وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} إِعَادَةُ فِعْلِ "جَعَلَ" هُنَا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ جَعْلٌ آخَرُ مُخْتَلِفٌ عنِ الجَعْلِ الأَوَّلِ الذي ذُكِرَ في الآيَةِ التي قَبْلَها حَيْثُ كانَ جَعْلُ الْحِجَابِ الْمَسْتُورِ هُنَاكَ جَعْلَ الصِّرْفَةِ عَنِ الْإِضْرَارِ، أَمَّا هُنَا فَهُوَ جَعْلُ عَدَمِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ خِلْقةً فِي نُفُوسِهِمْ. و "أَكِنَّةً" أْيْ: أَغْطِيَة، وهو جَمْعُ "كِنَانٍ"، وَيَشْمَلُ كُلُّ مَا يُكِنُّ الشَّيْءَ، ويُغَطِّيهِ، ويَسْتُرُهُ، فهوَ كِنٌّ لَهُ، أَي حِجابٌ وستْرٌ وغِطاءٌ يُخْفِيهِ فلا يَرَى شَيْئًا، ولا يراهُ شيْءٌ.
و "أَنْ يفقهوهُ": أَنْ يَقِفُوا عَلَى كُنْهِهِ، ويَعْرِفوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ تباركَ وتَعالى. والمعنى أَنَّ اللهَ تعَالَى جَعَلَ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ أَكِنَّة تَسْتُرُها حَتَّى لا تَفْقَهَ مَعْنَى مَا تَسْمَعُهُ آذانُهم مِنْ كتابِ اللهِ حتَّى لا تَنْتَفِعَ بِهُداهُ.
فَالفِقْهُ بالشَّيْءِ: فَهْمُهُ والعِلْمُ بِهِ، وإِذا أُطْلِقَ "الفِقْهُ" فالمَقْصُودُ بِهِ عِلْمُ الدِّينِ، وذَلِكَ لِسِيادَتِهِ وَشَرَفِهِ وَفَضْلِهِ عَلَى سائِرِ أَنْوَاعِ العِلْمِ. قالَ تعالى مِنْ سُورةِ التَوْبَةِ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الآية: 122، أَيْ ليَكونُوا عُلَماءِ بِهِ. ومنهُ دُعاءُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لعبدِ اللهِ ابْنِ عمِّهِ العَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الدِّينَ وَفَقِّهْهُ فِي التَأْويلِ)) أَيْ: فَهِّمْهُ تأْويلَهُ ومَعْنَاهُ. يُقَالُ فَقُهَ فَقاهَةً، وَهُوَ فَقِيهٌ مِنْ قَوْمٍ فُقَهاءَ، والأُنْثَى فَقِيهَةٌ، والجمعُ فَقَائِهُ. وفَقُهَ الرَّجُلُ وفَقِهَ فَقَهًا وفِقْهًا، وفَقِهَ الشَّيْءَ: عَلِمَهُ، وفَقَّهَهُ، وأَفْقَهَهُ: عَلَّمَهُ، وأَفْقَهْتُهُ أَنَا: أَيْ: بَيَّنْتُ لَهُ تَعَلُّمَ الفِقْهَ. وقَدْ فَقُهَ يَفْقُهُ فَقَاهَةَ إِذا صَارَ فَقِيهًا، ويُقالُ فَقِهَ عَنِّي كلامِي، يَفْقَهُ، أَي: فَهِمَ، ومِنْهُ قولُ سَلْمَانَ الفارِسِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لمَّا نَزَلَ عَلَى نَبَطِيَّةٍ بالعِرَاقِ، وَقَالَ لَهَا: هَلْ هُنَا مَكانٌ نَظيفٌ أُصَلِّي فِيهِ؟. فَقَالَتْ طَهِّرْ قَلْبَكَ، وَصَلِّ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ سَلْمَان: فَقِهَتْ، أَيْ فَهِمَتْ، وفَطِنَتْ للحَقِّ. فإنَّ المَعْنَى أَنَّها فَقِهَتْ هَذَا المَعْنَى الذي خَاطَبَتْهُ بِهِ، وَلَوْ قَالَ "فَقُهَتْ" كانَ مَعْنَاهُ: صَارَتْ فَقِيهَةً. وَفَقَاهَةُ الرَّجُلِ، فِقْهُهُ، وكُلُّ عَالِمٍ بِشَيْءٍ فَهُوَ فَقِيهٌ فيهِ.
قولُهُ: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} الوَقْرُ في الآذانِ: هُوَ الصَمَمُ فيها، أَوْ الثِقَلُ فِي السَّمْعِ، وفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، أَيْ: وَفِي آذانِهم وَقْرًا أَنْ يَسْمَعُوهُ، حتَّى يَسْمَعُوهُ سَمَاعَ قَبُولٍ واهْتداءٍ وَانْتِفَاعٍ بِهِ.
وَقد بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ سَبَبَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْقُلُوبِ، وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِسماعِ الهُدَى، أَلَا وَهُوَ كُفْرُهُمْ، ولذلك فَقد جَازَاهُمُ اللهُ عَلَى كُفْرِهِمْ، بِطَمْسِ بَصَائِرِ، وَإِزَاغَةِ قُلُوبِهم، وَالطَّبْعِ، أَوِ الْخَتْمِ عَلَيْها، وَبالْأَكِنَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ وُصُولِ الْخَيْرِ إِلَيْهَا، فَقَالَ مِنْ سُورَةِ البَقَرَة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا} الْآيَةَ: 102، وَقَالَ مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} الآية: 155، وَقَالَ منْ سُورَةِ الأَنْعامِ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 110، وَقَالَ منْ سُورَةِ التَوْبَةِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} الآيةَ: 125، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الصَّفِّ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} الْآيَةَ: 5، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ المُبارَكَاتِ.
قولُهُ: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} أَيْ: وإِذا قُلْتَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَأَنْتَ تَتْلُو الْقُرْآنَ. فقَد رُوِيَ عَنْ أَبي الْجَوْزَاءِ، أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قولُهُ: لَيْسَ شَيْءٌ أَطْرَدُ لِلشَّيَاطِينِ مِنَ الْقَلْبِ، مِنْ قَوْلِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، ثُمَّ تَلَا هذِهِ الآيةَ الكريمةَ: "وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُورًا". وَرُويَ عَنْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ الكريمةِ هُوَ البسمَلَةُ، أَي: قَوْلُهُ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
قولُهُ: {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ: أَي: أَدارُوا ظُهُورَهم، وَهَرَبُوا مُبْتَعِدينَ عَنْهُ لكَيْ لا يَسْتَمِعُوا إلى كَلِمَةِ الحَقِّ، نُفُورًا مِنْهَا، وَكُرْهًا لَهَا. فإنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ سَمَاعَها، فَضْلًا عَنِ الإيمانِ بها، واتِّبَاعِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ. فَتَوْلِيَةُ لرَّجُلِ: رُجُوعُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَى. و "عَلى أَدْبارِهِمْ": الْأَدْبَارُ: جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ الظَّهْرُ، أَيِ الْوَرَاءِ وَعُدِّيَ بِـ "عَلى" لِدَالَتِها عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ، أَيِ اسْتِعْلَاءِ طَرِيقِ السَّيْرِ، نُزِّلَتِ الْأَدْبَارُ الَّتِي يَكُونُ السَّيْرُ فِي جِهَتِهَا مَنْزِلَةَ الطَّرِيقِ الَّذِي يُسَارُ عَلَيْهِ. وَ "نُفُورًا" جَمْعُ "نَافِرٍ"، مِثْلُ "شُهُودٍ" جَمْعِ "شَاهِدٍ"، وَ "قُعُودٍ" جَمْعِ "قَاعِدٍ". وَوَزْنُ "فُعُولٍ" يَطَّرِدُ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ عَلَى صِيغَةِ الْمَصْدَرِ فَيَكُونُ "نُفُورًا" عَلَى هَذَا مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ "وَلَّوْا"، وَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِأَجْلِهِ، أَيْ: وَلَّوْا بِسَبَبِ نُفُورِهِمْ مِنْ الْقُرْآن الكريمِ وهُداهُ.
فإنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مَعَاني الْقُرْآنِ، اقْتَضَى أَنْ يُتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ فَهْمِ مَا فِيهِ منْ خَيْرٍ لَهُمْ، فَإِذَا سَمِعُوا مَا يُبْطِلُ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ، فَهِمُوا ذَلِكَ فَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا، أَيْ زَادَهُمْ ذَلِكَ الْفَهْمُ ضَلَالًا، كَمَا حَرَمَهُمْ عَدَمُ فَهْمِ ما فِيهِ هَدايةٌ لهم، فَحَالُهُمْ مُتَنَاقِضٌ. فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَحِقُّ أَنْ يُسْمَعَ، وَيَسْمَعُونَ مَا يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْمَعُوهُ وذَلِكَ لِيَزْدَادُوا بِهِ كُفْرًا. فإنَّ ظاهِرَ مَعْنَى "ذَكَرْتَ رَبَّكَ وَحْدَهُ" أَنَّكَ ذَكَرْتَهُ مُقْتَصِرًا عَلَى ذِكْرِهِ، وَلَمْ تَذْكُرْ آلِهَتَهُمْ لِأَنَّ "وَحْدَهُ" حَالٌ مِنْ "رَبَّكَ" الَّذِي هُوَ مَفْعُولُ "ذَكَرْتَ". وَمَعْنَى الْحَالِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْخَارِجِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، أَيْ كَانَ ذِكْرُكَ لَهُ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ فِي وُجُودِ الذِّكْرِ، فَيَكُونُ سببُ تَوَلِّي الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ حِينَئِذٍ هوَ الْغَضَبِ مِنَ عَدَمِ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ، وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهَا، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ إِلَّا لِعَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِهَا. وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمَا كَانَ لِتَوَلِّيهِمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ سَبَبٌ، لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْءٍ لَا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَذْكُرُونَ الْعُزَّى أَوِ اللَّاتَ مَثَلًا وَلَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهَا من الْأَصْنَام، لَا يَظُنُّ أَنَّ الذَّاكِرَ لِلْعُزَّى مُنْكِرٌ مَنَاةَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الزُمَر: {وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الآيَةَ: 45.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ بِتَوْحِيدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ ـ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِنُفُورِهِمْ وَتَوَلِّيهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ انْفِرَادَ اللهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَتَكُونُ دَلَالَةُ "وَحْدَهُ" عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ وَفِعْلِ ذَكَرْتَ.
وَتَخْصِيصُ الذِّكْرِ بِالْكَوْنِ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ لِمُنَاسَبَتِهِ الْكَلَامَ عَلَى أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، أَوْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْلِيمُ وَالدَّعْوَةُ إِلَى الدِّينِ، فَخُلُوُّ آيَاتِهِ عَنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ اللهِ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ فَمِنْ ثَمَّ يَغْضَبُونَ كُلَّمَا وَرَدَ ذِكْرُ اللهِ وَلَمْ تُذْكَرْ آلِهَتُهُمْ، فَكَوْنُهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْقَرِينَةَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ إِنْكَارَ آلِهَتِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلُّوا عَلَى أَدْبارِهمْ نُفُورًا" قَالَ: بُغْضًا لِمَا تَتَكَلَّم بِهِ لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ، كَمَا كَانَ قَوْمُ نُوحٍ ـ عَليْهِ السَّلامُ، يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهم فِي آذانِهمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنَ التَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلُّوا عَلَى أَدْبارِهمْ نُفُورًا" قَالَ: الشَّيَاطِينُ.
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ أَبي جَعْفَرَ مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: لِمَ كَتَمْتُمْ (بِسْمَ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فَنِعْمَ الِاسْمُ وَاللهِ كَتَمُوا، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذا دَخَلَ مَنْزِلَهُ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ فَيَجْهَرُ بـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهَا، فَتُوَلِّي قُرَيْشٌ فِرَارًا. فَأَنْزَلَ اللهُ: "وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلُّوا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا".
وفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَّدٌّ وَاضِحٌ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الشَّرَّ يَقَعُ بِمَشِيئَةِ العبدِ لَا بمشيئةِ اللهِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ أَنْ يَقَعَ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ لَيْسَ بِمَشِيئَتِهِ؟ عُلُوًّا كَبِيرًا. فهوَ القائلُ في كِتَابِهِ العَزيزِ: وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} الآيَة: 35، مِنْ سُورةِ الأَنعامِ، وقالَ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا} الآيةِ: 107، منَ السُّورةِ ذاتِها، وقالَ في الآيةِ: 13، مِنْ سُورَةِ السَّجْدَة: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الكَريماتِ.
قولُهُ تَعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "جَعَلْنا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، و "نا" التَعْظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "جَعَلْنا" مِنَ الآيةِ السابقةِ على كونِها جَواب شَرْطِ "إِذا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ. و "عَلى" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بالمَفْعُولِ الثاني لِـ "جَعَلْنا"، و "قُلُوبِهِمْ" مَجْررٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "أَكِنَّةً" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ منصوبٌ بِهِ.
قولُهُ: {أَنْ يَفْقَهُوهُ} أَنْ: حرفٌ نَاصِبٌ، مَصْدَريٌّ. و "يَفْقَهُوهُ" فِعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِإِضَافَةِ المَصْدَرِ المُقَدَّرِ إِلَيْهِ، والتَقْديرُ: كَرَاهِيَةَ فِقْهِهِمْ إِيَّاهُ، أَوْ مَجْرورٌ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ، تَقْديرُهُ: مِنْ فِقْهِهِمْ إِيَّاهُ، والجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَكِنَّةً".
قولُهُ: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} الوَاوُ حرفُ عَطْفٍ، و "فِي" حرفُ جرٍّ مَعْطوفٌ عَلَى حرفِ الجرِّ "على" مِنْ قولِهِ: "عَلى قُلُوبِهِمْ" عَلَى كَوْنِهِ متعلِّقًا بالمَفعولِ الثاني المقدَّرِ لـ "جَعَلْنا"، و "آذانِهِمْ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجرِّ، مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ، والميمُ: للجمعِ المُذكَّرِ. و "وَقْرًا" مَعْطُوفٌ عَلَى "أَكِنَّةً" عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا أَوَّلًا لِـ "جَعَلْنا".
قولُهُ: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "إِذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَمَانِ خافضٌ لشرطِهِ متعلِّقٌ بجوابِهِ. و "ذَكَرْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متَحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ فَاعِلٌ، و "رَبَّكَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ذَكَرْتَ"، وَ "الْقُرْآنِ" اسْمٌ مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "وَحْدَهُ" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ، وَإِنْ كانَ مَعْرِفَةً لَفْظًا، لأَنَّهُ فِي قُوَّةِ النَّكِرَةِ؛ إِذْ هوَ في مَعْنَى "مُنْفَرِدًا"، وَهَوَ عندَ سِيبَوَيْهِ مَصْدَرٌ أَوْ اسْمٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ المَصْدَرِ المَوْضُوعِ مَوْضِعَ الحَالِ، فَـ "وَحْدَه" وُضِعَ مَوْضِعَ "إِيحاد" وَ "إيحاد" وُضِعَ مَوْضِعَ "مَوْحَد"، أَوْ هوَ مَصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوائِدِ عندَ غَيْرِ سِيبَوَيْهِ، إِذْ يُقُالُ: أَوْحَدَهُ يُوْحِدُهُ إِيحادًا، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ بِنَفْسِهِ لـ "وَحَد" الثُلاثيّ. فقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: "وَحَدَ"، "يَحِدُ"، وَحْدًا، وَ "حِدَةُ" نَحْوَ: "وَعَدَ"، "يَعِدُ"، "وَعْدًا" و "عِدَةً". و "وَحْدَهُ" مِنْ بابِ: رَجَعَ عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ، وَ (افْعَلْهُ جُهْدَكَ وَطَاقَتَكَ) في أَنَّهُ مَصْدَرٌ سَادٌّ مَسَدَّ الحَالِ، أَصْلُهُ يَحِدُ وَحْدَهُ، بِمَعْنَى وَاحِدًا.
ويَجُوزُ أَنْ يكونَ مَنْصوبًا عَلَى الظَرْفِ، وَهُوَ قولُ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ. وَإِذا وَقَعَتْ هَذِهِ الحَالَ "وَحْدَهُ" خُصُوصًا بَعْدَ فَاعِلٍ ومَفْعُولٍ نَحْوَ: (ضَرَبَ زيدٌ عَمْرًا وَحْدَهُ)، فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ: أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الفَاعِلِ، أَيْ: مُوَحِّدًا لَهُ بِالضَرْبِ. ويجوزُ عِنْدَ أبي العَبَّاسِ المُبَرِّدِ أَنْ يَكونَ حالًا مِنَ المَفْعُولِ. فَعَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ يَكونُ التَقْديرُ: وإِذا ذَكرْتَ رَبَّكَ مُوَحِّدًا للهِ، وَعَلَى مَذْهَبِ المُبَرِّدِ يَجُوزُ أَنْ يَكونَ التَقْديرُ: مُوَحَّدًا بالذِّكْر. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الخَفْضِ بِإِضافَةِ "إِذا" إِلَيْهَا عَلى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والظَّرْفُ "إذا" مُتَعَلِّقٌ بِجَوابِهِ.
قوْلُهُ: {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} وَلَّوْا: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ المُقَدَّرِ عَلَى الأَلِفِ المَحْذوفَةِ لالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والألِفُ للتَّفْريقِ. و"عَلى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَلَّوْا"، أَوْ بحالٍ مِنْ فَاعِلِهِ، و "أَدْبارِهِمْ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "نُفُورًا" منصوبٌ على أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَعْنَوِيٌّ، لِـ "وَلَّوْا"، أَوْ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "وَلَّوْا" أَيْ: نَافِرينَ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ نَافِرٍ، وَجُمْلَةُ "وَلَّوْا" جَوَابُ "إذا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وجُمْلَةُ "إِذا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ كذلكَ لأنَّها جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ.