وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
(35)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} أَيْ: وإِذَا كِلْتُمْ في بَيعِكمْ وشِرائكمْ ومُعَامَلاتِكمْ فَأَتِمُّوا الكَيْلَ وَلَا تَبْخَسُوا مِنْهُ شَيْئًا. ونَظِيرُهَا قولُهُ تَعَالَى في الآية: 84، مِنْ سُورَةِ هودٍ: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، ثمَّ قولُهُ في الآيةِ: 85، مَنْها: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ}، وَقَوْلُهُ مِنْ سورةِ الرَّحْمن: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} الآيةَ: 9، وقالَ في سُورَةِ المُطَفِّفينَ: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا} الآية: 2.
قولُهُ: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} القِسْطاسُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ أَقْوَمُ المَوَازِينِ، وهوَ المُعْتَدِلُ الذي لا يَميلُ إِلَى أَحَدِ الجَانِبَيْنِ. وَ "القِسْطاسُ" ـ بِكَسْرِ القافِ وضَمِّها، هُوَ (القَبَّانُ) فيما رَواهُ الطبريُّ: (15/85) عَنِ الحسَنِ البَصريُّ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، وهوَ أَيضًا قولُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما، فيما رَوَى عطاءٌ عنْهُ. وأَخرجهُ ابْنُ المنذِرِ عَنِ الضَحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنه. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ، أَيْضًا ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ: "وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ" قَالَ: بالحَديدِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (6/122)، والطَبَرِيُّ: (15/85)، وأَبو جعفرٍ النَّحَّاسُ في "مَعَاني القرآن": (4/154)، عنْ مُجاهِدٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ "القِسطاس" هو العَدْلُ. وزادَ السُيُوطِيُّ في "الدُرِّ المَنْثُورِ": (4/328) نِسْبَتَهُ إِلى الفِرْيابيِّ، وعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وابْنِ المُنْذِرِ، وابْنِ أَبِي حاتِمٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَزِنُوا بِالقِسْطاسِ} قَالَ: الْعدْل. وقالَ أبو إِسْحَاق الزَّجَّاجُ في: (3/238) مِنْ "معاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ": هُوَ أَقْوَمُ المَوَازينِ.
قولُهُ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أَيْ: إِنَّ في الكَيْلَ بالحَقِّ والوَزْنِ بالعَدْلِ خَيْرٌ عميمُ وبركةٌ منَ اللهِ تعالى للفَرْدِ والمُجْتَمَعِ، في الدُنْيا، ومثوبةٌ منهُ ـ سُبحانَهُ، وأجرٌ عظيمٌ في الآخرةِ للذين يَعْدلونَ في المكيالِ ولا يُخسِرونَ الميزانَ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ذَلِكَ خَيْرُ" يَعْنِي: وَفَاءُ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ، وَ "أَحْسَنُ تَأْوِيلًا" عَاقِبَةً.
وَأَخْرَجَ عبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ذَلِكَ خيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" أَيْ: خَيْرٌ ثَوابًا وعاقبَةً. وَأُخْبِرنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ المَوَالِي إِنَّكُم وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ: بِهِما هَلَكَ النَّاسُ قَبْلَكُمْ، هَذَا الْمِكْيَالَ، وَهَذَا الْمِيزَانَ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ: لَا يَقْدِرُ رَجُلٌ عَلى حَرَامٍ، ثُمَّ يَدَعُهُ، لَيْسَ بِهِ إِلَّا مَخَافَةَ اللهِ، إِلَّا أَبْدَلَهُ اللهُ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا قبلَ الْآخِرَةِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} الواوُ: حرفُ عطْفٍ، و "أَوْفُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حذفِ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّ مُضارِعَهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والألفُ للتفريقِ. و "الكيلَ" مَفْعُولٌ بهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ معطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ}، منَ الآيةِ السابقةِ لها.
قولُهُ" {إِذَا كِلْتُمْ} إِذَا: ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَمانِ خافضٌ لِشَرْطِهِ، مُتَعَلِّقٌ بجوابِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مُتَعَلِّقٌ بِمَضْمُونِ الجوابِ. وَ "كِلْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ، والجملةُ معطوفَةٌ في مَحَلِّ الجَرِّ بإضافَةِ "إذا" إِليها. وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ إِذَا كِلْتُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ.
قولُهُ: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} الوَاوُ: للعِطْفِ، وَ "زِنُوا" مِثْلُ "أَوْفُوا". و "بِالْقِسْطاسِ" الباءُ: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "زِنُوا". و "الْقِسْطاسِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "الْمُسْتَقِيمِ" صِفَةٌ لـ "الْقِسْطاسِ" مرفوعةٌ مثلُهُ.
قولُهُ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ذلِكَ" ذا: اسْمُ إِشَارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محَلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، واللامُ للبُعدِ، والكافُ للخطابِ. وَ "خَيْرٌ" خَبَرُهُ مَرْفُوعٌ. وَ "وأَحْسَنُ} الواوُ: حرفُ عطْفٍ، ومَعطوفٌ عَلى "خَيْرٌ" مرفوعٌ مثلُهُ. و "تَأْوِيلًا" تَمْييزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ المُبْتَدَأِ، مَنْصُوبٌ باسْمِ التَفْضِيلِ "أَحْسَنُ"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها.
قرَأَ الجُمهورُ: {بالقسطاس} بضمِّ القافِ هُنا وفي سُورةِ الشُعَراءِ، وقرَأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ) وحَفْصٌ بكسرها فِيهِما، وهُما لُغَتَانِ مَشْهورتان، وهوَ كُلُّ مِيزانٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واللفظةُ للمُبَالَغَةِ مِنَ القِسْطِ. ويُقالُ بالسِّينِ والصَّادِ.