قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أَيْ: قَالَ إِبْلِيسُ مُخاطبًا ربَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى: أَيْ أَخْبِرْنِي: هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهَ، وَهُوَ آدَمُ، وَفَضَّلْتَهُ عَليَّ فَأَمَرْتَنِي بِالسُّجُودِ لَهُ، ولَعَنْتَني لِأَجْلِهِ. أَيْ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الذي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ؟ وَلَمْ يُجِبْهُ اللهُ تَعَالى عَنْ هَذا السُّؤَالِ، اسْتِصْغَارًا لِأَمْرِهِ، واحْتِقَارًا لِشَأْنِهِ، فَاخْتُصِرَ الكَلامُ بِحَذْفِ ذَلِكَ.
وَفِي إِعَادَةِ الفِعْلِ "قال" بَيْنَ كَلامَيْ اللَّعِينِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ اتِّصَالِ الثاني بِالأَوَّلِ، فَفِي الآيَةِ مُضْمَرٌ، والتقديرُ: {قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} فَلَعَنَهُ اللهُ تَعَالَى، فَـ "قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ". أَيْ: قَالَ بَعْدِ طَرْدِهِ مِنَ المَحَلِّ الأَعْلَى، وَلَعْنِهِ، واسْتِنْظارِهِ، وَإِنْظَارِهِ "أَرَأيتك ..". وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الكَريمِ، كقولِهِ مِنْ سُورَةِ النِّساء: {لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} الآيتانِ: (118 و 119) وكقولِهِ مِنْ سُورةِ الحِجْرِ: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} الآيتانِ: (34 و 35). وكقولِهِ مِنْ سورةِ (ص): {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} الآيتانِ: (77 و 78). والكافُ حَرْفُ خِطَابٍ لِتَأْكيدِ مَعْنَى التاءِ قَبْلَهُ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لُغَوِيٌّ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإِعْرَابِ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ "هَذَا" مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْقِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى في سُورةِ الأَنْبِيَاءِ: {أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} الْآيَة: 36.
قولُهُ: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أَيْ: لَئِنْ أَبْقَيْتَنِي حَيًّا، أَوْ أَخَّرْتَ مَوْتِي. وَهذا اسْتِئْنافٌ، وابْتِداءُ كَلامٍ.
قولُهُ: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} أَيْ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمُ اسْتِيلاءً كاملًا قَوِيًّا، وكَأَنَّهُ مَأْخوذٌ مِنَ الحَنَكِ وَهوَ بَاطِنُ أَعَلَى الفَمِ، فهوَ اشْتِقَاقٌ مِنِ اسْمِ عَيْنٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَنَكَ الدَّابَةَ وَاحْتَنَكَهَا، إِذا جَعَلَ فِي حَنَكِهَا الأَسْفَلِ حَبْلًا يَقُودُها بِهِ. وفي مَعْنَاهُ أَقَوالٌ:
أَوَّلُها: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهمْ بِالغَلَبَةَ، قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، والفَرَّاءُ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "لَأَحْتَنِكَنَّ" قَالَ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ. وَأَخْرَجَ عنهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ طِينٍ، خُلِقَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي خُلِقْتُ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ تَحْرُقُ كُلَّ شَيْءٍ، "لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا" فَصَدَقَ ظَنًّهً عَلَيْهِم.
ثَانِيهَا: مَعْنَاهُ لَأُضِلَّنَّهُمْ بِالإِغْوَاءِ. قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. فقد أَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ" قَالَ: لَأُضِلَّنَّهُمْ.
ثالثُها: لأَسْتَأْصِلَنَّهم، كَمَا يُقَالَ: احْتَنَكَ الجَرادُ مَا عَلى الأَرْضِ: إِذا أَكَلَهُ؛ واحْتَنَكَ فُلانٌ مَا عِنْدَ فُلانٍ مِنَ العِلْمِ: إِذَا اسْتَقْصَاهُ واحْتَوَاهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ.
رابِعُها: قَوْلُ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لَأَحْتَوِيَنَّهم"، فَقَدْ أَخْرَجَ عنْهُ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَالَ: "لِأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ": لأَحْتَوِيَنَّهُمْ.
خامِسُها: لأَقودَنَّهم إِلَى المَعَاصِي كَمَا تُقادُ الدابَّةُ بِحَنَكِهَا إِذَا شُدَّ فِيهِ حَبْلٌ يَجْذِبُها، وهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الحَنْكِ.
السادسُ: مَعْنَاهُ لأُقَطِّعَنَّهمْ إِلَى المَعَاصِي، كَمَا قالَ الشَّاعِرُ الراجزُ الزفيانُ السَّعْدِيُّ، عَطاءُ بْنُ أُسَيْدٍ:
أَشْكُو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ ............ جَهْدًا إِلَى جَهْدٍ بِنَا وَأَضْعَفَتْ
وَاحْتَنَكَتْ أَمْوَالَنَا وَجَلَّفَتْ
السَّابعُ: لأَسْتَمِيلَنَّهم، قَالَهُ الأَخْفَشُ.
وقَدْ عَلِمَ اللَّعينُ تَسَنِّيَ هَذَا المَطْلَبِ لَهُ حَتَّى ذَكَرَهُ مُؤَكَّدًا، وذلك إِمَّا بِوِساطَةِ التَلَقِّي مِنَ المَلائكَةِ سَمَاعًا، وَقَدْ أَخْبَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، أَوْ باسْتِنْبَاطِهِ لهُ مِنْ قولِ الملائكةِ لربِهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية: 30، مِنْ سورةِ البَقَرَة، مَعَ تَقْريرِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، أَوْ بِالفِراسَةِ، وذلكَ لِما رَأَى فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الوَهْمِ وَالشَهْوَةِ والغَضَبِ المُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، وَلا يَبْعُدُ أَنْ يَكونَ اسْتِثْنَاءُ القَليلِ بِالفِراسَةِ أَيْضًا، وكأَنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ المَانِعَ مِنَ الاسْتيلاءِ فِي القَليلِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ـ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِ الأَمْرِ. ورويَ عَنِ الحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنَّهُ، أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسْوَسَ إِلَى آدَمَ، وَغَرَّهُ، حَتَّى كانَ مَا كانَ فَقَاسَ الفَرْعَ عَلَى الأَصْلِ، وَهوَ مُشْكِلٌ لأَنَّ هَذَا القَوْلَ كانَ قَبْلَ الوَسْوَسَةِ التي كانَ بِسَبَبِهَا مَا كانَ.
قولُهُ: {إِلَّا قَلِيلًا} اسْتَثْنَى القَلِيلَ مِنَ العِبَادِ، وَهُمُ المُخْلِصُونَ الذينَ جاءَ اسْتِثْناؤهم فِي غيرِ مكانٍ مِنْ كتابِهِ العزيزِ، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ: {إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصِينَ} الآيَةَ: 40، وَمِنَ الأَعْمَالِ لِيَشْمَلَهُما مَعًا، وَلَوْ قَالَ: (إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) لَشَمِلَ الاسْتِثْناءُ العِبَادَ دُونَ الأَعْمَالِ، ولكنْ لمَّا قالَ "إِلَّا قَليلًا" فُهِمَ مِنْهُ: (إِلَّا قَليلًا منْ عبادكَ) و (إِلَّا قليلًا مِنْ أَعمالِهم). فالواقعُ أَنَّ في آدمَ الصالحَ كما فيهِمُ الشريرَ، وأَنَّ منْ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ ما هوَ خَيِّرٌ ومِنْها ما هوَ سَيِّءٌ. فمهما كانَ الرجُلُ صالحًا لا بُدَّ مِنْ أَنْ تَجِدَ لَهُ عَمَلًا غَيْرَ صالحٍ، والعَكْسُ بالعَكْسِ، وكذلك البَشَرُ فلا بُدَّ من وُجودِ الصالحِ بَيْنَهُمْ والفَاسِدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُ (هو) يَعُودُ عَلَى "إِبْلِيسَ"، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإِعْرَابِ. و "أَرَأَيْتَكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتَّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، وكافُ الخطابِ: لِتَأْكِيدِ الخِطَابِ المَفْهُومِ مِنَ "التاءِ"، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لـ "قالَ".
قولُهُ: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} هَذَا: الهاءُ: للتنبيهِ، و "ذا" اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بهِ أَوَّلُ لِـ "رَأَيْتَ". و "الَّذِي" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصِبِ صِفَةً لاسْمِ الإِشارَةِ، أَوْ بَدَلًا مِنْهُ. و "كَرَّمْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتَّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ. و "عَلَيَّ" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "كَرَّمَ"، وياءُ المُتَكَّلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرَابِ. والعائدُ مَحْذوفٌ والتَقْديرُ: كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ. وَالمَفْعُولُ الثاني لِـ "أَرَأَيْتَكَ" مَحْذوفٌ لِدَلالَةِ الصِّلَةِ عَلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ جُمْلَةً اسْتِفْهامِيَّةً، والتقديرُ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الذي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ، بِأَنْ أَمَرْتَني بالسُّجودِ لَهُ، لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ. "الكافُ للخِطابِ، و "هَذا" مَفْعُولٌ بِهِ، والمَعْنَى: أَخْبِرْني عَنْ هَذَا الذي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ، أَيْ: فَضَّلْتَهُ، لِمَ كَرَّمْتَهُ وَأَنَّ خَيْرٌ مِنْهُ؟ فَاخْتُصِرَ الكلامُ. وَهَذَا قَريبٌ مِنْ كَلامِ الحُوفِي. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والكافُ في "أَرَأَيْتُكَ" حَرْفُ خِطَابٍ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، ومَعْنَى "أَرَأَيْتَ" أَتَأَمَّلْتَ؟ وَنَحْوُهُ، كَأَنَّ المُخَاطِبَ يُنَبِّهُ المُخَاطَبَ لِيَسْتَجْمِعَ لِمَّا يَنُصَّ عَلَيْهِ بَعْدُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وهِيَ بِمَعْنَى أَخْبِرْني، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ؟ وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ، حَيْثُ يَكونُ بَعْدَها اسْتِفْهامٌ كَمِثَالِهِ، وأَمَّا فِي الآيَةِ فَهِيَ كَمَا قُلْت، وَلَيْسَتِ الَّتي ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ. وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، بَلِ الآيَةُ كَمِثالِهِ، غايَةُ مَا في البابِ أَنَّ المَفعولَ الثاني مَحْذوفٌ وَهوَ الجُمْلَةُ الاسْتِفْهامِيَّةُ المُقَدَّرَةُ، لانْعِقادِ الكلامِ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، لَوْ قُلْتَ: هَذا الذي كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ لِمَ كَرَّمْتَهُ؟.
وقالَ الفَرَّاءُ: الكافُ في مَحَلِّ نَصْبٍ، أَيْ "أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ" كَقَوْلِكَ: أَتَدَبَّرْتَ أَخِرَ أَمْرِكَ فَإِنِّي صانِعٌ فِيهِ كَذَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ: هَذَا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَالمَفْعُولُ الثاني مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: تَفْضِيلَهُ، أَوْ تَكْريمَهُ. وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ المَفْعُولَ الثاني فِي هَذَا البابِ لَا يَكونُ إِلَّا جُمْلَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى اسْتِفْهامٍ. قالَ الشَّيْخُ: وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ الجُمْلَةَ القَسَمِيَّةَ هِيَ المَفْعُولُ الثاني لَكَانَ حَسَنًا. قالَ السَّمِينُ: يَرُدُّ ذَلِكَ التِزَامُ كَوْنِ المَفْعُولِ الثاني جُمْلَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى اسْتِفْهامٍ، وَقَدْ تَقَرَّرَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي الأَنْعَامِ فَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِهِ هُنَا.
قوْلُهُ: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} لَئِنْ: اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازمٌ. و "أَخَّرْتَنِ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تَاءُ الفَاعِلِ، فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وتاءُ الفاعِلِ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةُ عِنْدَ بَعْضِ القُرَّاءِ على ما يَأْتي بَيَانُهُ في مبحثِ القراءاتِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ، والنُّونُ للوِقايَةِ. وَ "إِلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلَّقٌ بِـ "أَخَّرْتَ"، و "يَوْمِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجرِّ، وهوَ مُضافٌ، و "الْقِيامَةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للْقَسَمِ، مُؤَكِّدَةٌ للأُولَى. و "أَحْتَنِكَنَّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مبنيٌّ عَلى الفتْحِ لاتِّصالِهِ بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ: "أَنَا" يَعُودُ عَلَى "إِبْلِيس" و "ذُرِّيَّتَهُ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ. و "قَلِيلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الاسْتِثْناءِ مِنَ الذُرِّيَّةِ بِـ "إِلَّا"، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَةُ هذِهِ: جَوَابُ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَولِ لـ "قالَ"، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذوفٌ لِدَلَالَةِ جَوابِ القَسَمِ عَلَيْهِ، والتَقْديرُ: إِنْ أَخَّرْتَنِي أَحْتَنِكُ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَليلًا، وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القَسَمِ وَجَوابِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قالَ".
قَرَأَ العامَّةُ: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} بحذفِ ياءِ المتكلِّمِ وَصْلًا ووَقْفًا، وقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِها وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَ نَافِعُ وأَبُو عَمْرِو بْنِ العلاءِ بإثباتِها وَصْلًا وحَذْفِها وقفًا، وهذه قاعدةُ مَنْ ذُكِرَ في الياءاتِ الزائدةِ عَلَى الرَّسْمِ، هَذَا كَلُّه في حَرْفِ هَذِهِ السورةِ، أَمَّا الذي في قولِهِ تَعَالى من سورةِ المُنافِقينَ: {لَوْلَا أَخَّرْتَني} الآيَةَ: 10، فقد أَثبَتَ الكلُّ ياءَ المتكلِّمِ فيها لِثُبُوتِها في الرَّسْمِ القرآنيِّ الكَريمِ.