وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} كلَّ فردٍ مِنْ أَفرادِ البَشَرِ أَبناءِ آدَمَ وحوَّاءَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وبناتِهِما " أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" ومَعْنَى "أَلْزَمْنَاهُ" جَعَلْنَاهُ مُلازِمًا لَهُ لا يَبْرَحُهُ، فَالْإِلْزَامُ: جَعَلُ الشيْءِ لَازِمًا لَلشيْءِ، أَيْ غَيْرَ مُفَارِقٍ لَهُ، يُقَالُ: لَزِمَهُ إِذَا لَمْ يُفَارِقْهُ.
و "طائرُهُ" عَمَلُهُ، أَوِ قِسْمَتُهُ أو حَظُّهُ وَنَصيبُهُ. وَأُطْلِقَ الطَّائِرُ أَيضًا عَلَى السَّهْمِ، أَوِ الْقِرْطَاسِ الَّذِي يُعَيَّنُ فِيهِ صَاحِبُ الْحَظِّ فِي عَطَاءٍ أَوْ غيرِهِ، كَقُرْعَةٍ لِلْقِسْمَةِ وَأَشباهِها، كَمَا أُطْلِقَ على أَعْشَارِ جَزُورِ الْمَيْسِرِ. فَيُقَالُ: اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ فَطَارَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ ـ رَضِي اللهٌ عَنْهَا، فِيما رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخانِ وغَيْرُهم، في حَدِيثِ الْهِجْرَةِ: (اقْتَسَمَ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ). وَذَكَرَتْ قِصَّةَ وَفَاتِهِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. فَقَدْ كَانُوا يَرْمُونَ السِّهَامَ الْمَرْقُومَةَ بِأَسْمَاءِ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى صُبَرِ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ الْمُعَدَّةِ لِلتَّوْزِيعِ. وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ السَّهْمُ الْمَرْقُومُ بِاسْمِهِ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ. وَكَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى رَمْيِ السَّهْمِ فِعْلَ الطَّيَرَانِ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلسَّهْمِ رِيشًا فِي قُذَذِهِ لِيَخِفَّ بِهِ اخْتِرَاقُهُ الْهَوَاءَ عِنْدَ رَمْيِهِ مِنَ الْقَوْسِ، فَالطَّائِرُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى الْحَظِّ مِنَ الْعَمَلِ، مِثْلَمَا يُطْلَقُ اسْمُ السَّهْمِ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ شَيْءٍ مَا. وَقَدْ يَزْجُرونَ الطَّيْرَ لِمَعْرِفَةِ فأْلِ الزَّاجِرِ أَوْ شُؤْمِهِ مِنْ حَالَةِ الطَّيْرِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي طَرِيقِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي أَسْفَارِهِمْ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، فَأُطْلِقَ الطَّائِرُ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
وَ "فِي عُنُقِهِ" أَيْ: جَعَلْنَا عَمَلَهُ، أَوْ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ شَقَاوَةٍ فِي عُنُقِهِ، أَيْ: لَازِمًا لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ، أَوِ الْغِلِّ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ. تَقَوْلُ الْعَرَبُ: (تَقَلَّدَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ)، و (تَقَلَّدَ فُلانٌ الأَمْرَ، أَوْ قُلِّدَهُ)، ولأنَّهُ شُبِّهَ بالقلادَةِ فَقد خُصَّتْ بِهِ الْعُنُقُ، لِأَنَّ الْقِلَادَةَ إِنَّما تُوضَعُ فِي عُنُقِ الْمَرْأَةِ. وَمِنْ ذلكَ قَوْلُ الشاعرِ الأَعْشَى:
قَلّدتُك الشِّعْرَ يا سلامةَ ذا الـ ............ إِفْضالِ، والشَّيْءُ حَيْثُما جُعِلا
والشِّعْرُ يَسْتَنْزِلُ الكَريمَ، كَمَا ............... يُنْزِلُ رَعْدُ السَّحابَةِ السِّيَلا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِحَالَةٍ لَعَلَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، وَهِيَ وَضْعُ عَلَامَاتٍ تُعَلَّقُ فِي الرِّقَابِ لِلَّذِينَ يُعَيَّنُونَ لِعَمَلٍ مَا، أَوْ لِيُؤْخَذَ مِنْهُمْ شَيْءٌ. وَقَدْ كَانَ يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ. قَالَ بَشَّارُ بْنُ بُردٍ:
خَتَمَ الْحُبُّ لَهَا فِي عُنُقِي ................ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَمِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "فِي عُنُقِهِ" تَمْثِيلًا لَهُ بِالْبَعِيرِ الَّذِي يُوسَمُ فِي عُنُقِهِ بِسِمَةٍ كَيْلَا يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، أَوِ الَّذِي يُوضَعُ فِي عُنُقِهِ جَلْجَلٌ لِكَيْلَا يَضِلَّ عَنْ صَاحِبِهِ، فيكونُ الطائرُ بِمَعْنَى الوَسْمِ أَوِ العَلامَةِ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ "طَائِرَهُ" عَمَلُهُ، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ لَازِمٌ لَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النِّسَاءِ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} الْآيَةَ: 123، وَكقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ فُصِّلتْ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} الآيةَ: 46، وَكقَوْلِهِ مِنْ سورةِ التحريم: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآية: 7، وَكقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الانْشِقاقِ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} الآية: 6، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الزَلْزلةِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الآيتان: (7 و
، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ "طَائِرَهُ" نَصِيبُهُ الَّذِي طَارَ لَهُ فِي الْأَزَلِ مِنَ الشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ، فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَثِيرَةٌ جِدًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْرافِ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} الآية: 30، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الشورى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} الآية: 7، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ التغابُنِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} الآية: 2، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ المُباركاتِ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الغِفَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ أَجَلُهُ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ رِزْقُهُ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ)) صحيحُ مُسْلِمٌ: (4/2037، رقم: 2645). وَأَخرجَهُ أَيْضًا ابْنُ مِرْدُوَيْهِ وهَذَا نَصُّهُ: ((إِنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا النَّسْمَةُ تَطِيرُ فِي الْمَرْأَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعين لَيْلَة، فَلَا يَبْقَى مِنْهَا شَعَرٌ، وَلَا بَشَرًا، وَلَا عِرْقٌ، وَلَا عَظْمٌ، إِلَّا دَخَلَهُ، حَتَّى أَنَّهَا لَتَدْخُلُ بَيْنَ الظُفْرِ وَاللَّحْمِ، فَإِذا مَضَى لَهَا أَرْبَعُونَ لَيْلَةً وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا، أَهْبَطَهُ اللهُ إِلَى الرَّحِمِ، فَكَانَ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعين لَيْلَةً، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعينَ لَيْلَةً، فَإِذا تَمَّتْ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكَ الْأَرْحَامِ، فَيَخْلُقُ عَلَى يَدِهِ لَحْمَهَا وَدَمَهَا وَشَعْرَهَا وَبَشَرَها، ثمَّ يَقُولُ: صَوِّرْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا أُصَوِّرُ؟ أَزائِدٌ أَمْ نَاقصٌ؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَجَميلٌ أَمْ ذَمِيمٌ؟ أَجْعَدٌ أَمْ سَبْطٌ؟ أَقَصِيرٌ أَمْ طَوِيل؟ أَبَيَضٌ أَمْ آدَمٌ؟ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَكْتُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْمُرُ بِهِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلَكُ: يَا رَبُّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعيدٌ؟ فَإِنْ كَانَ سَعيدًا نَفَخَ فِيهِ بِالسَعَادَةِ فِي آخِرِ أَجَلِهِ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا نَفَخَ فِيهِ الشَقَاوَةَ فِي آخِرِ أَجَلِهِ. ثُمَّ يَقُولُ: اكْتُبْ أَثَرَهَا، وَرِزْقَهَا، ومُصيبَتَهَا، وعَمَلَها بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَة، فَيكْتُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَأْمُرُهُ اللهُ بِهِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلَكُ: يَا رَبُّ مَا أَصْنَعُ بِهَذَا الْكِتابِ؟ فَيَقُولُ: عَلِّقْهُ فِي عُنُقِهِ إِلَى قَضَائي عَلَيْهِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقُهِ". ولَهُ أَطْرَافٌ كَثيرَةٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلهِ: "طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" قَالَ: كِتَابَهُ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَن جَابرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: ((طَائِر كُلُّ إِنْسَان فِي عُنُقِهِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" قَالَ: سَعَادَتَهُ وشَقَاوَتَهُ وَمَا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ وَعَلِيْهِ، فَهُوَ لَازِمُهُ أَيْنَمَا كَانَ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" أَيْ: عَمَلَهُ.
وَأَخْرَج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" قَالَ: قَالَ عبْدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الشَّقَاءُ والسَّعادَةُ والرِّزْقُ وَالْأَجَلُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَفِي عُنُقِهِ وَرَقَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ.
ورَوَى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ مَعْنَاهُ: مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. قَالَ لَبِيدٌ الشَّاعِرُ:
تَطِيرُ عدائِدُ الأَشْرَاكِ شَفْعًا ...................... وَوِتْرًا والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ
وفي البيتِ: العدائدُ: ما يُعَدُّ مِنْ مالِ الميراثِ، الأَشْرَاكُ جَمْعُ شِرْكٍ، وَهُوَ النَّصيبُ. أَيْ: طارَ المَالُ المَقْسُومُ شَفْعًا للذَّكَرِ، وَوِتْرًا للأُنْثَى، والزَّعامةَ: أَيْ: الرِّئاسَةُ والحُظوةُ للذَكَرِ. فَهَذَا مَعْنَاهُ: تَفَرَّقَ، وَصَارَ لِكُلِّ واحِدٍ نَصِيبُهُ.
وَقَدْ كانَ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادُوا الْإِقْدَامَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ يَسُوقُهُمْ إِلَى خَيْرٍ أَوْ إِلَى شَرٍّ اعْتَبَرُوا أَحْوَالَ الطَّيْرِ وَهُوَ أَنَّهُ يَطيرَ الطائرُ "العَمَلُ"، أَوِ "القِسْمَةُ" أَو "النَّصيبُ وَالحَظُّ". وَالطَّائِرُ: أُطْلِقَ عَلَى السَّهْمِ، أَوِ الْقِرْطَاسِ الَّذِي يُعَيَّنُ فِيهِ صَاحِبُ الْحَظِّ فِي عَطَاءٍ أَوْ قُرْعَةٍ لِقِسْمَةٍ أَوْ أَعْشَارِ جَزُورِ الْمَيْسِرِ، يُقَالُ: اقْتَسَمُوا الْأَرْضَ فَطَارَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ المتقدِّمِ. فقد كَانُوا يَرْمُونَ السِّهَامَ الْمَرْقُومَةَ بِأَسْمَاءِ الْمُتَقَاسِمِينَ عَلَى صُبَرِ الشَّيْءِ الْمَقْسُومِ الْمُعَدَّةِ لِلتَّوْزِيعِ. فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ السَّهْمُ الْمَرْقُومُ بِاسْمِهِ عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ. وَكَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَى رَمْيِ السَّهْمِ فِعْلَ الطَّيَرَانِ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلسَّهْمِ رِيشًا فِي قُذَذِهِ لِيَخِفَّ بِهِ اخْتِرَاقُهُ الْهَوَاءَ عِنْدَ رَمْيِهِ مِنَ الْقَوْسِ، فَالطَّائِرُ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى الْحَظِّ مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا يُطْلَقُ اسْمُ السَّهْمِ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ شَيْءٍ مَا. والطيْرُ قدْ يَطِيرُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَى زَجْرِهِ وإِزْعَاجِهِ، وَإِذَا طَارَ فَهَلْ يَطِيرُ مُتَيَامِنًا فهو السانِحُ، وهو فَأْلُ خَيْرٍ، والبارِحُ: الطائرُ يَمُرُّ ذَاتَ الشِمَالِ فيكنُ فأْلَ شَرٍّ عندهم. أَوْ صَاعِدًا إِلَى الْجَوِّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَبِرُونَهَا وَيَسْتَدِلُّونَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى أَحْوَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ. وَوقد يُزْجَرُ الطَّيْرُ لِمَعْرِفَةِ حظِّ الزَّاجِرِ مِنْ سَعْدِهِ أَوْ شُؤْمِهِ، مِنْ حَالَةِ الطَّيْرِ الَّتِي تَعْتَرِضُهُ فِي طَرِيقِهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فِي أَسْفَارِهِمْ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ فَأُطْلِقَ الطَّائِرُ عَلَى حَظِّ الْإِنْسَانِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وهَذَا مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ لَازِمِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يَس: {قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ} الآية: 18، إِلَى قَوْلِهِ: {قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآية: 19، فَقَوْلُهُ: "وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" أَيْ كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ عَمَلَهُ فِي عُنُقِهِ. وَتَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
وقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطَّائِرِ مَا طَارَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ وَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَالْعُمْرِ وَالرِّزْقِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَالْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَأَنْ يَنْحَرِفَ عَنْهُ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَتِلْكَ الْأَشْيَاءُ الْمَقْدُورَةُ كَأَنَّهَا تَطِيرُ إِلَيْهِ وَتَصِيرُ إِلَيْهِ، فَبِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُقَدَّرَةِ بِلَفْظِ الطَّائِرِ، فقوله: "وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالَى وَمَضَى فِي عِلْمِهِ حُصُولُهُ، فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ وَاصِلٌ إِلَيْهِ غَيْرُ مُنْحَرِفٍ عَنْهُ. فقد أَعْقَبَ اللهُ ذِكْرَ مَا فَصَّلَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى تَفْصِيلِ أَعْمَالِ النَّاسِ تَفْصِيلًا لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الْإِخْفَاءَ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ الْمُشَابِهُ لِلتَّقْيِيدِ بِالْكِتَابَةِ، فَعَطْفُ قَوْلِهِ: "وَكُلَّ إِنسانٍ"، عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الآيَةِ التي قَبْلَها: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا} عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَاصِّ. وَالْمَعْنَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ قَدَّرْنَا لَهُ عَمَلَهُ فِي عِلْمِنَا فَهُوَ عَامِلٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا. فإنَّهُ لَمَّا قَالَ تَعَالَى مِنَ الآيَةِ التي قَبْلَهَا: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا}. كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ فَقَدْ صَارَ مَذْكُورًا وَكُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ شَرْحِ أَحْوَالِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَقَدْ صَارَ مَذْكُورًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَقَدْ أُزِيحَتِ الْأَعْذَارُ، وَأُزِيلَتِ الْعِلَلُ فَلَا جَرَمَ كُلُّ مَنْ وَرَدَ عَرْصَةَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. فإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَوْصَلَ إِلَى الْخَلْقِ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ لَهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، مِثْلَ آيَتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَغَيْرِهِمَا كَانَ مُنْعِمًا عَلَيْهِمْ بِأَعْظَمِ وُجُوهِ النِّعَمِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ اشْتِغَالِهِمْ بِخِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ فَلَا جَرَمَ كُلُّ مَنْ وَرَدَ عَرْصَةَ القيامة فإنه يكون مسؤولا عَنْ أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ.
قولُهُ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالطَّائِرِ تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفَصَّلَةً مُعَيَّنَةً لَا تُغَادَرُ مِنْهَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ إِلَّا أُحْصِيَتْ لِلْجَزَاءِ عَلَيْهَا.
وَمَعْنَى "يَلْقاهُ" يَجِدُهُ. اسْتُعِيرَ فِعْلُ يَلْقَى لِمَعْنَى يَجِدُ تَشْبِيهًا لِوِجْدَانِ النِّسْبَةِ بِلِقَاءِ الشَّخْصِ. وَقَالَ "مَنْشُورًا" تَعْجِيلًا للبشرى بالحسنة والتوبيخ بالسَّيِّئَةِ. وَالنَّشْرُ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا عَمِلَهُ بِحَيْثُ إِنَّ الْكِتَابَ يَحْضُرُ مِنْ قَبْلِ وُصُولِ صَاحِبِهِ مَفْتُوحًا لِلْمُطَالَعَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ" قَالَ: عَمَلهُ: و "وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا" قَالَ: هُوَ عَمَلُهُ الَّذِي عَمِلَ أُحْصِيَ عَلَيْهِ، فَأُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُتِبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فَقَرَأَهُ مَنْشُورًا.
قولُهُ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "كُلَّ" مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا، يُفَسِّرُهُ المَذْكُورُ بَعْدَهُ، والتقديرُ: وأَلْزَمْنَا كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ، وهو مُضافٌ. وَالجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "إِنسانٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "أَلْزَمْناهُ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" المُعَظِّمِ نَفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، و "نَا" التَعْظيمِ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على أنَّهُ مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "طائِرَهُ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ ثانٍ، مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجملةُ مُفَسِّرةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَلْزَمْناهُ"، و "عُنُقِهِ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ.
قولُهُ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} الوَاوُ: للعطفِ، و "نُخْرِجُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازم، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "نُخْرِجُ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "يَوْمَ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ أيضًا بِـ "نُخْرِجُ"، وهو مُضافٌ، وَ "الْقِيامَةِ" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "كِتابًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مَنْصوبًا عَلَى الحَالِ مِنَ المَفْعُولِ المَحْذوفِ، والتَقْديرُ: ونُخْرِجُهُ إِلَيْهِ كِتَابًا، ونُخْرِجُ الطائرَ. وجُمْلَةُ "نُخْرِجُ" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَلْزَمْناهُ" على كونِها جُملةً مُفَسِّرةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} يَلْقاهُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمَ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَمَّةُ المُقدَّرةُ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِها على الأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الإنْسانِ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعولِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "كِتابًا". و "مَنْشُورًا" صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِـ "كِتابًا"، أَوْ حَالٌ مِنْ الضَميرِ في "يَلْقاهُ". وجَوَّزَ أَبو القاسِمِ الزَمَخْشَرِيُّ، والشيخُ أَبُو حَيَّانٍ الأَنْدَلُسِيُّ، وأَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ، أَنْ يَكونَ نَعْتًا لـ "كتابًا". وَفِيهِ نَظَرٌ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الصِّفَةِ غَيْرِ الصَّريحَةِ عَلِى الصَريحَةِ.
قَرَأَ الجُمهورُ: {طائرَهُ} وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَمُجَاهِدٌ: "طَيْرَهُ" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَمِنْهُ مَا أَخرجَ الإمامُ أَحمدُ بْنُ حنبلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟. قَالَ: ((أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ)). المُسْنَدُ" (2/220، رقم: 7045)، وأَخْرَجَهُ أيضًا ابْنُ السنيِّ في عملِ اليومِ واللَّيْلَةِ: (293).
قَرَأَ العامةُ: {وَنُخْرِجُ} بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ وَنَحْنُ نُخْرِجُ. احْتَجَّ أَبُو عَمْرٍو فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ: "أَلْزَمْناهُ". وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم: "وَيَخْرُجُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، عَلَى مَعْنَى وَيَخْرُجُ لَهُ الطَّائِرُ كِتَابًا، فَـ " كِتابًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَيَخْرُجُ الطَّائِرُ فَيَصِيرُ كِتَابًا. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ" وَيُخْرِجُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَيْ يُخْرِجُ اللهُ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْقَعِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: "وَيُخْرَجُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، وَمَعْنَاهُ: وَيُخْرَجُ لَهُ الطَّائِرُ كِتَابًا. و "كتابًا" نَصْبٌ عَلَى الحَالِ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضَميرُ الطائرِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ رَفَعَ "كتابًا" أَيضًا. وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهُ مَرْفوعٌ بالفِعْلِ المَبْنِيِّ للمَفْعُولِ، وقراءتُهُ الأُولَى قِراءَةٌ قَلِقَةٌ.
قرأَ الجُمهورُ: {يَلْقاهُ} بِفَتْحِ الْيَاءِ خَفِيفَةً، مضارع "لَقِيَ" أَيْ يَرَاهُ مَنْشُورًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ عَامِرٍ "يُلْقاهُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، مُضارِعَ "لَقَّى" بالتَشْديِ بِمَعْنَى يُؤْتَاهُ.