّنْيَا المذكورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا} الآيات: (66 ـ 69) منْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، إِلَى ذِكْرِ حَالِ النَّاسِ فِي الْآخِرَةِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا. وَمَعْنَى دُعَاءِ النَّاسِ أَنْ يُدْعَى يَا أُمَّةَ فُلَانٍ وَيَا أَتْبَاعَ فُلَانٍ، مِثْلُ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، يَا أُمَّةَ مُوسَى، يَا أُمَّةَ عِيسَى، وَمِثْلُ: يَا أُمَّةَ زُرَادَشْتَ. وَيَا أُمَّةَ بَرْهَمَا، وَيَا أُمَّةَ بُوذَا، وَمِثْلُ: يَا عَبَدَةَ الْعُزَّى، يَا عَبَدَةَ بَعْلَ، يَا عَبَدَةَ نَسْرٍ، وهكذا.
وَالْبَاءُ فيهِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ "نَدْعُوا" لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ، فيُقَالُ: دَعَوْتُهُ بِكُنْيَتِهِ، وَتَدَاعَوْا بِشِعَارِهِمْ، كَمَا هي في قَوْلِهِ تَعَالَى المُتَقَدِّمِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْر} الآيةَ: 11.
وَالْإِمَامُ: مَا يُؤْتَمُّ بِهِ، أَيْ يُعْمَلُ عَلَى مِثْلِ عَمَلِهِ أَوْ سِيرَتِهِ. سَوَاءٌ أَكانَ عَلَى هُدًى أَم عَلى ضَلالَةٍ، لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ" قَالَ: إِمَامِ هُدًى، وَإِمَامِ ضَلَالَةٍ. وَالنَّبِيُّ إِمَامُ أُمَّتِهِ، والخَليفَةُ إِمامُ رَعِيَّتِهِ، والقُرْآنُ إِمَامُ المُسْلِمِينَ المُبينُ الذي يُبَيِّنُ الْدِّينِ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: معنى "بِإِمَامِهِمْ"، أَيْ بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مِنَ التَّشْرِيعِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ عَدَدٌ مِنَ العُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِـ "إِمَامِهِمْ" هُنَا: كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ، يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: "فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ"، فهو مِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْجِيحِ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كِتَابُ الْأَعْمَالِ. وكذلكَ قولُهُ المُتَقَدِّمُ في الآيَةِ: 13، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا}، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الْآيَةَ: 49، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ (يس): {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} الآية: 12، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الجاثِيَة: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآية: 28، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ كَثِيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى، لِدَلَالَةِ الآيَةِ المتَقدِّمِ ذِكْرُها مِنْ سُورَةِ (يَس) عَلَى ذَلِكَ. وَقد جاءَ هَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ الطبريُّ وَغَيْرُهُ، وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رُضوانُ اللهِ تعالى عَنْهُم. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ" قَالَ: بِكِتَابِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّان، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ" قَالَ: يُدْعَى أَحَدُهُمْ، فَيُعْطى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، ويُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ سِتِّينَ ذِرَاعًا، ويُبَيَّضُ وَجْهُهُ، وَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ نُورٍ يَتَلَأْلَأُ، فَيَنْطَلِقُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعيدٍ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ائْتِنَا بِهَذَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي هَذَا، حَتَّى يَأْتِيهم، فَيَقُولُ: أَبْشِرُوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلُ هَذَا. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُسَوَّدُ لَهُ وَجْهُهُ، وَيُمَدُّ لَهُ فِي جِسْمِهِ سِتِّينَ ذِرَاعًا، عَلَى صُورَةِ آدَمَ، وَيُلْبَسُ تَاجًا مِنْ نَارٍ، فَيَرَاهُ أَصْحَابُهُ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، اللَّهُمَّ لَا تَأْتِنَا بِهَذَا. قَالَ فيَأْتيهم، فَيَقُولُ: رَبَّنَا أَخِّرْهُ، فَيَقُولُ: أَبْعَدَكُمُ اللهُ، فَإِنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلُ هَذَا.
وَروِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ الْمُرَادَ بِـ "إِمَامِهِمْ" نَبِيُّهُمْ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النِّساءِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} الْآيَةَ: 41، وقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الآية: 47، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ النّحْل: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} الْآيَةَ: 89، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الزُمَر: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} الْآيَةَ: 69. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والخَطيبُ البَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ" قَالَ: بِنَبِيِّهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، مِثْلَهُ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَفِي هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ إِمَامَهُمُ النَّبِيُّ ـ عَلَيْهِ صَلواتُ ربِّي وَسَلامُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ"، أَيْ: نَدْعُو كُلَّ قَوْمٍ بِمَنْ يَأْتَمُّونَ بِهِ، فَأَهْلُ الْإِيمَانِ أَئِمَّتُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ أَئِمَّتُهُمْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 41، منْ سُورةِ القَصَص: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكرَّمَ وجهَهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ" قَالَ: يُدْعَى كُلُّ قَوْمٍ بِإِمَامِ زَمَانِهِمْ، وَكِتابِ رَبِّهِمْ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهم. وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ. أَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِـ "إِمَامِهِمْ ": أُمَّهَاتُهُمْ، أَيْ يُقَالُ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةٍ، فهو قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما مَرْفُوعًا: ((يُرْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ)). متَّفقٌ عَلَيْهِ، رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِرَقَم: (7111)، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِرَقَم: (1735). يعضدُهُ حديثُ أَبي دَاودَ: ((إِنَّكمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ، وأَسْمَاءِ آبائكمْ، فَأَحْسِنُوا أَسْماءَكُمْ)). قالَ الثَعَالِبيُّ في تفسيرِهِ: (1/203)، وَرُوِّينَا فِي سُنَن أبِي دَاوُدَ؛ بإِسْنادٍ جيِّدٍ ، عَنْ أَبي الدَّرْداءِ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ)). وأَخْرَجَه الأئمَّةُ: أَحْمدُ في مُسْنَدِهِ: (5/194)، وأَبو دَاودَ فِي سُننِهِ: (2/705، بِرَقَم: 4948)، والدارميُّ: (2/294)، وابْنُ حِبَّان: (5818)، والبَيْهَقِيُّ: (9/306)، وأبو نُعيمٍ في الحلية: (5/152)، والبَغَوِيُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: (6/382).
قالَ ابْنُ دَقِيقِ العِيدِ: وإِنْ ثَبَتَ أَنَّهم يُدْعَوْنَ بِأُمَّهاتِهم، فَقَدْ يَخُصُّ هَذَا مِنَ العُمُومِ. وَقالَ ابْنُ بَطَّال: والدُّعاءُ بِالآباءِ أَشَدُّ فِي التَّعْريفِ، وأَبْلَغُ فِي التَّمْييزِ. أَمَّا سيدُنا عيسى ـ عَليْهِ السَّلامُ، فهوَ الوحيدُ الذي يُنادى باسْمِهِ واسْمِ أُمِّهِ لأَنَّهُ لا أَبَ لَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَفَائِدَةُ نِدائِهِمْ هذا بِمَتْبُوعِيهِمُ هي التَّعْجِيلُ بِالْمَسَرَّةِ، لِاتِّبَاعِ الْهُدَاةِ، وَبِالْمَسَاءَةِ لِاتِّبَاعِ الْغُوَاةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا دَعَوْا بِذَلِكَ رَأَوْا مَتْبُوعِيهِمْ فِي الْمَقَامَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُمْ، فَعَلِمُوا مَصِيرَهُمْ.
قولُهُ: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} إِيتَاءُ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ إِلْهَامُ صَاحِبِهِ إِلَى تَنَاوُلِهِ بِالْيَمِينِ. وَتِلْكَ عَلَامَةُ عِنَايَةٍ مِنْهُ بِالْمَأْخُوذِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ يَأْخُذُ بِهَا مَنْ يَعْزِمُ عَمَلًا عَظِيمًا، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الحاقَّةُ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} الآيةَ: 45، وَقَالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ـ وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا طَيِّبًا، تَلَقَّاهَا الرَّحْمَانُ بِيَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ فَيُرْبِيهَا لَهُ كَمَا يُرْبِي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ))، أَخْرَجَهُ: ابْنُ المُبَارَكِ في "الزُّهْدِ": (648)، وَأَحْمَدُ: (2/418)، والبُخارِيُّ: (2/134، 1410)، ومُسْلِمٌ: (3/85، 1014)، وابْنُ مَاجَهْ: (1842)، والتِرْمِذِيُّ: (661)، وَالبَغَوِيُّ: (1632)، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَقَالَ الشاعرُ المُخضْرَمُ حرملةُ بْنُ ضِرارِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ سِنَانٍ المَازِنِيُّ الذُبْيَانيُّ الغَطَفَانِيُّ المعروفُ بِالشَّمَّاخِ يَمْدَحُ عُرَابَةَ الأَوْسِيَّ مَلِكَ اليَمَنِ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ .......................... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وهذا تَفْرِيعُ تَفْصِيلٍ لِمَا أَجْمَلَهُ قَوْلُهُ: "نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ"، أَيْ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، أَيّْ الكتابَ الحاوِيَ لأَعْمَالِهِ.
قولُهُ: {فَأُولئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا المعنى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كتابِهِ العزيزِ، فقَالَ مِنْ سُورةِ الحاقَّة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤوا كِتَابِيَهْ} الآيةَ: 19، إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} الآيةَ: 25.
قولُهُ تَعَالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} يَوْمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، والعامِلُ فيه قولُهُ مِنَ الآيةِ التي قبلَها {فَضَّلْناهم}، أَيْ: فَضَّلْناهمْ بالثَّوابِ يَوْمَ نَدْعُوا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في تَقْريرِهِ: وذَلِكَ أَنَّ فَضْلَ البَشَرِ عَلَى سَائرِ الحَيَوانِ يَوْمَ القِيامَةِ بَيِّنٌ؛ إِذْ هُمُ المُكَلَّفونَ المُنَعَّمُونَ المُحَاسَبُونَ الذينَ لَهُمْ القَدْرُ. إِلَّا أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ أَنَّ الكُفَّارَ يومَئِذٍ أَخْسَرُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، لِقَوْلِهم: {يا لَيْتَني كُنْتُ تُرَابًا} الآيةَ: 40، منْ سورةِ النَّبَأِ. وقال الحُوفِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَرْفيَّةَ الزمانيَّةَ، والعامِلُ فِيهِ اذْكُرْ. قالَ السَّمِينُ الحَلَبيُّ: وَهَذَا سَهْوٌ؛ كَيْفَ يَعْمَلُ فِيهِ ظَرْفًا؟ بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ. وقيلَ: إِنَّهُ مَرْفُوعُ المَحَلِّ عَلى الابْتِداءِ، وإِنَّما بُنِيَ لإِضافتِهِ إِلى الجَمْلةِ الفِعْلِيَّةِ، والخَبَرُ الجُمْلَةُ بَعْدَهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَقٍريرِهِ هذا الوجْهَ: ويَصِحُّ أَنْ يكونَ "يَوْمَ" مَنْصُوبًا عَلَى البِنَاءِ لَمَّا أُضيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، ويَكونُ مَوْضِعُهُ رَفْعًا بالابْتِداءِ، وَخَبَرُهُ في التَقْسيمِ الذي أَتَى بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ: "فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ" إِلَى قَوْلِهِ بعدَ ذَلِكَ {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى}. قَالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان الأندلُسيُّ: قوْلُهُ "مَنْصوبٌ عَلَى البِنَاءِ" كانَ يَنْبَغي أَنْ يَقولَ: "مَبْنِيًّا عَلَى الفَتْحِ"، وَقَوْلُهُ" "لَمَّا أُضِيفَ إِلى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ" لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لأَنَّ المُتَمَكِّنَ وغَيْرَ المُتَمَكِّنِ إِنَّما يَكونُ في الأَسْماءِ لا في الأَفعالِ، وهَذَا أُضيفَ إِلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ، وَمَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ فِيهِ أَنَّهُ مُعْرَبٌ، والكُوفِيُّونَ يُجيزونَ بِنَاءَهُ. وَقَوْلُهُ: "والخَبَرُ فِي التَقْسيمِ" إِلَى آخِرِهِ، التَقْسيمُ عَارٍ مِنْ رَابِطٍ يَرْبِطُ جُمْلَةَ التَقْسيمِ بِالابْتِداءِ. قالَ السَّمِينُ: الرَّابِطُ مَحْذُوفٌ للعِلْمِ بِهِ، أَيْ: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ فِيهِ. وقالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصُوبًا بِقَوْلِهِ "ثُمَّ لَا تَجِدُوا". ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْصُوبًا بِـ "يُعيدكم" مُضْمَرةً، أَيْ: يُعِيدكم يَوْمَ نَدْعُو. وقَالَ ابْنُ عَطِيَّةِ وأَبو البَقاءِ العُكْبُريُّ: ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْصُوبًا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ "وَلاَ يُظْلَمُونَ" بَعْدَهُ، أَيْ: وَلَا يُظْلَمُونَ يَوْمَ نَدْعُوا. ويجوزُ: أَنَّهُ مَنْصوبٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قولُهُ في الآيةِ: 51، مِنْ هَذِهِ السُّورةُ: {مَتَى هُوَ}. ويجوزُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ قولِهِ تَعَالَى في الآية: 52: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}. ويَجُوزُ أَنَّهً بَدَلٌ مِنْ {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} في الآيةِ: 52، السابقةِ. وَهَذَانِ القَوْلانِ ضَعِيفانِ جِدًّا لِكَثْرَةِ الفَوَاصِلِ. ويجوزُ أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ بِإِضْمَارِ "اذْكُرْ، وَهذَا ـ وإِنْ كانَ أَسْهَلَ التَقَاديرِ، أَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ إِذْ لَا بُعْدَ فِيهِ وَلَا إِضْمَارَ كَثيرٌ. والجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "نَدْعُو" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضَمَّةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى الواوِ للثِّقَلِ. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (نَحْنُ) يعودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "كُلَّ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ. و "أُناسٍ" مَجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، و "بِإِمامِهِمْ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَدْعُو"، أَيْ: بِاسْمِ إِمَامِهِمْ، وَ "إِمامِهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ وهوَ مُضَافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ، مُضَافٌ إِلَيْهِ، لِـ "يَوْمَ". ويَجُوزُ أَنْ تَكُونَ للحَالِ فَيَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: نَدْعُوهُمْ مُصَاحِبِينَ لِكِتَابِهِم. والإِمامُ: مَنْ يُقْتَدَى بِهِ. وقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنْ بِدَعِ التَفَاسِيِرِ: أَنَّ "الإِمامَ" جَمَعَ "أُمٍّ" وأَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بِأُمَّهَاتِهم دُونَ آبائهم، وَأَنَّ الحِكْمَةَ فِيهِ رِعَايةُ حَقِّ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإِظْهَارِ شَرَفِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، وأَنْ لَا يُفْضَحَ أَوْلادُ الزِّنَى، قالَ: وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّهُمَا أَبْدَعُ: أَصِحَّةُ لَفْظِهِ أَمْ بَهاءُ مِعْناهُ؟. قالَ السمينُ: وهوَ مَعْذُورٌ لأنَّ "أُمَّ" لا يُجْمَعُ عَلَى "إِمَامٍ"، وهَذَا قَوْلُ مَنْ لا يَعْرِفُ الصِّنَاعَةَ وَلَا لُغَةَ العَرَبِ، وأَمَّا مَا ذَكَروهُ مِنَ المَعْنَى فإِنَّ اللهَ تَعَالى نَادَى عِيسَى بِاسْمِهِ مُضَافًا لِأُمِّهِ في عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كتابِهِ الكريمِ كقَوْلِهِ {يا عَيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} الآيةَ: 110، مِنْ سورةِ المائدةِ، وأَخْبَرَ عَنْهُ كَذَلِكَ نَحْوَ: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} الآية: 6، مِنْ سُورَةِ الصَّفِّ. وقد تقدَّمَ هَذا آنفًا في مَبْحَثِ التفسيرِ.
قولُهُ: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} الفاءُ: هيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تقديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ دُعاءَنَا إِيَّاهُم، وأَرَدْتَ بَيَانَ حَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ .. فَأَقولُ لَكَ: "مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ .. ". و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، والخَبَرُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوْ الجَوَابُ، أَوْ هُمَا معًا، كَمَا هوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ "مَنْ" مَوْصُولَةً، والفاءُ لِشَبَهِهِ بِالشَرْطِ. و "أُوتِيَ" فِعْلٌ مَاضٍ مُغَيْرُ الصِيغَةِ، مبنيٌّ على الفتحِ، ونائبُ فاعِلِهِ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، وَهُوَ المَفعُولُ الأَوَّلُ لِـ "أُوتِيَ". وَ "كِتابَهُ" مَفْعُولُ "أُوتِيَ" الثاني منصوبٌ بِهِ، لأَنَّهُ بِمَعْنَى أُعْطِيَ. وَ "بِيَمِينِهِ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُوتِيَ"، و "يَمِينِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضَافةِ إِلَيْهِ. وَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ "أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ" فَأُفْرِدَ، وَحُمِلَ عَلَى المَعْنَى ثانِيًا في قولِهِ: "فَأُولئكَ" فَجُمِعَ.
قولُهُ: {فَأُولئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتابَهُمْ} الفاءُ: هي رَابِطَةٌ لِجَوابِ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ وُجُوبًا، وَ "أُولِئَكَ" أُولاءِ: اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلى الكَسْرَةِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالابْتِداءِ، وَالكافُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ للخِطَابِ. وَ "يَقْرَؤُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، فَاعِلُهُ. وَ "كِتَابَهُمْ" كِتَابَ: مَفْعُولٌ بهِ مَنْصُوبٌ، وَهُوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. وجُمْلَةُ "يَقْرَؤُونَ" الفِعْلِيَّةِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنْ المُبْتَدَأِ "أُولئِكَ" وخبَرِهِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِها جَوَابًا لَهَا، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَرْطِيَّة، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَة، مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًا، ليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} الواوُ: حرفُ عطْفٍ، وَ "لا" نافيَّةٌ لا عَمَلَ لها. و "يُظْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مغيَّرُ الصِّيغَةِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ نائبٌ عَنْ فَاعِلِهِ. و "فَتِيلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ، لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: ظُلْمًا قَدْرَ فَتِيلٍ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى "يَقْرَؤُونَ" على كونِهَا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خبَرًا للمُبْتَدأِ.
قرأَ العامَّةُ: {نَدْعو} بِنُونِ العَظَمَةِ، وَقَرَأَ مُجاهِدٌ "يَدْعُو" بِيَاءِ الغَيْبَةِ، فيعودُ الضميرُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، أَوْ المَلَكِ. و "كلَّ" نَصْبٌ مَفْعُولًا بِهِ عَلَى القِراءَتَيْنِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ "يُدْعَى" مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، فِيما نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو عُمَرٍ الدَّانَيُّ. و "كُلُّ" بالرَّفْعِ لِقِيامِهِ مُقَامَ الفاعِلِ، وقرأَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ "يُدْعَوْا" بِضَمِّ الياءِ وَفَتْحِ العَيْنِ، بَعْدَهَا وَاوٌ. وَخُرِّجَتْ هذِهِ القِراءةُ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الأَصْلَ: يُدْعَوْنَ فَحُذِفَتْ نُونُ الرَّفْعِ كَمَا حُذِفَتْ في قوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ((لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا)). كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الراجزِ حميدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى الخَزْرَجِيُّ وهو مِنْ نُدمَاءِ تَمِيمِ بْنِ المُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ بِالمَهْدِيَّةِ:
أَبَيْتُ أَسْرِيْ وتَبِيتي تَدْلُكِيْ ............. وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكي
أَيْ: تَبِيتِينَ تُدَلِّكينَ، وَ "كُلٌّ" مَرْفُوعٌ بِالبَدَلِ مِنَ الوَاوِ التي هِيَ ضَميرٌ، أَوْ بِالفاعِلِيَّةِ، والوَاوُ عَلامَةٌ عَلَى لُغَةِ (يَتَعَاقَبُونَ فِيكمْ مَلائِكَةٌ).
والتَخْريجُ الثاني: أَنَّ الأَصْلَ "يُدْعَى" كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الدانِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ قَلَبَ الأَلِفَ واوًا وَقْفًا، وَهِيَ لُغَةٌ لِقَوْمٍ، يَقُولُونَ: هَذِهِ أَفْعَوْ، يُريدونَ: أَفْعى، وَعَصَوْ، يُريدونَ: عَصَا، ثُمَّ أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوَقْفِ. وَ "كُلُّ" مَرْفوعٌ لِقِيامِهِ مُقاَمَ الفاعِلِ عَلى هَذَا لَيْسَ إِلَّا.