أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} المَعْنَى: أَوْ هَلْ كُنْتُمْ آمَنِينَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ مَرَّةً أُخْرَى، فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ. فـ "أَمْ" لِلْإِضْرَابِ الانْتِقَالِيِّ، أَيْ: بَلْ أَأَمِنْتُمْ، وَهِيَ هُنَا لِلعَطْفِ والِاسْتِفْهَامِ، فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ مَعَ "أَمْ" لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهِ. وَ "تارةً أُخْرَى" مرَّةً أُخْرَى، فَالتَّارَةُ: بِمَعْنَى المَرَّةُ والكَرَّةُ، وهِيَ مَصْدَرٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى "تِيَرٍ" و "تاراتٍ". قالَ الشاعرُ ذو الرُّمَةِ:
وإِنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الماءُ تَارةً .............. فَيَبْدُ وَتَاراتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
وتَحْتَمِلُ أَلفُ "تارةً" أَنْ تَكونَ مُنْقَلِبَةً عَنْ وَاوٍ أَوْ يَاءٍ. فقِيلَ هوَ مِنْ تَارَ الجُرْحُ: إِذا الْتَأَمَ. وَقيلَ أَلِفُها وَاوٌ وَجَمْعُهَا تِيَرٌ، وتُجْمَعُ على تارتٍ أَيْضًا. وقالَ الفَرَّاءُ: والفِعْلُ مِنْهَا: أَتَرْتُ، أَيْ: أَعَدْتُ تَارَةً وَتَارَتَيْنِ وَتِيَرًا، مِثْلُ: قَامَةٍ وقِيَمٍ، ومنْ ذلكَ قولُ لَبيدٍ يَصِفُ عيرًا:
يُديمُ سَحِيلَهُ وَيُتِيرُ فِيهِ ......................... وَيُتْبِعُها خِنَافًا في زِمَالِ
أَيْ: يُديمُ نَهِيقَهُ ويُعِيدُهُ مَرَّةً أُخْرَى، وقِيلَ عَيْنُهُ هَمْزَةٌ ثُمَّ خُفِّفَتْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَهو الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِوُجُودِهِ مَهْمُوزًا وَهُمْ لَا يَهْمِزُونَ حَرْفَ الْعِلَّةِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَأَمَّا تَخْفِيفُ الْمَهْمُوزِ فَكَثِيرٌ مِثْلُ: فَأْسٍ وَفَاسٍ، وَكَأْسٍ وَكَاسٍ.
قولُهُ: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} الْقَاصِفُ: هِيَ الَّتِي تَكْسِرُ وتُعْطِبُ. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ: "قاصِفًا" مِنْ قَصَفَ المُتَعَدِّي، يُقالُ: قَصَفَتِ الريحُ الشَّجَرَ تَقْصِفُها قَصْفًا. قالَ الشَّاعرُ أَبُو تَمَّامٍ:
إِنَّ الرِّياحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ ........ عَيْدانَ نَجْدٍ ولم يَعْبَأْنَ بالرَّتَمِ
فالمَعْنَى: أَنَّها لَا تُلْفِي شَيْئًا إِلَّا قَصَفَتْه وكَسَرَتْهُ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ "قَصِفَ" قَاصرًا، أَيْ: صَارَ لَهُ قَصِيفٌ. ويُقالُ: قَصِفَتِ الريحُ تَقْصَفُ، أَيْ: صَوَّتَتْ. والقاصِفُ أَيْضًا: الكَاسِرُ بِشِدَّةٍ، يُقالُ: قَصَفَ الشَيْءَ يَقْصِفُهُ قَصْفًا، إِذا كَسَرَهُ كَسْرًا بِشِدَّةٍ، والقاصِفُ مِنَ الرِّيحِ التِي تَكْسِرُ الشَجَرَ وَتَدُقُّ كُلَّ شَيْءٍ وتَحْطِمُهُ. وَالْمَعْنَى: فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ رِيحًا قَاصِفًا، تَقْصِفُ الْفُلْكَ، أَيْ تُعْطِبُهُ بِحَيْثُ يَغْرَقُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَها: "فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ" أَيْ عُقوبَةً لَكُمْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، فَإنَّ أَصْلَ الْقَصْفِ: الْكَسْرُ. وَقَدْ غَلَبَ هَذَا الوَصْفُ عَلَى الرِّيحِ، فَعُومِلَ مُعَامَلَةَ الصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمُؤَنَّثِ، وَلَمْ يُتْبِعُوهُ عَلَامَةَ التَّأْنِيثِ، كَمَا فَعَلوا بِـ "عَاصِفٍ" مَثَلًا، ومِنْ ذلكَ قَولُهُ ـ تَعَالى جَدُّهُ، في الآيَةِ: 22، مِنْ سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ}. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَيُرْسل عَلَيْكُم قاصفًا مِنَ الرِّيحِ" قَالَ: الَّتِي تُغْرِقُ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، قَالَ: القاصِفُ والعَاصِفُ فِي الْبَحْرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "قاصِفًا" قَالَ: عَاصِفًا.
قولُهُ: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أَيْ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا مَنْ يَسْعَى إِلَيْهِ، وَلَا مَنْ يُطَالِبُ لَكُمْ بِثَأْرٍ مِنَهُ. والتَّبِيْع: المطالِبُ بِحَقِّ، المُلازِمُ، قَالَ الشَمَّاخُ يَصِفُ عُقابًا:
تَلُوذُ ثَعَالِبُ الشَّرْقَيْنِ مِنْهَا .................. كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ
أَيْ: كَعِيَاذِ الْمَدِينِ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي يُطَالِبُهُ بِغُرْمِهِ مِنْهُ. وقالَ شاعرٌ آخَرُ:
غَدَوْا وغَدَتْ غِزْلانُهم فكأَنَّها ............... ضَوامِنُ مِنْ غُرْمٍ لَهُنَّ تَبيعُ
وَهَذَا اِرْتِقَاءٌ فِي تَهْدِيدِهم بِعَدَمِ وُجُودِ مُنْقِذٍ لَهُمْ البَتَّةَ مِمَّا يُرادُ بِهِمْ، بَعْدَ أَنْ هَدَّدَهُمْ بِالْغَرَقِ، لِأَنَّ الْغَرِيقَ قَدْ يَجِدُ مُنْقِذًا. فإِنَّ "ثُمَّ" هُنَا حَرْفُ عَطْفٍ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، شَأْنُها فِي ذَلِكَ كشأْنِها فِي عَطْفِ الْجُمَلِ. أَمَّا التَّبِيعُ: فهو الْمُتَتَبِّعُ غَيْرَهُ، الْمُطَالِبُ لَهُ لِاقْتِضَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ، وهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي التَّابِعِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سورةِ البَقَرَة: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} الْآيَةَ: 178، وَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْمَطْلُ ظُلْمُ الْغَنِيِّ وَإِذا أُتْبِعَ أَحدُكم عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ)) أَخْرَجَهُ الأئمةُ: مالِك في المُوَطَّأِ: (418). وعبدُ الرَّزَّاقِ: (15356) عَنْ الثَّوْريِّ. والحُمَيْدِيُّ: (1032). وابْنُ أَبي شَيْبَةَ" (7/79(22403). وأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل: (2/245(7332). والدارِمِي: (2586). والبُخاريُّ: (2287). ومُسلم: (4007). وأَبُو داودَ: (3345). وابْنُ مَاجَةَ: (2403). والتِّرمِذيُّ: (1308). والنَّسائيُّ: (7/316). وأَبو يَعْلَى: (6283). وابْنُ حِبَّان: (5053 و5090). وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: "تَبِيعًا" أَيْ: نَصِيرًا، وَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: نَصِيرًا ثَائِرًا. فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: تَعَالى: "ثُمَّ لَا تَجِدوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا" قَالَ: نَصِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِد ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "تَبِيعًا" قَالَ: ثائِرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ثُمَّ لَا تَجِدوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا" قَالَ: لَا يَتْبَعُنَا أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وقد أَوْضَحَ ـ جَلَّ وَعَزَّ، فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الْكَرْبِ مِنْ حُقُوقِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.
وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: {..آللهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يشركونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ..} الْآيَاتِ: (59 ـ 62)، فَتَرَاهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ المُباركاتِ جَعَلَ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَا وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، كَخَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنْبَاتِهِ بِهِ الشَّجَرَ، وَجَعْلِهِ الْأَرْضَ قَرَارًا، وَجَعْلِهِ خِلَالَهَا أَنْهَارًا، وَجَعْلِهِ لَهَا رَوَاسِيَ، وَجَعْلِهِ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا، إِلَى آخَرِ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقد كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ سَبَبَ إِسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، فَإِنَّهُ لِمَا فَتَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ، ذَهَبَ فَارًّا مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ، فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمُ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ وَحْدَهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي نَفْسِهِ: وَاللهِ إِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، لَئِنْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهُ لَأَذْهَبَنَّ، فَلَأَضَعَنَّ يَدِيَ فِي يَدِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَأَجِدَنَّهُ رَؤوفًا رَحِيمًا. فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ، وَقدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وأَبْلَى بَلاءً حَسَنًا في مَعَارِكِ الفُتُوحِاتِ الإِسْلامِيَّةِ، كقائدٍ مِنْ ألمعِ قادتِها، مجاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} أَمْ: مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى "بَلْ"، والهمزةُ للاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ. و "أَمِنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلٌ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {أَفَأَمِنْتُمْ} مِنَ الجملةِ التي قبلَها، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ "أَمْ" مُتَصِلَةً؛ أَيْ: أَيُّ الأَمْرَيْنِ كائنٌ. و "أَنْ" حرفٌ نَاصِبٌ مَصْدَرِيٌّ. و "يُعِيدَكُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بـ "أَنْ"، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. وجُمْلَةُ: "يُعيدَكم" صِلَةُ المَوْصُولِ الحَرْفِيِّ "أَنْ" لا مَحَلَّ لَهَا منَ الإعرابِ. وَ "فِيهِ" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُعِيدَ" والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "تارَةً" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةُ الزَّمَانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا بِـ "يُعيدَ". و "أُخْرى" صِفَةٌ لِـ "تَارَةً" منصوبةٌ مثلُها. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، والتَقْديرُ: أَمْ أَمِنْتُمْ إِعادَتَهُ إِيَّاكم فيهِ، أَيْ: إِعادَتَكم فِي البَحْرِ، مَرْةً أُخْرَى.
قولُهُ: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ. و "يُرْسِلَ" مَعْطوفٌ عَلَى "يُعيدَ"، وَفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تعالى. و "عَلَيْكُمْ" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُرْسِلَ"، و كاف الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "قاصِفًا" مَفعْولٌ بِهِ منصوبٌ، و :مِنَ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "قاصِفًا"، و "الرِّيحِ" مجرورٌ بحرْفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يُعيدَ". لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْراب.
قوْلُهُ: {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَعْقيبِ. و "يُغْرِقَكم" فِعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ بِـ "أَنْ" عَطْفًا عَلَى "يُرْسِلَ" وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ وسَبَبٍ، و "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "كَفَرْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضمير رفعٍ مُتَحَرِّكٌ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتَاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ صِلَةُ "مَا" المَصْدَرِيَّةِ. وَ "مَا" مَعَ صِلَتِهَا في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِـ "الباءِ"، والجارُّ وَالمَجْرورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُغْرِقَ"؛ أَيْ: فَيُغْرِقَكمْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ. ويَجوزُ أَنْ تَكُونَ "ما" بِمَعْنَى الذي، والباءُ للسَبَبِيَّةِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ فَحَذِفَتِ الباءُ، فَوَصَلَ الفِعْلُ إِلى الضَميرِ، وإِنَّما احْتِيجَ إِلى ذَلِكَ لاخْتِلافِ المُتَعَلِّقِ.
قوْلُهُ: {ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وترتيبٍ، و "لا" نَافِيَةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "تَجِدُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" عَطفًا عَلى "يُغرِقَ" وَعَلامَةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "لَكُمْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بحالٍ مِنْ "تَبِيعًا" لأَنَّهُ كانَ فِي الأَصْلِ صِفَةً لِـ "تَبِيعًا" فَقُدِّمَ عَلَيْهِ فأَصْبحَ لهُ حلًا كما هو في قوْلِ أَبي الطَيِّبِ المُتَنَبِّي:
لَوْلا مُفَارَقَةُ الأَحْبَابِ مَا وَجَدَتْ ........... لَهَا المَنَايَا إلَى أَرْوَاحِنَا سُبُلَا
فقولُهُ: "لَهَا" مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ "سُبُلًا" لأَنَّهُ صَفَةُ نَكِرَةٍ، قُدِّمَتْ عَلَيْها، وَلا يَجوزُ تَعَلُّقُهُ بِـ "وَجَدَتْ"، لأَنَّ وَجَدَ لَا يَتَعَدَّى بِاللّامِ، وإِنَّما يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وكافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الَجرِّ، والمِيمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "عَلَيْنا" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ "تَبِيعًا" أَيْضًا، و "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. وَ "بِهِ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَبِيعًا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "تَبِيعًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ بِـ "تَجِدُوا"، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَضَمَّنَ "تَبِيعًا" مَعْنَى "نَاصِرًا" فَيَكونُ "عَلَيْنَا" مُتَعَلِّقًا بِهِ؛ أَيْ: نَاصِرًا عَلَيْنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {مِنَ الرِّيحِ} بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "مِنَ الرِّيَاحِ" بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {فيُغْرِقَكم}، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَمُجاهِدٌ "تُغْرِقَكُمْ" بالتَّاءِ، فَيعودُ الضميرُ عَلَى الرِّيحِ، وَقَرَأَ حُمَيْدُ "نُغْرِقكُّمْ" بِالنُّونِ، وَأَدْغَمَ القَافَ في الكافِ، وَرُوِيَتْ كَذَلِكَ عَنْ أَبي عَمْرٍو بْنِ العَلاءِ، وابْنِ مُحَيْصِنٍ. وَقَرَأَ الحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ "يُغَرِّقَكم"، بِتَشْديدِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، ومُجاهِدٌ "فَتُغْرِقَكم" بالتاءِ مِنْ فَوْقُ، أُسْنِدَ الفِعْلُ لِضَمِيرِ الرِّيحِ. وَفي كِتَابِ الشيْخِ أبي حيَّان الأندلُسيِّ "فَتُغْرِقَكم" بِتَاءِ الخِطَابِ مُسْنَدًا إِلَى "الرِّيحِ". وقَرَأَ الحَسَنُ وأَبُو رَجاءٍ "يُغَرِّقَكم" بِيَاءِ الغَيْبَةِ وَفَتْحِ الغَيْنِ وَتَشْديدِ الرَّاءِ، عَدَّاهُ بالتَضْعيفِ، والمُقْرِئُ لأَبي جَعْفَرٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ بِتَاءِ الخِطابِ. وهَذَا: إِمَّا سَهْوٌ، وإِمَّا تَصْحِيفٌ مِنَ النُّسَّاخِ عَلَيْهِ؛ فكيفَ يَسْتقيمُ أَنْ يَقُولَ بِتَاءِ الخِطابِ وَهوَ مُسْنَدٌ إِلى ضَميرِ الرِّيحِ، وكَأَنَّهُ أَرادَ: "بِتَاءِ التَأْنيثِ" فَسَبَقَهُ قَلَمُهُ أَوْ أَنَّ غَيْرُهُ صَحَّفَ عَلَيْهِ. واللهُ أعلمُ.