وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} أَمَرٌ مِنْهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، للْوَلِدِ أَنْ يَتَوَاضَعَ لَوالدَيْهِ تَوَاضُعًا يَبْلُغُ حَدَّ التَذَلُّلِ لَهُمَا، وَذَلِكَ لِإِزَالَةِ وَحْشَةِ نَفْسَيْهِمَا، إِنْ صَارَا فِي حَاجَةٍ إِلَى مَعُونَةِ الْوَلَدِ. وَالْقَصْدُ شُكْرُهُمَا عَلَى إِنْعَامِهِمَا السَّابِقِ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُبيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ" قَالَ: تَلِينُ لَهُمُا حَتَّى لَا يَمْتَنِعَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ" يَقُولُ اخْضَعْ لِوَالِدَيْكَ كَمَا يَخْضَعُ العَبْدُ للسَّيِّدِ الْفَظِّ الغَليظِ. وَأخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن عَطاءِ بْنِ أَبي رَبَاحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ" قَالَ: لَا تَرْفَعْ يَدَيْكَ عَلَيْهِمَا إِذا كَلَّمْتَهُما. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ" قَالَ: إِنْ أَغْضَبَاكَ فَلَا تَنْظُرْ إِلَيْهِمَا شَزَرًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُعْرَفُ غَضَبُ الْمَرْءِ بِشِدَّةٍ نَظَرَهُ إِلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ السيِّدةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا بَرَّ أَبَاهُ مَنْ حَدَّ إِلَيْهِ الطَّرْفَ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ" قَالَ: إِنْ سَبَّاكَ، أَوْ لَعَنَاكَ، فَقُلْ رَحِمَكُمَا اللهُ غَفَرَ اللهُ لَكُمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ" بِكَسْرِ الذَّالِ. وَأَخْرَجَ عَنْ عَاصِمٍ الجَحْدَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ. وَهُوَ خُلُقٌ نَدَبَنَا اللهُ إِلَيْهِ تَقْوِيَةً لِرابِطِ التَرَاحُمِ والتَآخِي فِي المُجْتَمَعِ الإِسْلامِيِّ، إِذْ قَالَ تَعَالَى مُخاطِبًا رَسُولَهُ ـ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} الآيَةَ: 88، مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ. وَوَصَفَ بِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِهِ المُؤْمِنينَ فَقَالَ مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ...} الآيَةَ: 29، وتَوَعَّدَ المُؤْمِنِينَ إِنْ هُمُ ارْتَدُّوا عَنْ دِينِهِ الحَنيفِ وَشَرْعِهِ الشَريفِ اسْتِكْبَارًا مِنْهُمْ وَتَكَبُّرًا بِأَنْ يَسْتَبْدِلَهُمْ بِآخَرينَ مُتَّصِفِينَ بِالتَراحُمِ فيما بَيْنَهمْ يَتَذَلَّلَ بَعْضُهم لِبَعْضِهِمُ الآخَرِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآيَةَ: 54، مِنْ سُورَةِ المائِدَةِ.
وَإِذا كانَ هَذَا شَأْنُ المُؤْمِنِ مَعَ إِخْوانِهِ في المُجْتَمَعِ المُسْلِمِ، فَأَنْ يَكونَ هَذَا خُلُقُهُ مَعَ وَالِدَيْهِ مِنْ بابٍ أَوْلَى.
وَقَدْ صِيغَ التَّعْبِيرُ عَنِ التَّوَاضُعِ بِتَصْوِيرِهِ فِي هَيْئَةِ تَذَلُّلِ الطَّائِرِ عِنْدَ مَا يَعْتَرِيهِ خَوْفٌ مِنْ طَائِرٍ أَشَدَّ مِنْهُ حِينَ يَخْفِضُ جَنَاحَهُ مُتَذَلِّلًا. فَفِي هَذَا التَّرْكِيبِ البَديعِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بَلِيغَةٌ، وذَلِكَ أَنَّ الطائرَ إِذَا أَرادَ الطَيَرَانَ نَشَرَ جناحَيْهِ وَرَفَعَهُمَا لِيَرْتَفِعَ، وإِذَا أَرَادَ تَرْكَ الطَيَرانِ خَفَضَ جَنَاحَيْهِ، فجَعَلَ خَفْضَ الجَنَاحِ كِنَايَةً عَنِ التَوَاضُعِ واللِّينِ. وفي مَعْنَى "جَناحَ الذُّلِّ" وجهانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكونَ المَعْنَى: واخفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ كَمَا قال منْ سورةِ مخاطِبًا النبيَّ الكريم: {واخفِضْ جناحَكَ للمُؤْمِنينِ} الآيَةَ: 88، مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ. فَأَضَافَهُ إِلَى الذُّلِّ أَوِ الذِّلِّ كَمَا أَضِيفَ حاتمٌ إِلَى الجُودِ عَلَى مَعْنَى: واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ الذَليلَ، أَوِ الذَّلُولَ. وثانيهُما: أَنْ تَجْعَلَ لِذُلِّهِ، أَوْ لِذِلِّهِ جَنَاحًا خفيضًا، كَمَا جَعَلَ لَبيدٌ للشَمَالِ يَدًا وللقَرَّةِ زِمامًا في قولِهِ:
وغداةِ ريحٍ قدْ كَشَفْتُ وقُرَّةٍ .......... إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَمالِ؟ زِمامُها
مبالَغةً في التَذَلُّلِ والتَواضُعِ لَهُمَا. يَعْني أَنَّهُ عَبَّرَ عَنِ اللِّينِ بالذُّلِ، ثُمَّ اسْتَعَارَ لَهُ جَنَاحًا، ثُمَّ رَشَّحَ هَذِهِ الاسْتِعَارَةَ بِأَنْ أَمَرَهُ الولَدَ بِخَفْضِ الجَناحِ لوالدَيْهِ. ومِنْ طَريفِ مَا يُحْكَى: أَنْ أَبَا تَمَّامٍ لَمَّا نَظَمَ قَوْلَهُ:
لا تَسْقِني مَاءَ المَلامِ فإِنَّني ............. صَبٌّ قَدْ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكائي
جاءَهُ رَجُلٌ بِقَصْعَةٍ وَقَالَ لَهُ: أَعْطِني شَيْئًا مِنْ مَاءِ المَلامِ. فَقَالَ: حتَّى تَأْتِيَني بِريشَةٍ مِنْ جَناحِ الذُّلِّ، يُريدُ أَنَّ هَذَا مَجَازُ اسْتِعَارَةٍ كَذَاكَ. وقالَ بَعْضُهم:
أَراشُوا جَناحِيْ ثُمَّ بَلُّوهُ بالنَّدَى ........... فَلَمْ أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهِمْ طَيَرَانَا
وَالْجَنَاحُ تَخَييلٌ بِمَنْزِلَةِ تَخْيِيلِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِ الشاعِرِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الهُذليِّ:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا .................. أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ
فقَدْ شَبَّهَها بالوَحْشِ المُفْتَرِسِ الذي يُنْشِبُ أَظْفَارَهُ فِي فَرِيسَتِهِ فيَقْتُلُها ويَفْتَرِسُها. وَهوَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ تَخْيِيلِ الْيَدِ لِلشَّمَالِ، وَالزِّمَامِ لِلْقُرَّةِ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ بْنِ رَبيعَةَ السابقِ:
وَغَدَاةَ رِيحٍ قَدْ كَشَفْتُ وَقُرَّةٍ ........... إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا
وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَمْثِيلٌ.
قولُهُ: {مِنَ الرَّحْمَةِ} مِنْ: للابْتِداءِ، أَيِ الذُّلِّ النَّاشِئِ عَنِ الرَّحْمَةِ لَا عَنِ الْخَوْفِ أَوْ عَنِ الْمُدَاهَنَةِ. وَ "الـ" التَّعْرِيفِ فِي "الرَّحْمَةِ" هي عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: مِنْ رَحْمَتِكَ إِيّاهُمَا، ورِفْقِكَ بِهِما. وَالْمَقْصُودُ تعْويدُ النَّفْسِ عَلَى أَنْ تَتَخَلَّقَ بِالرَّحْمَةِ والعطفِ على الوالدينِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَسْتَحْضِرَ دائمًا وُجُوبَ مُعَامَلَتِهِما بِالرَّحْمَةِ واللِّينِ والتَذَلُّلِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ خُلُقًا لَهَا، كَمَا قِيلَ قَديمًا: إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ.
قوْلُهُ: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} ثُمَّ أَمَرَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، أَنْ يَدْعُوَ الوَلَدُ لِوَالِدَيْهِ بالخَيْرِ والرَّحْمَةِ والمَغْفِرَةِ وَبِكُلِّ مَا فِيهِ راحَتُهُما في حَياتِهِمَا، وبَعْدَ وَفاتِهِمَا، مُتَذَكِّرًا دائمًا مَا لَهُمَا عَلَيْهِ مِنْ فَضْلٍ وأَيَادٍ بَيْضَاءَ بتَرْبيتِهِ وتَنْشِئَتِهِ حَتَّى كَبُرَ وقَوِيَ جِسْمُهُ، وبِتَعْلِيمِهِ وَتَهْذِيبِهِ، وتَعَهُّدِهِ يَوْمَ كانَ صَغِيرًا لا يَقْدِرُ أنْ يَجْلبَ لِنَفْسِهِ أَيِّ خيْرٍ، ولا أَنْ يَدْفَعَ عنها أَيَّ ضُرٍّ. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ أَبي مُرَّةَ، مَوْلَى عَقيلٍ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَتْ أُمُّهُ فِي بَيْتِ، وَهُوَ فِي آخَرُ، فَكَانَ يَقِفُ عَلَى بَابِهَا وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أُمَّتاهُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَتَقولُ: وَعَلَيْكَ يَا بُنَيَّ، فَيَقُول: رَحِمَكِ اللهُ كَمَا رَبَّيْتِني صَغِيرًا فَتَقولُ: رَحِمَكَ اللهُ كَمَا بَرَرْتَني كَبِيرًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: "وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا" ثمَّ أَنْزَلَ اللهُ بَعْدَ هَذَا (مَا كَانَ للنَّبِيِّ وَالَّذينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) الآيَة: 113، منْ سورةِ التَّوْبَةِ. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ أَيضًا، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} إِلَى قَوْلِهِ: "كَمَا رَبَّياني صَغِيرًا" قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي بَرَاءَة: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين} الآيَة: 113. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، والنَحَّاسُ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، فِي الْمَصَاحِفِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: نُسِخَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حَرْفٌ وَاحِدٌ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِوَالِدَيْهِ إِذا كَانُوا مُشْرِكينَ وَلَمْ يَقُلْ: "رَبِّ ارْحَمْهُما كَمَا رَبَّياني صَغِيرًا" وَلَكِن لِيَخْفِضَ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَلِيَقُل لَهُمُا قُوْلًا مَعْرُوفًا. قَالَ الله تَعَالَى في الآيَة: 113، مِنْ سُورَةِ التَوْبَةِ: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذينَ آمنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكِينَ}. وَبعدُ فهَذِهِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي كَيْفيَّةِ مُعامَلَةِ الْوَالِدَيْنِ، حتَّى وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، أَمَّا إذا أَمراهُ بشركٍ أو كفرٍ أوْ معصيةٍ للهِ تَعَالى فإِنَّهما لَا يُطَاعَانِ فِي مَعْصِيَةٍ أَوَ كُفْرٍ أَبدًا ويطاعان في ما سِوَى ذَلِكَ كَمَا جاءَ فِي الآيَةِ: 8، مِنْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، قالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا}.
وَمُقْتَضَى الْآيَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْبِرِّ وَإِرْضَاؤُهُمَا مَعًا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَوْرِدَهَا لِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْوَلَدِ نَحْوَ وَالِدَيْهِ وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلتَّسْوِيَةِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَبَوَانِ وَيَتَشَاحَّانِ فِي طَلَبِ فِعْلِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ رَغْبَتَيْهِمَا بِأَنْ يَأْمُرَهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِضِدِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى أَحْوَالٍ تُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ بِأَنْ يَسْعَى إِلَى الْعَمَلِ بِطَلَبَيْهِمَا إِنِ اسْتَطَاعَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: ((أُمُّكَ)). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ((ثُمَّ أُمُّكَ)). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ((ثُمَّ أُمُّكَ)). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ((ثُمَّ أَبُوكَ)). مُسْنَدُ الإمامِ أَحْمَدٍ، بِرَقَم: (9070)، وَصَحِيحُ البُخارِي، برقم: (5626)، وصحيحُ مُسْلِمٍ، برقم: (2548) سُنَنُ ابنِ ماجةَ، برقم: (2706)، وغيرُهم. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْأُمِّ لِأَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِأَبَوَيْهِ. وَلِلْعُلَمَاءِ في هذا أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: تَرْجِيحُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْمُحَاسِبِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الإمامِ مَالِكٍ، فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ: (23). عَنْ مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مَالِكًا فَقَالَ: إِنَّ أَبِي فِي بَلَدِ السُّودَانِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: أَطِعْ أَبَاكَ وَلَا تَعْصَ أُمَّكَ. وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْقَ أَنَّ مَالِكًا أَرَادَ مَنْعَ الِابْنِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى السُّودَانِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأُمِّ. ثَانِيهُما: قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْأَبَوَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْبِرِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي وُجُوبَ طَلَبِ التَّرْجِيحِ إِذَا أَمَرَا ابْنَهُمَا بِأَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ فِي كِتَابِ (الرِّعَايَةِ) أَنَّهُ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْبِرِّ وَلِلْأَبِ الرُّبُعَ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَيِ الْبِرِّ، وَلِلْأَبِ الثُّلُثَ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، لأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ: ثُمَّ أَبُوكَ.
وَالْوَجْهُ أَنَّ تَحْدِيدَ ذَلِكَ بِالْمِقْدَارِ حَوَالَةٌ عَلَى مَا لَا يَنْضَبِطُ وَأَنَّ مَحْمَلَ الْحَدِيثِ مَعَ اخْتِلَافِ رِوَايَتَيْهِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَرْجَحُ عَلَى الْإِجْمَالِ.
ثُمَّ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِرَحْمَةِ اللهِ إِيَّاهُمَا وَهِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ إِيصَالَهَا إِلَى أَبَوَيْهِ إِلَّا بِالِابْتِهَالِ إِلَى اللهِ ـ تَعَالَى.
وَقَدِ انْتَقَلَ إِلَى هَذَا انْتِقَالًا بَدِيعًا مِنْ قَوْلِهِ: "وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ" فَكَانَ ذِكْرُ رَحْمَةِ الْعَبْدِ مُنَاسَبَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى رَحْمَةِ اللهِ تعالى، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ التَّخَلُّقَ بِمَحَبَّةِ الْوَلَدِ الْخَيْرَ لِأَبَوَيْهِ يَدْفَعُهُ إِلَى مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهِ فِيمَا يَعْلَمَانِهِ، وَفِيمَا يَخْفَى عَنْهُمَا، حَتَّى فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا بَعْدَ مَمَاتِهِمَا. وَفِي الْحَدِيثِ الشريفِ المُتَقَدِّمِ: ((إِذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ بِخَيْرٍ)). رَواه مُسْلِمٌ: (1631) وغيرُهُ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَهُمَا مُسْتَجَابٌ لِأَنَّ اللهَ أَذِنَ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مُؤَيِّدٌ ذَلِكَ إِذْ جَعَلَ دُعَاءَ الْوَلَدِ عَمَلًا لِأَبَوَيْهِ. وَحُكْمُ هَذَا الدُّعَاءِ خَاصٌّ بِالْأَبَوَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى دَلَّتْ عَلَى التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ التَوْبَةِ: {مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ: 113.
وَالْكَافُ فِي قَوْلِهِ: كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا لِلتَّشْبِيهِ الْمَجَازِيِّ يُعَبِّرُ عَنْهُ النُّحَاةُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ فِي الْكَافِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ} الآية: 198، أَيِ ارْحَمْهُمَا رَحْمَةً تُكَافِئُ مَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. وصَغِيرًا حَالٌ مِنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَمْثِيلُ حَالَةٍ خَاصَّةٍ فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَرْبِيَةٍ مُكَيَّفَةٍ بِرَحْمَةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ تَقْتَضِي رَحْمَة الْوَلَد، وَصِغَرَ الْوَلَدِ يَقْتَضِي الرَّحْمَةَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا فَصَارَ قَوْلُهُ: "كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا" قَائِمًا مَقَامَ قَوْلِهِ كَمَا رَبَّيَانِي وَرَحِمَانِي بِتَرْبِيَتِهِمَا. فَالتَّرْبِيَةُ تَكْمِلَةٌ لِلْوُجُودِ، وَهِيَ وَحْدَهَا تَقْتَضِي الشُّكْرَ عَلَيْهَا. وَالرَّحْمَةُ حِفْظٌ لِلْوُجُودِ مِنِ اجْتِنَابِ انْتِهَاكِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى الشُّكْرِ، فَجَمَعَ الشُّكْرَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا بِالرَّحْمَةِ.
وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَأَمَّا مَوَاقِعُ الدُّعَاءِ لَهُمَا فَلَا تَنْضَبِطُ وَهُوَ بِحَسَبِ حَالِ كُلِّ امْرِئٍ فِي أَوْقَاتِ ابْتِهَالِهِ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ إِذَا دَعَا لَهُمَا فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ فَقَدِ امْتَثَلَ. وَمَقْصِدُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ يَنْحَلُّ إِلَى مَقْصِدَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَفْسَانِيٌّ وَهُوَ تَرْبِيَةُ نُفُوسِ الْأُمَّةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالْجَمِيلِ لِصَانِعِهِ، وَهُوَ الشُّكْرُ، تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ الْبَارِي تَعَالَى فِي اسْمِهِ الشَّكُورِ، فَكَمَا أَمَرَ بِشُكْرِ اللهِ عَلَى نِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ، أَمَرَ بِشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ الصُّورِيِّ، وَنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَفِي الْأَمْرِ بِشُكْرِ الْفَضَائِلِ تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمُنَافَسَةِ فِي إِسْدَائِهَا.
وَالْمَقْصِدُ الثَّانِي عُمْرَانِيٌّ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَوَاصِرُ الْعَائِلَةِ قَوِيَّةَ الْعُرَى مَشْدُودَةَ الْوُثُوقِ فَأَمَرَ بِمَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْوُثُوقَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْعَائِلَةِ، وَهُوَ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ لِيُرَبِّيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ التَّحَابِّ وَالتَّوَادِّ مَا يَقُومُ مَقَامَ عَاطِفَةِ الْأُمُومَةِ الْغَرِيزِيَّةِ فِي الْأُمِّ، ثُمَّ عَاطِفَةِ الْأُبُوَّةِ الْمُنْبَعِثَةِ عَنْ إِحْسَاسٍ بَعْضُهُ غَرِيزِيٌّ ضَعِيفٌ وَبَعْضُهُ عَقْلِيٌّ قَوِيٌّ حَتَّى أَنَّ أَثَرَ ذَلِكَ الْإِحْسَاسِ لَيُسَاوِي بِمَجْمُوعِهِ أَثَرَ عَاطِفَةِ الْأُمِّ الْغَرِيزِيَّةِ أَوْ يَفُوقُهَا فِي حَالَةِ كِبَرِ الِابْنِ. ثُمَّ وَزَّعَ الْإِسْلَامُ مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ بَقِيَّةِ مَرَاتِبِ الْقَرَابَةِ عَلَى حَسَبِ الدُّنُوِّ فِي الْقُرْبِ النِّسْبِيِّ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَقَدْ عَزَّزَ اللهُ قَابِلِيَّةَ الِانْسِيَاقِ إِلَى تِلْكَ الشِّرْعَةِ فِي النُّفُوسِ.
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشريفِ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ، قَامَتْ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ. قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ. قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ فَذَاكِ)). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} الآيةَ: 22، مِنْ سورةِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. صحيح البخاري برقم (4830) مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ ـ رَضيَ اللهُ عنْهُ. وأخرجَهُ الأئمَّةُ: أحمدُ، ومُسْلِمٌ، والنَّسائيُّ، وابْنُ حِبَّانٍ، والحاكمُ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ. وَفِي الْحَدِيثِ أيضًا: ((إِنَّ اللهَ جَعَلَ الرَّحِمَ مِنِ اسْمِهِ الرَّحِيمِ)). وَفِي هَذَا التَّكْوِينِ لِأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِلْأُمَّةِ تَظْهَرُ آثَارُهُ فِي مُوَاسَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَفِي اتِّحَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الحُجُرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا} الآية: 13. وَقد زَادَهُ الْإِسْلَامُ تَوْثِيقًا بِمَا فِي تَضَاعِيفِ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَأْكِيدِ شَدِّ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ أَكْثَرَ مِمَّا حَاوَلَهُ كُلُّ دِينٍ سَلَفَ مَنْ قبلُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} الوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "اخْفِضْ" فعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ تقديرُهُ (أنت) يَعودُ عَلى الوَلَدِ و "لَهُما" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اخْفِضْ"، و "هُمَا" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "جَناحَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، مُضافٌ. و "الذُّلِّ" مضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ للتَعْليلِ فَتَتَعَلَّقُ بـ "اخْفِضْ"؛ أَيْ: مِنْ أَجْلِ الرَّحْمَةِ، أَوْ لابْتِداءِ الغايةِ؛ أَيْ: إِنَّ هَذَا الخَفْضَ ناشِئٌ مِنَ الرَّحْمَةِ المَرْكوزَةِ فِي الطَبْعِ، ويجوزُ أَنَّها لِبَيَانِ الجِنْسِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ: إِنَّ هَذَا الخَفْضَ يَكُونُ مِنَ الرَّحْمَةِ المُسْتَكِنَّةِ فِي النَّفْسِ. ويجوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الحالِ مِنْ "جَناحَ". و "الرَّحْمَةِ" مَجْرٌورٌ بحرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الوَاوُ حرفُ عَطْفٍ، وَ "قُلْ" فِعْلُ أُمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ الظاهرِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى الولَدَ. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى "وَاخفض" و "رَبِّ" مُنادَى مُضَافٌ مَنْصوبٌ بالنِّداءِ وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلى مَا قَبْلِ الياءِ المَحْذُوفَةِ للتَخْفِيفِ، وهو مُضافٌ وَ "الياءُ" المحذوفَةُ ضميرُ المتكلِّمِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "ارْحَمْهُمَا" فِعْلُ طلبٍ ودُعاءٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، و "هُمَا" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قُلْ" عَلى كَوْنِها جَوَابَ النِّداءِ. و "كَما" الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَشْبيهٍ، أَيْ أَنَّها نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، فَقَدَّرَهُ الحُوفِيُّ: ارْحَمْهما رَحْمَةً مِثْلَ تَرْبِيَتِهما لي. وَقَدَّرَهُ العُكْبُريُّ أَبو البَقَاءِ: رَحْمَةً مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا، كَأَنَّهُ جَعَلَ التَرْبِيَةَ رَحْمَةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ للتعليلِ، أَيْ: ارْحَمْهُمَا لأَجْلِ تَرْبِيَتِهِما، كَقَوْلِهِ تعالى منْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} الآية: 198. وَ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ. وَ "رَبَّيانِي" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ المُقَدَّرِ على آخِرِهِ للتعذُّرِ، وأَلفُ التثنيةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والنُّونُ للوِقايةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ النَّصِبِ مفعولٌ بِهِ، و "صَغِيرًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ "ياءِ" المُتَكَلِّمِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةٌ لِـ "ما" المَصْدَرِيَّةِ. و "ما" مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِـ "الكافِ" والجَارُّ والمَجْرُورُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقديرُهُ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا رَحْمَةً مِثْلَ تَرْبِيَتِهِمَا إِيَّايَ حالَةَ كونِي صَغِيرًا، أَوْ رَحْمَةً مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا إِيَّايَ حالَةَ كَونِي صَغِيرًا، أَوْ ارْحَمْهُما لِأَجْلِ تَرْبِيَتِهِمَا إيَّايَ حَالَةَ كَوْني صَغِيرًا.
قَرَأَ العامَّةُ: {الذُّلِّ} بِضَمِّ الذَّالِ، وقرأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، في آخَرينَ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ اسْتِعَارةٌ؛ لأَنَّ الذِّلَّ في الدَوَابِّ ضِدُّ الصُعُوبَةِ، فاسْتُعِيرَ للأَنَاسِيِّ، كَمَا أَنَّ الذُّلَّ بِالضَمَّ ضِدُّ العِزِّ.