وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا
(36)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: لَا تَكُنْ فِي اتِّباعِ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْل ٍكَمَنْ يَسْلُكُ طريقًا لا يَدْري إِنْ كانَ سَيُوصِلُهُ إِلى مَقْصِدِهِ أَمْ لَا.
والْقَفْوُ: الِاتِّبَاعُ، يُقَالُ: قَفَاهُ، يَقْفُوهُ، إِذَا اتَّبَعَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ الْقَفَا، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْعُنُقِ. وَقد اسْتُعِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِلْعَمَلِ. قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ: أَصْلُ الْقَفْوِ الْبَهْتُ، وَالْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشَّريفُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أّنَّهُ قالَ: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا)). أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في مُسْنَدِهِ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الكِنْدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي وَفْدٍ لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنِّي أَفْضَلُهُمْ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّكُمْ مِنَّا. قَالَ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: ((نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا)). قَالَ: فَكَانَ الْأَشْعَثُ يَقُولُ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَفَى قُرَيْشًا مِنْ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ. أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: الطَيَالِسِيُّ: (ص: 141، رقم: 1049)، وأَحمَدُ: (5/211، رقم: 21888)، وابْنُ مَاجَهْ: (2/871، رقم: 2612)، قالَ البُوصِيرِيُّ: (3/118): هَذَا إِسْنَادٌ صَحيحٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وأَخرَجَهُ عَنْهُ أَيضًا ابْنُ سَعْدٍ: (1/23)، وابْنُ قانِعٍ: (1/60)، والطَبَرانيُّ: (1/235، رقم: 645)، والضِيَاءُ المَقدِسِيُّ: (4/303، رقم: 1487). وأَخرَجَهُ الطبَرانِيُّ أيْضًا، وأَبو نُعَيْمٍ، والضِيَاءُ المقدسيُّ عَنْ الْجُفْشِيشِ بْنِ النُّعْمَانِ الْكِنْدِيُّ، ويُكْنَى أَبَا الْخَيْرِ، وَالْجُفْشِيشُ لَقَبُهُ، وَاسْمُهُ مَعْدَانُ، وقد جاءَ في وَفْدِ الأَشْعَثِ الكنديِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، لِمُبايَعَةِ النَّبِيِّ، صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عَليْهِ. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا البَيْهَقِيُّ في دَلائلِ النُبُوَّةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَقَوْلُهُ ـ صَلَواتُ اللهُ تَعَالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لَا نَقْفُو أُمَّنَا)). أَيْ: لَا نَقْذِفُ أُمَّنَا وَلا نَسُبُّهَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ .......... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا
ومنهُ أَيْضًا قَوْلُ الْكُمَيْتِ الأَسَدِيِّ:
فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ............... وَلَا أَقْفُو الْحَوَاصِنَ إِنْ قُفِينَا
وَالظاهِرُ أَنَّ أَصْلَ الْقَفْوِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الِاتِّبَاعُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ اتِّبَاعُ الْمَسَاوِي، كَمَا ذَكَرَهُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْلَهُ هُوَ الْقَذْفُ وَالْبُهْتُ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تقْفُ" قَالَ: لَا تَقُلْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" قَالَ: لَا تَقُلْ: سَمِعْتُ، وَلَمْ تَسْمَعْ. وَلَا تَقُلْ: رَأَيْتُ، وَلَمْ تَرَ. فَإِنَّ اللهَ ـ تَعاَلَى، سَائِلُكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قالَ: يَقُولُ: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ أَيْضًا، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ابْنِ عليِّ بْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"، قَالَ: هَذَا فِي الْفِرْيَةِ.
وَالْمُرَادُ بِـ "مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" الْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا غَلَبَةَ ظَنٍّ بِهِ. وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا خَلَّةٌ مِنْ خِلَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهِيَ الطَّعْنُ فِي أَنْسَابِ النَّاسِ، فَقد كَانُوا يَرْمُونَ النِّسَاءَ بِرِجَالٍ لَيْسُوا بِأَزْوَاجِهِنَّ، وَيَلِيطُونَ بَعْضَ الْأَوْلَادِ بِغَيْرِ آبَائِهِمْ بُهْتَانًا وزُورًا، أَوْ عنْ سُوءِ ظَنٍّ مِنْهم، وذلكَ إِذَا رَأَوْا بُعْدًا فِي الشَّبَهِ بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ، أَوْ رَأَوْا شَبَهَهُ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنَ الْحَيِّ، أَوْ رَأَوْا لَوْنًا مُخَالِفًا لِلَوْنِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ، كلُّ ذَلِكَ تَخَرُّصًا مِنْهُمْ، وَجَهْلًا بِأَسْبَابِ التَّشَكُّلِ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَنْزِعُ فِي الشَّبَهِ، وَفِي اللَّوْنِ، إِلَى أُصُولٍ مِنْ سِلْسِلَةِ الْآبَاءِ، أَوِ الْأُمَّهَاتِ الْأَدْنَيْنَ، أَوِ الْأَبْعَدِينَ، وَجَهْلًا بِالشَّبَهِ النَّاشِئِ عَنِ الوَحْمِ.
رُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ وَلَدًا أَسْوَدَ، (يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْهُ). فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟)). قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ((مَا أَلْوَانُهُنَّ؟)). قَالَ: وُرْقٌ. قَالَ: ((وَهَلْ فِيهَا مِنْ جَمَلٍ أَسْوَدَ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((فَمِنْ أَيْنَ ذَلِكَ؟)). قَالَ: لَعَلَّهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. فَقَالَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَلَعَلَّ ابْنَكَ نَزَعَهُ عِرْقٌ))، وَنَهَاهُ عَنِ الِانْتِفَاءِ مِنْهُ. وكانَ هَذَا شَائِعًا فِي مُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَهَى اللهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَى، وَغَيْرهُ مِنَ الْمَسَاوِئِ بِدُونِ مُشَاهَدَةٍ. وَرُبَّمَا رَمَوُا الْجِيرَةَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُهُمْ إِذَا غَابَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ. لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ يُلْصِقُوا بِهَا تُهْمَةً بِبَعْضِ جِيرَتِهَا. وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ إِذَا تَزَوَّجَ مِنْهُمْ شَيْخٌ مُسِنٌّ امْرَأَةً شَابَّةً، فَوَلَدَتْ لَهُ مولودًا، أَلْصَقُوا الْوَلَدَ بِبَعْضِ الْجِيرَةِ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا قَالَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا: ((سَلُونِي)). أَكْثَرَ الْحَاضِرُونَ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مَنْ أَبِي؟ فَيَقُولُ لهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أَبُوكَ فُلَانٌ.
وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، لِأَنَّ أُسَامَةَ كَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبُوهُ أَبْيَضَ أَزْهَرَ، وَقَدْ أَثْبَتَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ أُسَامَةَ هوَ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. فَهَذَا خُلُقٌ بَاطِلٌ كَانَ مُتَفَشِّيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَهَى اللهُ ـ تَعَالى، الْمُسْلِمِينَ في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ عَنْ سُوءِ أَثَرِهِ.
وَمِنْهَا تَجَنُّبُ الْكَذِبِ. وَقَدْ تقَدَّمَ قَوْلُ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ مَعنى: "لَا تَقْفُ": لَا تَقُلْ رَأَيْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَرَ، وَلَا سَمِعْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ، وَلا عَلِمْتُ، وَأَنْتَ لَمْ تَعْلَمْ.
وَمِنْهَا شَهَادَةُ الزُّورِ، وَقد شَمِلَهَا هَذَا النَّهْيُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ جَمَاعَةٌ منْهمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةَ، ابْنُ عليِّ ابْنِ أَبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، وَجَمَاعَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا في الحَديثِ غَيْرَ بَعِيدٍ. وَمَا يَشْهَدُ لِإِرَادَةِ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي تَعْلِيلُ النَّهْيِ بِجُمْلَةِ "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا"، فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ سَتُسْأَلُ عَمَّا تُسْنِدُهُ إِلَى سَمْعِكَ وَبَصَرِكَ وَعَقْلِكَ، بِأَنَّ مَرَاجِعَ الْقَفْوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَى نِسْبَةٍ لِسَمْعٍ، أَوْ بَصَرٍ، أَوْ عَقْلٍ، فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ.
وَهَذَا أَدَبٌ خُلُقِيٌّ عَظِيمٌ، وَهُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ عَقْلِيٌّ جَلِيلٌ، يُعَلِّمُ الْأُمَّةَ الإسلامِيَّةَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْخَوَاطِرِ الْعَقْلِيَّةِ، بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِطُ عِنْدَهَا الْمَعْلُومُ وَالْمَظْنُونُ وَالْمَوْهُومُ. ثُمَّ هُوَ أَيْضًا إِصْلَاحٌ اجْتِمَاعِيٌّ جَلِيلٌ يُجَنِّبُ الْأُمَّةَ الْوُقُوعَ فِي الْمَهَالِكِ الْأَضْرَارِ، وَالْإِيقَاعَ فيها جَرَّاءَ الِاسْتِنَادِ إِلَى أَدِلَّةٍ مَوْهُومَةٍ.
وقدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ مَنَعَ اتِّبَاعَ الظَنِّ، وجَوَابُهُ أَنَّ المُرادَ بِالعِلْمِ هوَ الاعْتِقادُ الرَّاجِحُ المُسْتَفَادُ مِنْ سَنَدٍ ـ قَطْعيًّا كانَ أَوْ ظَنِّيًّا، واسْتِعْمالُهُ بِهَذا المَعْنَى، مِمَّا لَا يُنْكَرُ شُيُوعُهُ.
وَقِيلَ إِنَّهُ مَخْصُوصٌ بالعقائدِ، وَقِيلَ بِالرَّمِيِ بالبُهتانِ وشَهادَةِ الزُّورِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ، حَبَسَهُ اللهُ تَعَالَى فِي رَدْغَةِ الخَبَالِ حَتَّى يَأْتيَ بالمَخْرَجِ)). فقدْ أَخْرَجَ الأَئمَّة الكِرامُ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعالى، منْ حَديثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنُهُما، أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ ضَادَّ اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَيْسَ بِالدِّينَارِ وَلَا بِالدِّرْهَمِ، وَلَكِنَّهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (2/70، برقم: 5385)، وأَبو داودَ: (3/305، برقم: 3597)، والطَبَرانِيُّ: (12/388، برقم: 13435)، والحاكِمُ في مُستدْرَكِهِ: (2/32، برقم: 2222)، وقالَ: صَحيحُ الإِسْنَادِ، والبَيْهَقِيُّ: (6/82، برقم: 11223).
ويَدْخُلُ فِي قولِهِ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" كُلُّ قَوْلٍ بِلَا عِلْمٍ، كقَوْلِ المَرْءِ: رَأَيْتُ، وَلَمْ يَرَ، وَسَمِعْتُ، وَلَمْ يَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ، وَلَمْ يَعْلَمْ. وَأَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُ. وَالْآيَاتُ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 169، مِنْ سُورَةِ البقَرةِ: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وقولُهُ مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} الآية: 157، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الأَعْراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية: 33، وقولُهُ مِنْ سُورَةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} الآية: 59، وَقَوْلُهُ منْ سُورةِ الحُجُرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} الْآيَةَ: 12، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} الآيةَ: 28. وَأَيضًا فَقدْ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ اتِّباعِ الظَنِّ وَعَدَّهُ أَكْذَبَ الحَديثِ، قَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، لَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: (بِرَقَم: 20228). والإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبَلٍ: (2/312، بِرقم: 8103). والبُخَاريُّ: (برقم: 6064). وغيرُهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّمَا رَجُلٍ شَاعَ عَلى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ، وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ كَانَ حَقًا عَلَى اللهِ أَنْ يُذيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، حَتَّى يَأْتِي بِنَفَاذِ مَا قَالَ)). وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدُ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي الصَّمْتِ، عَنْ معَاذِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قالَ: ((مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ، بَعَثَ اللهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ، حَبَسَهُ اللهُ عَلى جِسْرِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)). وفي روايةٍ: ((وليسَ بِخارجٍ)).
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" دَلَّ عَلَى جَوَازِ مَا لَنَا بِهِ عِلْمٌ، فَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْإِنْسَانُ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ. وَبِهَذَا احْتَجَجْنَا عَلَى إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ وَالْخَرْصِ، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَقَدْ يُسَمَّى عِلْمًا اتِّسَاعًا، فَالْقَائِفُ يُلْحِقُ الْوَلَدَ بِأَبِيهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا، كَمَا يُلْحِقُ الْفَقِيهُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ عَنْ طَرِيقِ الشَّبَهِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ السيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: ((أَلَمْ تَرَيْ أَنْ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ)) وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ: وَكَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا. أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ الكرامُ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى: البُخَارِيُّ: (برقم: 3362)، و (3525)، و (6388، 6389)، ومُسْلِمٌ: (برقم: 1459/38 ــ 40)، وأَبو داوُدَ: (برقم: 2267، 2268)، والنَّسائيُّ: (برقم: 3493، 3494)، والتِرْمِذِيُّ: (برقم: 2129)، وابْنُ مَاجَهْ: (برقم: 2349).
ومَعْلُومٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا بِقِصَّةِ الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي لَاعَنَتْ زَوْجَهَا، وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ شَبِيهٍ جِدًّا بِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّبَهَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ زِنًى، وَلَمْ يَجْلِدِ الْمَرْأَةَ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ تَثْبُتُ بِهِ الْأَنْسَابُ لَأَثْبَتَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، فَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ إِقَامَةُ الْحَدَّ عَلَيْهَا، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ الْوَلَدَ ابْنُ زِنًى، وَلَمْ يَفْعَلِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِهِمْ ـ رحمَهُمُ اللهُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اعْتِبَارِ أَقْوَالِ الْقَافَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ، مُحْتَجِّينَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ السيِّدةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُرَّ بِقَوْلِ مُجَزِّزِ بْنِ الْأَعْوَرِ الْمُدْلِجِيِّ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامِ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ مِنَ السُّرُورِ ـ وقدْ تقدَّمَ. قَالُوا: وَمَا كَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُسَرَّ بِالْبَاطِلِ وَلَا يُعْجِبَهُ، بَلْ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَقِّ لَا مِنَ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ وَحْدَهُ كَافٍ فِي مَشْرُوعِيَّةِ مَا قَرَّرَ عَلَيْهِ، وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ زَادَ السُّرُورُ بِالْأَمْرِ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ.