أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا
(78)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {أَقِمِ الصَّلاةَ} اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الآيةِ عَقِبَ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَّ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَى نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْعِصْمَةِ وَبِالنُّصْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ آياتٍ، ذَكَّرَهُ هُنَا بِشُكْرِ النِّعْمَةِ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَعْظَمِ عِبَادَةٍ يَعْبُدُهُ بِهَا، وَبِالزِّيَادَةِ مِنْهَا، طَلَبًا لِازْدِيَادِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ الَّتي بَعْدَهَا: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا}. وَالْخِطَابُ لِحَضْرَةِ النَبِيَّ الكَرِيمِ ـ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَأَكْمَلُ التَسْليمِ، وَلَكِنْ قَدْ تَقَرَّرَ مِنِ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ أَنَّ خِطَابَ النَّبِيِّ بِتَشْرِيعٍ تَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ، إِلَّا إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ الْصَّحابةُ الكِرامُ ـ رضْوانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَشَاعَ بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ مَا كَانُوا يسْأَلُون عَن اخْتِصَاصِ حُكْمٍ إِلَّا فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ الْقَوِيِّ، كَمَنْ سَأَلَهُ: أَلَنَا هَذِهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: بَلْ لِلْأَبَدِ.
وَإِقَامَةُ الصَّلاةِ: جَعْلُهَا قَائِمَةً، وهُوَ مَجَازٌ فِي الْمُوَاظَبَةِ وَالْإِدَامَةِ. وهي مَصْدَرُ أَقامَ الَّذِي هُوَ مُعَدَّى قَامَ، عُدِّيَ إِلَيْهِ بِالْهَمْزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجَعْلِ، مِنْ قَامَتِ السُّوقُ إِذَا نَفَقَتْ وَتَدَاوَلَ النَّاسُ فِيهَا الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ، وقامَتِ الحَرْبُ إِذَا شَبَّتْ واسْتَعَرَ أُوارُها. وَأَصْلُ الْقِيَامِ فِي اللُّغَةِ الِانْتِصَابُ الْمُضَادُّ لِلْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَإِنَّمَا يَقُومُ الْقَائِمُ لِقَصْدِ عَمَلٍ صَعْبٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْ قُعُودٍ، وأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى النَّشَاطِ فِي قَوْلِهِمْ قَامَ بِالْأَمْرِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ للْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالْعِنَايَةَ بِهَا.
وَالصَّلَاةُ: اسْمٌ جَامِدٌ بِوَزْنِ "فَعَلَةَ" مُحَرَّكُ الْعَيْنِ (صَلَوَةَ)، وقد وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ يَمَّمْتُ مُرْتَحِلًا ..... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... جَفْنًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا
وَوَرَدَ عندُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ أَيضً فِي قَوْلِهِ:
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيــ ................ ــكِ طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا
فَأَمَّا الصَّلَاةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْآيَةِ فَهِيَ الْعِبَادَةُ الْمَخْصُوصَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى قِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَتَسْلِيمٍ.
قَالَ ابْنُ فَارِسٍ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ آبَائِهِمْ فِي لُغَاتِهِمْ فَلَمَّا جَاءَ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ، حَالَتْ أَحْوَالٌ، وَنُقِلَتْ أَلْفَاظٌ مِنْ مَوَاضِعَ إِلَى مَوَاضِعَ أُخَرَ بِزِيَادَاتٍ، وَمِمَّا جَاءَ فِي الشَّرْعِ الصَّلَاةَ وَقَدْ كَانُوا عَرَفُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هاتِهِ الهَيْأَةِ قَالَ الشاعرُ نَابِغَةُ بَني ذُبْيانَ:
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا ................... بَهِيجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَا فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تُعَرِّفْهُ بِمِثْلِ مَا أَتَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْأَعْدَادِ وَالْمَوَاقِيتِ.
ولَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ عَرَفُوا الصَّلَاةَ وَالسُّجُودَ وَالرُّكُوعَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، فَقَالَ مِنْ سُورَةِ إِبراهيمَ: {رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} الآية: 37، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمُ الْيَهُودُ يُصَلُّونَ أَيْ يَأْتُونَ عِبَادَتَهُمْ بِهَيْأَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَسَمَّوْا كَنِيسَتَهُمْ صَلَاةً، وَكَانَ بَيْنَهُمُ النَّصَارَى، وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ فِي ذِكْرِ دَفْنِ المَلِكِ النُّعْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ الْغَسَّانِيِّ:
فَآبَ مُصَلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ................... وَغُودِرَ بِالْجُولَانِ حَزْمٌ وَنَايِلُ
عَلَى رِوَايَةِ مُصَلُّوهُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ أَرَادَ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْنِهِ مِنَ الْقُسُسِ وَالرُّهْبَانِ، إِذْ قَدْ كَانَ مُنْتَصِرًا وَمِنْهُ الْبَيْتُ السَّابِقُ. وَعَرَفُوا السُّجُودَ أَيْضًا، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا ................... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ
وَقَدْ تَرَدَّدَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي اشْتِقَاقِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ قَوْمٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ "الصَّلَا" وَهُوَ عِرْقٌ غَلِيظٌ فِي وَسَطِ الظَّهْرِ وَيَفْتَرِقُ عِنْدَ عَجْبِ الذَّنَبِ فَيَكْتَنِفَهُ، فَيُقَالُ: حِينَئِذٍ هُمَا صَلَوَانٌ، وَلَمَّا كَانَ الْمُصَلِّي إِذَا انْحَنَى لِلرُّكُوعِ وَنَحْوِهِ تَحَرَّكَ ذَلِكَ الْعِرْقُ، اشْتُقَّتِ الصَّلَاةُ مِنْهُ، كَمَا يَقُولُونَ: أَنِفَ مِنْ كَذَا، إِذَا شَمَخَ بِأَنْفِهِ، لِأَنَّهُ يَرْفَعُهُ إِذَا اشْمَأَزَّ وَتَعَاظَمَ، فَهُوَ مِنَ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الْجَامِدِ، كَقَوْلِهِمُ: اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ، وَقَوْلِهِمْ: تَنَمَّرَ فُلَانٌ، وَقَوْلِ الصَّحَابِيَّةِ الجَليلَةِ أُمِّ زَرْعٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها: (زَوْجِي إِذَا دَخَلَ فَهِدَ وَإِذَا خَرَجَ أَسِدَ). وَالَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الِاشْتِقَاقِ هُنَا عَدَمُ صُلُوحِيَّةِ غَيْرِهِ، فَلَا يُعَدُّ الْقَوْلُ بِهِ ضَعِيفًا لِأَجْلِ قِلَّةِ الِاشْتِقَاقِ مِنَ الْجَوَامِدِ كَمَا تُوُهِّمَ. وَإِنَّمَا أُطْلِقَتِ الصلاةُ عَلَى الدُّعَاءِ أَيضًا لِأَنَّهُ يُلَازِمُ الْخُشُوعَ وَالِانْخِفَاضَ وَالتَّذَلُّلَ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ اسْمٌ جَامِدٌ، و "صَلَّى" إِذَا فَعَلَ الصَّلَاةَ وَاشْتَقُّوا "صَلَّى" مِنَ الصَّلَاةِ كَمَا اشْتَقُّوا (صَلَّى الْفَرَسُ) إِذَا جَاءَ مُعَاقِبًا لِلْفَرَسِ المُجَلِّي فِي خَيْلِ الْحَلَبَةِ، لِأَنَّهُ يَجِيءُ مُزَاحِمًا لَهُ فِي السَّبْقِ، وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى "صَلَا" سَابِقِهِ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ "الْمُصَلِّي" اسْمًا لِلْفَرَسِ الثَّانِي فِي خَيْلِ الْسِّبَاقِ. قالَ ابْنُ عَاشُورٍ في تَفْسِيرِهِ: وَمَا أَوْرَدَهُ الْفَخْرُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ دَعْوَى اشْتِقَاقِهَا مِنَ الصَّلْوَيْنِ يُفْضِي إِلَى طَعْنٍ عَظِيمٍ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مِنْ أَشَدِّ الْأَلْفَاظِ شُهْرَةً، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ تَحْرِيكِ الصَّلْوَيْنِ مِنْ أَبْعَدِ الْأَشْيَاءِ اشْتِهَارًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ، فَإِذَا جَوَّزْنَا أَنَّهُ خَفِيَ وَانْدَرَسَ حَتَّى لَا يَعْرِفَهُ إِلَّا الْآحَادُ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ فَلَا نَقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ اللهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهَا إِلَى أَفْهَامِنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ مَوْضُوعَةً لَمَعَانٍ أُخَرَ خَفِيَتْ عَلَيْنَا. التَحْريرُ وَالتَنْويرُ: (15/184 ـ 185). وَلِهَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَاشْتِهَارُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مَعَ عَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الْأَوَّلِ لَا يَقْدَحُ فِي نَقْلِهِ مِنْهُ.
قولُهُ: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الدُّلوكُ لُغَةً: المَيْلُ. وهوَ مُشْتَقٌ مِنَ الدَّلْكِ لأَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَ الشَّمْسِ حِينَئِذٍ يَدْلُكُ عَيْنَهُ. واللامُ للتَأْقِيتِ، فهي بِمَعْنَى: "عِنْدَ". وَ "دُلُوك الشَّمْسِ" زَوَالُهَا ـ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَيَتَنَاوَلُ وَقْتَ صَلاةِ الظُّهْرِ، وَيَشْمَلُ أَيْضًا وَقْتَ صَلاةِ الْعَصْرِ، بِدَلِيلِ الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ: "إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ". وَقِيلَ دُلُوكُ الشَّمْسِ: غُروبُها، وَهوَ اخْتِيارُ الفرَّاءِ في "مَعَاني القُرآنِ" (2/129). وابْنُ قُتَيْبَةَ في "الغَريبِ": (1/261)، واحْتَجَّ الفَرَّاءُ بِقَوْلِ الغَنَوِيِّ الشَّاعِرِ الرَّاجِزِ:
هَذَا مَقَامُ قدَمَيْ رَبَاحِ ......................... غُدْوَةً حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحِ
بَرَاحِ: اسْمُ الشَّمْسِ، ومَعْنَاهُ بِرَاحَةِ النَّاظِرِ لأَنَّهُ يَسْتَكْفِ بِراحَتِهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّمْسِ كَيْفَ مَيْلُهَا، وَمَا بَقِيَ لَهَا. وَدَلَكَتْ أَيْضًا: غَابَتْ، والعَرَبُ تَقُولُ: دَلَكَ النَّجْمُ: إِذَا غَابَ؛ ومِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
مَصَابِيْحُ لَيْسَتْ باللّواتي تَقُوْدُهَا .......... نُجُومٌ وَلاَ بالآفلاتِ الدَّوالِكِ
الدَّوالِكُ: الغارِبَاتُ. فَمَنْ جَعَلَ الدُّلوكَ اسْمًا لِغُروبِها فَلِأَنَّ الإِنْسانَ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ بِرَاحَتْهِ لِتَبَيُّنِها، وَمَنْ جَعَلَهُ اسْمًا لِزَوَالِهَا فَلِأَنَّهُ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ بِراحَتِهِ لِشِدَّةِ توهُّجِ شُعَاعِها. وَقِيلَ إِنَّ أَصْلَ الدُّلوكِ في اللُّغَةِ: المَيْلُ، فإِنَّ الشَّمْسَ تَميلُ عِنْدَ زَوَالِهَا وعِنْدَ غُروبِهَا فَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مِنْهُما.
قولُهُ: {إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} الْغَسَقُ: سَوَادُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ، وَيَشْمَلُ وَقْتَ صَلاتَي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ الإمامُ الْكِسَائِيُّ: غَسَقَ اللَّيْلُ غُسُوقًا، وَالِاسْمُ الْغَسَقُ، (بِفَتْحِ السِّينِ). وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلِ بْنِ خَرَشَةَ بْنِ زَيْدٍ المَازِنِي: غَسَقُ اللَّيْلِ دُخُولُ أَوَّلِهِ. ومِنْ ذَلِكَ قَولُ الشَّاعِرِ الأُمَويِّ: عُبَيْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ الْحِجَازِيُّ، (مِنَ البَحْرِ المَديدِ):
إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ........................ وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا
وَأَصْلُهُ مِنَ السَّيَلَانِ، يقالُ: غَسَقَتِ الْعَيْنُ، تَغْسِقُ، إِذا هَمَلَتْ بِالْمَاءِ، وَالْغَاسِقُ: السَّائِلُ، وَذَلِكَ أَنَّ الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ عَلَى الْعَالَمِ صَبًّا كانصِبابِ السيلِ. قَالَ الشَّاعِرُ زُهيرُ بْنُ أبي سُلْمَى:
ظَلَّتْ تَجُودُ يَدَاهَا وَهِيَ لَاهِيَةٌ .......... حَتَّى إِذَا هَجَمَ الْإِظْلَامُ وَالْغَسَقُ
فغَسَقَتِ العَيْنُ: امْتَلَأَتْ دَمْعًا، وَغَسَقَ الجَرْحُ: امْتَلَأَ دَمًا؛ فَكَأَنَّ الظُّلْمَةَ مَلَأَتِ الوُجودَ. وَسَأَلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، مَا الْغَسَقُ؟ قَالَ: اللَّيْلُ بِظُلْمَتِهِ. وقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: الغَسَقُ وَقْتُ صَلاةِ المَغْرِبِ. وَقَالَ مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: الغَسَقُ غُرُوبُ الشَّمْسِ. والغاسِقُ فِي قَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ الفَلَقِ: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الآيةَ: 3. قيلَ: المُرَادُ بِهِ: القَمَرُ، إِذا كَسَفَ، واسْوَدَّ. قَالَ ـ عليهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ، للسيِّدَةِ عَائِشَةَ، أُمِّ المُؤْمِنينَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، حِينَ رَأَتْ كُسُوفَ القَمَرِ: ((اسْتعِيذِي مِنْ شَرِّ الغَاسِقِ إِذَا وَقَبَ)) أخرجه الإمامُ التِرْمِذِيُّ في سُنَنِهِ.
وَقِيلَ: اللَّيلُ، والغَسَاقُ (بالتخفيفِ، وَالتَشْديدِ): مَا يَسِيلُ مِنْ صَديدِ أَهْلِ النَّارِ، وَيُقَالُ: غَسَقَ اللَّيلُ، وأَغْسَقَ، وَظَلَمَ، وأَظْلَمَ، ودَجَى وأَدْجى، وَغَبَشَ وَأَغْبَشَ، حكاهُ الفَرَّاءُ.
وقالَ الأَزْهَرِيُّ: غَسَقَ اللَّيْلُ عِنْدِي: غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ عِنْدَ تَرَاكُمِ الظُلْمَةِ، وَاشْتِدادِها. لأَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الشَّفَقَ عَلَى هَذَا المَعْنَى، دَخَلَتِ الصَّلَواتُ الأَرْبَعَةُ فِيهِ، وَهِيَ الظُهْرُ، والعَصْرُ، والمَغْرِبُ، والعِشَاءُ، وَلَوْ حَمَلْنَا الغَسَقَ عَلى ظُهُورِ أَوَّلِ الظُّلْمَةِ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الظُهْرُ وَالعَصْرُ.
قولُهُ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وَقَوْلُهُ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، أَيْ صَلَاةَ الصُّبْحِ، لأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى "أَقِمِ الصَلاةَ" والتَّقْدِيرُ: وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، أَيِ وأَقِمِ الصَّلَاةَ بِهِ. كَذَا قَدَّرَ الْقُرَّاءُ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ لِيُعْلَمَ أَنَّ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ قُرْآنًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المُزَمِّلِ: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الآية: 20، أَيْ صَلُّوا بِهِ نَافِلَةَ اللَّيْلِ. وَخُصَّ ذِكْرُ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا يُجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ رُكُوعِهَا، وَلِأَنَّ سُنَّتَهَا أَنْ يُقْرَأَ بِسُوَرٍ مِنْ طُوَالِ الْمُفَصَّلِ فَاسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ لِلْمَأْمُومِينَ أَكْثَرُ فِيهَا وَقِرَاءَتُهُ لِلْإِمَامِ وَالْفَذُّ أَكْثَرُ أَيْضًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ "وَقُرْآنَ الْفَجْرِ" عَطْفَ جُمْلَةٍ وَالْكَلَامُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: وَالْزَمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ حَتْمٌ.
وهَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَارَتْ لِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، ومِنَ الْآيَاتِ الْمُشِيرَةِ لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ هود: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الْآيَةَ: 114، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الرُّومِ: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الْآيَةَ: 17. فَقد كَانَ شَرْعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِلْأُمَّةِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُثْبَتٍ فِي التَّشْرِيعِ الْمُتَوَاتِرِ إِنَّمَا أَبْلَغَهُ النَّبِيُّ أَصْحَابَهُ فَيُوشِكُ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَأْتِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَيْضًا فَقَدْ عَيَّنَتِ الْآيَةُ أَوْقَاتًا لِلصَّلَوَاتِ بَعْدَ تَقَرُّرِ فَرْضِهَا، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَقِبَ حَادِثِ الْإِسْرَاءِ جَمْعًا لِلتَّشْرِيعِ الَّذِي شُرِعَ لِلْأُمَّةِ أَيَّامَئِذٍ الْمُبْتَدَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآية: 23، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُبَارَكَةِ: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ومَا بَعْدَهَا.
قولُهُ: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا} اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِتَخْصِيصِ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِاسْمِ الْقُرْآنِ بِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَشْهُودَةٌ، أَيْ مَحْضُورَةٌ. أَيْ تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي فَضْلِهَا وَبَرَكَتِهَا. فقدْ أَخْرَجَ الواحِدِيُّ في الوَسِيطِ: (3/121) عنْ أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((تَفْضُلُ صَلاةُ الْجَمَاعَةِ صَلاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ، وَمَلائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ)). ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}. وأخرجهُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِه: (2/233، رقم: 7185)، والْبُخَارِيُّ في صحيحهِ: (1/232، رقم: 621)، ومُسْلِمٌ: (1/450، رقم: 649)، والنَّسائيُّ: (1/241، رقم: 486)، وأَبُو عُوانَةَ: (1/315، رقم: 1118)، والبَيْهَقِيُّ: (1/359، رقم: 1566). وَأَيْضًا فَهِيَ يَحْضُرُهَا أَكْثَرُ الْمُصَلِّينَ لِأَنَّ وَقْتَهَا وَقْتُ النَّشَاطِ وَبَعْدَهَا يَنْتَظِرُ النَّاسُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لِيَخْرُجُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَيَكْثُرَ سَمَاعُ الْقُرْآن حِينَئِذٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} أَقِمِ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ، وحرِّكَ بالكسْرةِ لالتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أَنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. و "الصَّلاةَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "لِدُلُوكِ" اللَّامُ: هِيَ عَلَى بَابِها، حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ، أَيْ: لِأَجْلِ دُلُوكِ الشَّمْسِ. قَالَ الوَاحِدِيُّ: لِأَنَّها إِنَّمَا تَجِبُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ. وَيَجُوزُ أَنْ تُعْرَبَ ظَرْفَ زَمَانٍ بِمَعْنَى "بَعْدَ"، أَيّْ: بَعْدَ دُلوكِ الشَّمْسِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ يرثي أَخَاهُ مالكًا:
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَني ومَالِكًا ............... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
ومنْهُ قَوْلُهُمْ: فعلْتُ كذا لِثَلاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ كَذَا، وَهُوَ فِي الحَالِينِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَقِمِ"، و "دُلُوكِ" مجرورٌ بِهِ، وإِنَّما جُرَّ بِاللامِ لِعَدَمِ اتِّحَادِ الفَاعِلِ، فَفاعِلُ القِيَامِ المُخَاطَبُ، وفَاعِلُ الدُّلوكِ "الشَّمْس" وَزَمَنُهُمَا مُخْتَلِفٌ أَيْضًا، فَزَمَنُ الإِقَامَةِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَمَنِ الدُّلوكِ، وهوَ مُضافٌ. و "الشَّمْسِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "إِلى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَقِمِ" فهِيَ لانْتِهَاءِ غَايَةِ الإِقامَةِ، وكَذَلِكَ اللامُ فِي "لِدُلوكِ" مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. وقالَ أبو البقاءِ العُكْبُريُّ: بِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ "الصلاة"، أَيْ: أَقِمْهَا مَمْدودةً إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ. وَفِيهِ نَظَرٌ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدَّرَ المُتَعَلِّقَ كَوْنًا مُقَيَّدًا، إِلَّا إِذا أَنْ يُريدَ تَفْسِيرَ المَعْنَى لا الإِعْرَابَ. وَ "غَسَقِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجرِّ، وهوَ مُضافٌ. وَ "اللَّيْلِ" اسمٌ مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} الواوُ: حرفٌ للعطْفِ، و "قُرْآنَ" مَعْطُوفٌ عَلَى "الصَّلاةَ" منصوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ مِثْلها؛ أَيْ: وأَقِمْ صَلاةَ الفَجْرِ، ويجوزُ أنْ يُنْصَبَ عَلَى الإِغْراءِ؛ أَيْ: اِلْزَمْ قُرْآنَ الفَجْرِ، أَيْ: صَلاتَهُ، عبَّرَ عنها بذِكرِ بعْضِ أَركانِها. كَذَا قدَّرَهُ الأَخْفَشُ وَتَبِعَهُ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ، وأُصُولُ البَصْرِيِّينَ تَأْبَى هَذَا؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الأَفْعَالِ لا تَعْمَلُ مُضْمَرةً. أَوْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: كَثِّرْ قُرْآنَ الفَجْرِ، أَوِ الْزَمْ قُرْآنَ الفَجْرِ.
قولُهُ: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا} إِنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ نَاسِخٌ مُشَبَّهٌ بِالفِعْلِ، وَ "قُرْآنَ" اسْمُها مَنْصُوبٌ بِهَا، وَهوَ مُضافٌ. وَ "الْفَجْرِ" مَجْرورٌ بِالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. و "كَانَ" فعلٌ مَاضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "قُرْآنَ الْفَجْرِ". و "مَشْهُودًا" خَبَرُ "كَانَ" منصوبٌ بها. وجُمْلَةُ "كَانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" معَ اسمِها وخبرِها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.