وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} وقَضَى رَبُّكَ: الواوُ: للعَطْفِ عَلَى الْآيةِ السَّابِقِةِ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، وَمَعْنَاهُ: أَمَرَ ربُّكَ وَأَلْزَمَ، وَأَوْجَبَ. وَالْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ يَرْجِعُ إِلَى إِتْمَامِ الشَّيْءِ وَانْقِطَاعِهِ، ومَعْنَاهُ الْحُكْمُ الْجَزْمُ الْبَتُّ، الَّذِي لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ. وَفَيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ ـ سُبْحانَهُ، وَمَنْعِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْفِعْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ، وَنِهَايَةُ الْإِنْعَامِ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْعَقْلِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ أَنَّ الْمُعْطِيَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ هُوَ اللهُ ـ تَعَالَى، لَا غَيْرُهُ. وَإِذَا كَانَ الْمُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ هُوَ اللهَ تَعَالَى وحدَهُ لَا غَيْرَهُ، فلَا جَرَمَ كَانَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ وحدَهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مِنْ غَيْرِ شَريكٍ.
قوْلُهُ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الْآيَةَ: 83. وَقَال مِنْ سُورةِ النِّسَاءِ: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الْآيَةَ: 36، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} الآيَةَ: 14. وَبَيَّنَ فِي مَواضِعَ أُخَرَ أَنَّ بِرَّهُمَا لَازِمٌ وَلَوْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ دَاعِيَيْنِ إِلَى شِرْكِهِمَا، فقَالَ مِنُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} الْآيَةَ: 8. وقالَ مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} الآيَةَ: 15. وذِكْرُهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَاتِ المُباركاتِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ تَأَكُّدِ وُجُوبِ بِرِّهِما. كَما جَاءَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ، يُرِيدُ الْجِهَادَ فَقَالَ: أَلَكَ وَالِدَانِ؟. قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)). وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي المُصَنَّفِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُبَايِعُهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكَ أَبَوَيْهِ يَبْكِيَانِ، قَالَ: ((فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا وأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا)). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِم، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟. قَالَ: ((الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا)). قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟. قَالَ: ((ثُمَّ بِرُّ الْوَالِديْنِ)). قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟. قَالَ: ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)). وَأَخْرَجَ أَحْمدُ، وَالْبُخَارِيُّ، فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ القُشَيْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَبِرُّ؟. قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: مَنْ أَبِرُّ؟. قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: مَنْ أَبِرُّ؟. قَالَ: أُمَّكَ. قٌلْتُ: مَنْ أَبِرُّ؟. قَالَ: أَبَاك، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَمُسْلِم، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَريهِ فَيَعْتِقَهُ)). وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ المُفْرَدِ، وَمُسْلِمٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَة ـ رَضِي الله عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ)). قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: مَنْ؟. قَالَ: ((مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ ـ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَدَخَلَ النَّارَ)). أَي: دَخَلَ النَّارَ بِسَبَبِ عقوقِهِما وعَدَمِ طاعتِهِما، وبِرِّهِما. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ المُفْرَدِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ بَرَّ وَالِديْهِ طُوبَى لَهُ، زَادَ اللهُ فِي عُمرِهِ)). وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي المُصَنَّفِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ المُفرَدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: لأَحَدِهِمَا مَا هَذَا مِنْكَ فَقَالَ أَبي، فَقَالَ: لَا تُسَمِّهِ، وَفِي لَفْظٍ لَا تَدْعُهُ بِاسْمِهِ، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ، وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ، حَتَّى يَجْلِسَ، وَلَا تَسْتَبَّ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي المُصَنَّفِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ طَاوسَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُوَقِّرَ أَرْبَعَةً: الْعَالِمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْوَالِدُ. قَالَ: وَيُقَالُ أَنَّ مِنَ الْجَفَاءِ: أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ وَالِدَهُ بِاسْمِهِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، ووافقهُ الذَّهَبِيُّ، والبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُلَمِيِّ أَنَّ أَبَاهُ جاهِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَسْتَشِيرُهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: ((أَلَكَ وَالِدَةٌ؟)) قُلْتُ: نَعَم. قَالَ: ((اذْهَبْ فالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا)). وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ((هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَالِدَيْكَ؟)) قَالَ: أُمِّي. قَالَ: ((فاتَّقِ اللهَ فِيهَا، فَإِذا فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَأَنْتَ حَاجٌّ، وَمُعْتَمِرٌ، وَمُجاهِدٌ، فَإِذا دَعَتْكَ أُمُّكَ فَاتَّقِ اللهِ وَبُرَّهَا)). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((الْوَالِدُ وَسَطَ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فاحْفَظْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ ضَيِّعْهُ)). وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أُمِّ المؤمنينَ السيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نِمْتُ فَرَأَيْتُني فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ قَارِئًا يَقْرَأُ، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟. قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ الْبِرُّ، كَذَلِكَ الْبِرُّ كَذَلِكَ الْبِرُّ. قَالَ: وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ)). وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَكَ وَالدانِ؟. قَالَ: لَا. قَالَ: أَلَكَ خَالَةٌ؟. قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَبُرَّهَا إِذًا)). وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، فِي الْأَدَبِ المُفردِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ ماجَةَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبي أُسَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا عِنْد النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبُرُّهُمَا بِهِ؟. قَالَ: ((نَعَم، خِصَالٌ أَرْبَعٌ: الدُّعَاءُ لَهُمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وانِفَاذُ عَهْدِهِمَا، وإِكْرَامُ صَديقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا)). وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ المُفرَدِ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّان، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وِدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ الْأَبُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِم، وَصَحَّحَهُ، وَوافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ والخَرَائِطِيُّ فِي مَساوِئِ الْأَخْلَاقِ، عَنْ أَبي بَكْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللهُ مِنْهَا مَا شَاءَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَةِ، إِلَّا عُقوقَ الْوَالِديْنِ فَإِنَّهُ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ، مَنْ رَاءَى، رَاءَى اللهُ بِهِ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ)) ورَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وَالتَّسْمِيعُ: هُوَ الْعَمَلُ لِيَسْمَعَ النَّاسُ بِه. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا مِنْ وَلَدٍ بَارٍّ يَنْظُرُ إِلَى وَالِدَيْهِ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ حَجَّةً مَبْرُورَةً، قَالُوا: وَإِنْ نَظَرَ كُلَّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ قَالَ: نَعْمِ. اللهُ أَكْبَرُ وَأَطْيَبُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذا نَظَرَ الْوَلَدُ إِلَى وَالِدِهِ ـ يَعْنِي فَسُرَّ بِهِ، كَانَ للْوَلَدِ عِتْقُ نَسْمَةٍ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنْ نَظَرَ ثَلَاثَمِئَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً؟ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: النَّظَرُ إِلَى الْوَالِدِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَر إِلَى أَخِيكَ حُبًّا لَهُ فِي اللهِ عِبَادَةٌ. والأحاديثُ في هذا البابِ كثيرةٌ جدَّا.
فتَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ وَأَنْ تُحْسِنُوا إِلى الوالدَيْنِ، أَوْ: وَقَضَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. قَالَ الزمخشريُّ صَاحِبُ (الْكَشَّافِ): وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الباءُ في بِالْوالِدَيْنِ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ صِلَتُهُ ثُمَّ لَمْ يُذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ صِلَتُهُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي تَفْسيرِهِ (الْبَسِيطِ): الْبَاءُ فِي وَبِالْوالِدَيْنِ مِنْ صِلَةِ الْإِحْسَانِ وَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: (بِزَيْدٍ فَامْرُرْ)، وَهَذَا الْمِثَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ غَيْرُ مُطَابِقٍ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ تَقْدِيمُ صِلَةِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ، وَالْمِثَالُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وقَالَ الْقَفَّالُ: لَفْظُ الْإِحْسَانِ قَدْ يُوصَلُ بِحَرْفِ الْبَاءِ تَارَةً، وَبِحَرْفِ إِلَى أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْإِسَاءَةُ، فيُقَالُ: أَحْسَنْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ وَأَسَأْتُ بِهِ وَإِلَيْهِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ يُوسُفَ: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} الآية: 100، وَقَالَ كُثيِّرُ عَزَّةَ:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً ............... لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ
وَلَفْظُ الْآيَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى قُيُودٍ كَثِيرَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ: 19، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي بِوِساطَتِهَا يَحْصُلُ الْفَوْزُ بِالسَعَادَةِ في الْآخِرَةِ، فَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْبِرَّ بِالْوَالِدَيْنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّاعَةَ مِنْ أَصُولِ الطَّاعَاتِ الَّتِي تُفِيدُ في الحُصولِ عَلى السَعَادَةَ في الْآخِرَةِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ، ثمَّ ثَنَّى بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، ثمَّ ثَلَّثَ بِالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، وَمُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَعْظِيمِ هَذِهِ الطَّاعَةِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قدَّمَ ذِكْرَ الوالدينِ، فَقالَ: "وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا" ولَمْ يَقُلْ: وَإِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ، وتَقْدِيمُ ذِكْرِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى شِديدِ الِاهْتِمَامِ بِبِرِّهما والإحسانِ إِلَيْهِما.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: إِحْسانًا بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ وَالتَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَالْمَعْنَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا عَظِيمًا كَامِلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِحْسَانُهُمَا إِلَيْكَ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ الْعَظِيمَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْسَانُكَ إِلَيْهِمَا كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ فَلَا تَحْصُلُ الْمُكَافَأَةُ، لِأَنَّ إِنْعَامَهُمَا عَلَيْكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، وَفِي الْأَمْثَالِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْبَادِيَ بِالْبِرِّ لَا يُكَافَأُ.
وَشُكْرُ النِّعمةِ لصاحِبها وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، فيما رواهُ الأَئمَّةُ مِنْ حديثِ النُعمانِ بْنِ بَشِيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ((مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شَكْرٌ وتَرْكُهُا كُفْرٌ، والجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ والفُرْقَةُ عَذَابٌ)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: (4/278)، وأَخْرَجَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ فِي زَوَائِدِ المُسْنَدِ: (4/375). قالَ الهَيْثَمِي في المَجْمَعِ: (5/218): رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ وَالبَزَّارُ، والطَبَرانِيُّ ورِجَالُهُمْ ثِقَاتٌ". وَقَالَ العَجْلُونِيُّ في (كَشْفِ الخَفَاءِ): (2/336): رَوَاهُ ابْنُ أَبي الدُنْيا فِي (اصْطِنَاعِ المَعْرُوفِ) عَنِ النُّعْمَانِ، وأَخْرَجَهُ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ لا بَأْسَ بِهِ. وعَزَاهُ السُيُوطِيُّ فِي الدُرِّ المَنْثُورِ: (8/545) للبَيْهَقِيِّ فِي الشُعَبِ بِسَنَدٍ ضَعيفٍ. وَالإِشَارَةُ بِـ "إِحْسَانًا" إِلَى الشَّفَقَةِ، وَالْأَبَوَانِ أَحَقُّ الْخَلْقِ بِها لِكَثْرَةِ إِنْعَامِهِمَا عَلَى الْإِنْسَانِ. والِاشْتِغَالُ بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، والْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْخَالِقُ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلَائِقِ نِعْمَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مِثْلَ مَا لِلْوَالِدَيْنِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَوَلُهَا: أَنَّ الْوَلَدَ قِطْعَةٌ مِنَ وَالِدَيْهِ، قَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، فيما رواهُ الشيخانِ وغيرُهُما مِنْ حديثِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: ((فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي)). صَحيح البُخَارِيِّ بِرَقَم: (3714)، وَصَحِيح مُسْلِم بِرَقَمْ (2449).
ثَانِيهَا: أَنَّ تقديمَ المَرْءِ الْخَيْرَ إِلَى غَيْرِهِ لابُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ فيهِ مَصْلَحةٌ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ يَمْتَزِجُ بِهَذَا الْغَرَضِ سَائِرُ الْأَغْرَاضِ، أمَّا تقديمُ الْخَيْرِ إِلَى الْوَلَدِ فلَيْسَ لِهَذَا الْغَرَضِ، لِذَلِكَ كَانَ الْإِنْعَامُ فِيهِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، ولِذَلِكَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِثْلَ مَا لِلْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهما.
ثَالِثُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ حَالَ مَا يَكُونُ طفلًا فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، يَكُونُ غارقًا فِي إِنْعَامِ أَبَوَيْهِ فَنِعَمُهُمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لا تُعَدُّ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْعَامَ إِذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مَوْقِعُهُ عَظِيمًا.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ شَفَقَةَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ عَظِيمَةٌ وَبزلَهُما الجُهْدَ فِي خَيْرِهِ، ودَفْعِ الشَرِّ عَنْهُ والضَرِّ، أَمْرٌ لا شَكَّ فِيهِ، ولِذَلِكَ فإِنَّ نِعَمَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ كَثِيرَةٌ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ نِعْمَةٍ تَصِلُ مِنْ إِنْسَانٍ إِلَى إِنْسَانٍ.
ولِجَميعِ ما تَقَدَّمَ فَقَدْ بَدَأَ اللهُ تَعَالَى بِأَمرِ العِبَادِ بِشُكْرِ نِعْمَةِ الْخَالِقِ فقَالَ: "وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ"، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِشُكْرِ نِعْمَةِ الْوَالِدَيْنِ بِقَوْلِهِ: "وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا" لأَنَّ إِنِعَامَ الوالدينِ وإِحْسانَهُمْ أَعْظَمُ النِّعَمِ بَعْدَ إِنْعَامِ الْإِلَهِ الْخَالِقِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤهُ.
أَمَّا ما يُرَدِّدُهُ بعضُ الأَشْقِيَاءِ قَلِيلِي الوَفاءِ مِنْ أَنَّ الْوَالِدَينِ إِنَّمَا طَلَبَا تَحْصِيلَ اللَّذَّةِ لِنَفْسَيْهِمَا فَلَزِمَ مِنْهُ حُصُولُ الْوَلَدِ، ووُلوجُهُ عَالَمِ الشَّقَاءِ الْآفَاتِ وَالآلامِ، وعَلَيْهِ فَأَيُّ إِنْعَامٍ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ؟. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَّسِمِينَ بِالْحِكْمَةِ كَانَ يَضْرِبُ أَبَاهُ وَيَقُولُ: هُوَ الَّذِي أَدْخَلَنِي فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَعَرَّضَنِي لِلْمَوْتِ وَالْفَقْرِ وَالْعَمَى وَالزَّمَانَةِ، وَقِيلَ لِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّي: مَاذَا نَكْتُبُ عَلَى قَبْرِكَ؟ قَالَ اكْتُبُوا عَلَيْهِ:
هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ .............................. وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدِ
وَقَالَ فِي تَرْكِ التَّزَوُّجِ والوَلَدِ:
وتَرَكْتُ أَوْلادي وَهُمْ فِي نِعْمَةِ العَدَمِ .......... الَّتِي سَبَقَتْ نَعِيمَ الْعَاجِلِ
وَلَوَ انَّهُمْ وُلِدُوا لَعَانَوْا شِدَّةً .............. تَرْمِي بِهِمْ فِي مُوبِقَاتِ الْآجِلِ
وَيَسْتَشْهِدُونَ بما قالَهُ الاسْكندرُ الْأَكَبَرُ يَوْمَ سُئِلَ: أُسْتَاذُكَ أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيْكَ أَمْ وَالِدُكَ؟ فَقَالَ: الْأُسْتَاذُ أَعْظَمُ مِنَّةً، لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ أَنْوَاعَ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ عِنْدَ تَعْلِيمِي، أَرْتَعَنِي فِي نُورِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْوَالِدُ فَإِنَّهُ طَلَبَ تَحْصِيلَ لَذَّةِ الْوِقَاعِ لِنَفْسِهِ، وَأَخْرَجَنِي إِلَى آفَاتِ عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ الْمَأْثُورَةِ، خَيْرُ الْآبَاءِ مَنْ عَلَّمَكَ. فقدْ رُدَّ عَلى شُبُهاتهم بالقولِ: هَبْ أَنَّ الوالديْن طَلَبَا لَذَّةَ الْوِقَاعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّ اهْتِمَامَهما بِإِيصَالِ الْخَيْرَاتِ إِلَى مَوْلودِهما، وَدَفْعِ الْآفَاتِ عنهُ مِنْذُ وِلادتِهِ هُو أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا يُتَخَيَّلُهُ العَقَلُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وأَسْمَى أَنْواعِ الْخَيْرَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ، فَسَقَطَتْ بذلك شُبُهَاتُهم.
قولُهُ: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا} مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا يَبْلُغَانِ إِلَى حَالَةِ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ فَيَصِيرَانِ عِنْدَكَ فِي آخِرِ الْعُمُرِ كَمَا كُنْتَ عِنْدَهُمَا فِي أَوَّلِ الْعُمُرِ. والإشارةُ في الظَرْفِ "عندَكَ" إلى أَنَّهُمَا في كَنَفِكِ وظلِّ رِعَايَتِكَ، ومَنْ يَكنْ عندَهُ ضيفٌ أَوْ لاجِئٌ وَجَبَ عليهِ حمايتُهُ ورعايتُهُ وكفايتُهُ لا سيَّما إذا كانتْ لهُ عَلَيْهِ سابقةُ الفَضْلِ واليَدِ البَيْضاءِ، وهلْ فِيَ الدُنْيا مَنْ لَهُ يَدٌ أَعْظَمُ مِنْ يَدِ أَبَوَيْكَ عَلَيْكَ بعدَ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى؟!. و "كِلَا" مُثَنَّاةٌ مَعْنًى بِلَا خلافٍ، وإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَثْنِيَتِها لَفْظًا: فَمَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ أَنَّها مُفْرَدَةٌ لَفْظًا، وَوَزْنُها عَلى فِعَلٍ مثلِ: "مِعى" والمشهورُ أَنَّ أَلِفَها مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ بِدَليلِ قلْبِها تاءً في "كِلْتا" مُؤَنَّثَ "كِلا". وَقالَ الكوفيُّونَ: إِنَّ أَلِفَها منقلبةٌ عَنْ يَاءٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ الشاعِرِ:
في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه ...
فَنَطَق بمفرِدها: هي مثنَّاة لفظاً، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعًا والياءِ نصبًا وَجَرًّا، فَأَلِفُها زَائدَةٌ عَلى مَاهِيَّةِ الكَلِمَةِ كَأَلِفِ "الزَّيْدانِ"، وقد تَبِعَهُمْ في ذَلِكَ الإمامُ السُّهَيْلِيُّ، وَلَامُها مَحْذُوفَةٌ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَأْتِ عَنِ الكُوفِيِّينَ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، فاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ كَمَا قَالَ السُهَيْليُّ، وَأَنْ تَكونَ مَوْضُوعَةً عَلَى حَرْفَيْنِ فَقَط، لأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهم جَوَازَ ذَلِكَ فِي الأَسْمَاءِ المُعْرَبَةِ. وحُكْمُها أَنَّها مَتَى أُضِيفَتْ إِلَى مُضْمَرٍ أُعْرِبَتْ إِعرَابَ المُثَنَّى، أَوْ إِلَى ظَاهِرٍ أُعْرِبَتْ إِعْرَابَ المَقْصُورِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهلِ العَرَبِيَّةِ، وَبَنُو كَنانَةَ يُعْرِبُونَهَا إِعْرَابَ المُثَنَّى مُطْلَقًا، فَيَقُولُونَ: رَأَيْتُ كِلَيْ أَخَوَيْكَ، وَكَوْنُها جَرَتْ مَجْرَى المُثَنَّى مَعَ المُضْمَرِ دُونَ الظَاهِرِ يَضِيقُ الوَقْتُ عَنْ ذِكْرِهِ.
وَمِنْ أَحْكامِها: أَنَّها لا تُضافُ إِلَّا إِلَى مُثَنًّى لَفْظًا وَمَعْنًى نَحْوَ: "كِلا" الرَّجُلَيْنِ"، أَوْ مَعْنًى لَا لَفْظًا نَحْوَ:، "كِلانا"، وَلَا تُضافُ إِلَى مُفَرِّقَيْنِ بالعَطْفِ نَحْوَ قولِكَ: "كِلا زَيْدٍ وَعَمْرٍو"، إِلَّا فِي ضَرُورةٍ، كَقَوْلِ الفَرَزْدَقِ:
كِلا السَّيْفِ والسَّاقِ الذي ذَهبَتْ ... بِهِ عَلَى مَهَلٍ باثْنَيْنِ أَلْقَاهُ صَاحِبُهْ
وفي إِمَالَتِهَا خِلافٌ بَيْنَ القُرَّاءِ، وَهِيَ فِي تَأْكِيدِ المُثَنَّى كَ "كُل" فِي تَأْكِيدِ الجَمْعِ، فَلَا يُقَالُ: تَقَاتَلَ الزَّيْدانِ كِلاهُمَا، إِذْ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِي اثْنَيْنِ. وَكَذَا لَا تُضافُ إِلَى مُفْرَدٍ مَرَادٍ بِهِ التَثْنِيَةُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ كَقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيِّ:
إِنَّ للخَيْرِ وَالشَّرِّ مَدَى .......................... وكِلا ذَلِكَ وَجْهٌ وقُبُلْ
والأَكْثَرُ مُطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خَبَرُها وَضَمِيرُها، نَحْوَ: كِلاهُمَا قائمٌ، وكِلاهُمَا ضَرَبْتُهُ، وَيَجُوزُ: قَلِيلٌ قائمانِ، وضَرَبْتُهُما، اعْتِبَارًا بِمَعْناهَا، وَقَدْ جَمَعَ الشَّاعِرُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ الفرزدقِ:
كلاهُما حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنَهُما ............ قَدْ أَقْلَعَا وَكِلَا أَنْفَيْهِمَا رَابي
وقد يَتَعَيَّنُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ نَحْوَ: كِلانَا كَفِيلُ صَاحِبِهِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ اعْتِبَارُ المَعْنَى، ويُسْتَعْمَلُ تَابِعًا تَوْكِيدًا، وَقَدْ لَا يَتْبَعُ فَيَقَعُ مُبْتَدَأً وَمْفُعُولًا بِهِ وَمَجْرُورًا. وَ "كِلْتَا" فِي جَميعِ مَا ذُكِرَ كَ "كِلا"، وَتَاؤُهَا بَدَلٌ عَنْ وَاوٍ، وأَلِفُها للتَأْنيثِ، وَوَزْنُها "فِعْلَى" ك "ذِكْرَى". وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: أَلِفُها أَصْلٌ وتَاؤُها مَزيدَةٌ، وَوَزْنُها "فِعْتَل". وَقد رَدُّوا عَلَيْهِ في ذَلِكَ، ولكنْ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا المَوْضِعِ. والنَّسْبُ إِلَيْهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: كِلْوِيٌّ كَمَذَكَّرِهَا، وَعِنْدَ يُونُسَ بْنِ حبيبٍ: "كِلْتَوِيٌّ" لِئَلَّا تَلْتَبِسَ.
قولُهُ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} هُوَ مَثَلٌ يُضْرَبُ في العادَةِ لِلْمَنْعِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، أَوْ أَذِيَّةٍ، وَإِنْ خَفَّ ذَلِكَ وَقَلَّ، كإظهارِ التَضَجُّرِ في وجْهِ مَنْ بَرِمْتَ بِهِ أَوْ ضَجِرْتَ مِنْهُ. وَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ بِمَعْنَى أَتَضَجَّرُ، وَهُوَ قَلِيلٌ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ بابِ أَسْمَاءِ الأَفْعالِ أَوَامِرُ، وأَقَلُّ مِنْهُ اسْمُ الماضِي، وَأَقَلُّ مِنْه اسْمُ المُضَارِعَ كَ "أُفّ" و "أَوَّه"، أَيْ: أَتَوَجَّعُ، و "وَيْ"، أَيْ: أَعْجَبُ. وَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُعْرَبَ لِوُقُوعِها مَوْقِعَ مُعْرَبٍ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرونَ والعُلَماءُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وُجُوهًا:
أَوَّلُهَا: ما قَالَهُ الْأَصْمَعِيُّ: بِأَنَّ الـ "أُفُّ": وَسَخُ الْأُذُنِ، وَالْتُفُّ: وَسَخُ الظُّفُرِ ويُقَالُ عِنْدَ اسْتِقْذَارِ الشَّيْءِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ عِنْدَ كُلِّ مَا يُتَأَذَّى بِهِ.
ثَانِيها: قَالَ الزَّجَّاجُ: أُفٍّ مَعْنَاهُ النَّتَنُ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، لِأَنَّهُ قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ" أَيْ: لَا تَتَقَذَّرْهُمَا كَمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَتَقَذَّرَاكَ يَوْمَ كُنْتَ تَخُرُّ أَوْ تَبُولُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ إِذَا وَجَدْتَ مِنْهُمَا رَائِحَةً تُؤْذِيكَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ.
الثَّالِثُ: قَالَ الْقُتَبِيُّ: أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّهُ إِذَا سَقَطَ عَلَيْكَ تُرَابٌ، أَوْ رَمَادٌ نَفَخْتَ فِيهِ لِتُزِيلَهُ، فَالصَّوْتُ الْحَاصِلُ عِنْدَ تِلْكَ النَّفْخَةِ هُوَ قَوْلُكَ "أُفٍّ"، ثُمَّ إِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا فَذَكَرُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ عِنْدَ كُلِّ مَكْرُوهٍ يَصِلُ إِلَيْهِمْ.
الرَّابِعُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: "أُفٍّ" مَعْنَاهُ قِلَّةٌ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَفِيفِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ، وَتُفٍّ إِتْبَاعٌ لَهُ، كَقَوْلِهِمْ: شَيْطَانٌ لَيْطَانٌ خَبِيثٌ نَبِيثٌ.
الْخَامِسُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ جَعَلَ فُلَانٌ يَتَأَفَّفُ مِنْ رِيحٍ وَجَدَهَا، مَعْنَاهُ يَقُولُ: أُفٍّ أُفٍّ. والسَّادِسُ: رَوَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: الْأُفُّ الضَّجَرُ.
وقَدِ اخْتَلَفَ علَماءُ الأُصُولِ فِي هلْ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ هِيَ دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ، أَمْ دَلَالَةٌ مَفْهُومَةٌ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ؟. فقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ: إِنَّهَا دَلَالَةٌ لَفْظِيَّةٌ ليسَ إلَّا، لِأَنَّهُ إِذا قَالَ أَهْلُ الْعُرْفِ: لَا تَقُلْ لِفُلَانٍ "أُفٍّ"، فإنَّما يَعْنُونَ بِهِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ، وَقَدْ جَرَى هَذَا مَجْرَى قَوْلِهِمْ: (فُلَانٌ لَا يَمْلِكُ نَقِيرًا وَلَا قِطْمِيرًا)، فِي أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، بِحَسَبِ الْعُرْفِ والعادَةِ.
وَقال آخَرُونَ: إِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ بِحَسَبِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَتَقْرِيرُ هذا أَنَّ الشَّرْعَ إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ صُورَةٍ وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ صُورَةٍ أُخْرَى، فَإِذَا أَرَدْنَا إِلْحَاقَ الصُّورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْ حُكْمِهَا بِالصُّورَةِ الْمَذْكُورِ حُكْمُهَا، فَإنَّما يكونُ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِهِ فِي مَحَلِّ الذِّكْرِ، مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّأْفِيفِ، وَالضَّرْبُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنَ التَّأْفِيفِ.
وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُسَاوِيًا لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الذِّكْرِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ: الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ. وَقد ضَرَبُوا لِهَذَا مَثَلًا وَهُوَ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ وَأُعْتِقَ مِنْ مَالِهِ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ)). أَخرجَهُ أَحْمَدُ والشَيْخانِ وغَيْرُهُمْ مِنْ أئمَّةِ الحديثِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ مُتَسَاوِيَانِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَخْفَى مِنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الذِّكْرِ وَهُوَ أَكْبَرُ الْقِيَاسَاتِ. ولهذَا فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّأْفِيفِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الضَّرْبِ بِوِساطَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ التَّأْفِيفَ غَيْرُ الضَّرْبِ، فَالْمَنْعُ مِنَ التَّأْفِيفِ لَا يَكُونُ مَنْعًا مِنَ الضَّرْبِ، وَأَيْضًا الْمَنْعُ مِنَ التَّأْفِيفِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَنْعَ مِنَ الضَّرْبِ عَقْلًا، لِأَنَّ الْمَلِكَ الْكَبِيرَ إِذَا أَخَذَ مَلِكًا عَظِيمًا كَانَ عَدُوًّا لَهُ، فَقَدْ يَقُولُ لِلْجَلَّادِ إِيَّاكَ وَأَنْ تَسْتَخِفَّ بِهِ أَوْ تُشَافِهَهُ بِكَلِمَةٍ مُوحِشَةٍ لَكِنِ اضْرِبْ رَقَبَتَهُ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْقُولًا فِي الْجُمْلَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّأْفِيفِ مُغَايِرٌ لِلْمَنْعِ مِنَ الضَّرْبِ وَغَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْمَنْعِ مِنَ الضَّرْبِ عَقْلًا فِي الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّا عَلِمْنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ـ جَلَّ وعَلا، في هَذِهِ الآيَةِ: "وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا"، وَقولِهِ في الآيَةِ الَّتي بَعْدَها: {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} الآيةَ: 24، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْمَنْعِ مِنَ التَّأْفِيفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الضَّرْبِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى.
قوْلُهُ: {لا تَنْهَرْهُمَا} أَيْ: لَا تَزْجُرْهُما بأَمْرٍ أوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَالنَّهْرُ: هوَ الزَّجْرُ عَنْ أَمْرٍ مَّا بِصِيَاحٍ بِصَوْتٍ مُرْتَفعٍ أَوْ شِدَّةٍ أَوْ غِلْظَةٍ، وأَصْلُهُ مِنَ الظُهُورِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ "النَّهْرُ" نَهْرًا لِظُهُورِهِ. وَقَالَ أَبو القَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ: "النَّهْيُ"، وَ "النَّهْرُ"، وَ "النَّهْمُ"، هنَّ أَخَواتٌ. ويُقَالُ: نَهَرَهُ، وَانْتَهَرَهُ، إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ شَديدٍ يَزْجُرُهُ. والْمُرَادُ مِنْهُ المَنْعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الرَدِّ عَلَى الوالِدَيْنِ، أَوِ تَكْذِيبِهِمَا أَوْ أَمْرِهِما ونَهْيِهِما. أَيْ: وَلَا يَصْدُرُ مِنْكَ إِلَيْهِمَا أَيُّ فِعُلٍ قَبِيحٍ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبي رَبَّاحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَلا تَنْهَرْهُمَا" أَيْ: لا تَنْفُضْ يَدَكَ عَلَى وَالِدَيْكَ. وَهُوَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مَنَعَهَا اللهُ تَعَالَى، فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ. قَالَ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، في الآيةِ: 10، مِنْ سُورَةِ الضُّحَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}. فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْعُ مِنَ التَّأْفُّفِ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الِانْتِهَارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. ولَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَدَّمَ الْمَنْعَ مِنَ الِانْتِهَارِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْمَنْعِ مِنَ التَّأْفُّفِ لَكَانَ مُفِيدًا حَسَنًا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْمَنْعِ مِنَ الِانْتِهَارِ الْمَنْعُ مِنَ التَّأْفُّفِ، فَمَا هُوَ السَّبَبُ فِي رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ؟. فإنَّ الجَوابَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ" هو الْمَنْعُ مِنْ إِظْهَارِ الضَّجَرِ بِالْقَلِيلِ أَوِ الْكَثِيرِ، أَمَّا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: "وَلا تَنْهَرْهُمَا"، فهوَ الْمَنْعُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْقَوْلِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الرَدِّ عَلَى الوالِدَيْنِ، أَوِ التَّكْذِيبِ لَهُما.
قولُهُ: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} كَرِيمًا: أَيْ: لَيِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا بِتَأَدُّبٍ وتَوْقِيرٍ وتَعْظِيمٍ، فإِنَّهُ ـ تَعَالَى، لَمَّا مَنَعَ الْإِنْسَانَ بِالجُمْلَةِ الْتَي قبلَها عَنْ ذِكْرِ الْقَوْلِ الْمُؤْذِي الْمُوحِشِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقَوْلِ الْمُؤْذِي لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ، لَا جَرَمَ أَرْدَفَهُ بِأَنْ أَمَرَ ـ تَعَالَى، بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْكَلَامِ الطَّيِّبِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُخَاطِبَ والدَيْهِ بِالْكَلَامِ الْمَقْرُونِ بِأَمَارَاتِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ. قَالَ أَميرُ المُؤْمنينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (هُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا أَبَتَاهُ يَا أُمَّاهُ). وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُ، عَنِ الْقَوْلِ الْكَرِيمِ، فَقَالَ: هُوَ قَوْلُ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ، وَرويَ عَنْ عَطَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُ: هُوَ أَنْ تَتَكَلَّمَ مَعَهُما بِشَرْطِ أَنْ لَا تَرْفَعَ عَلَيْهِمَا صَوْتَكَ وَلَا تَشُدَّ إِلَيْهِمَا نَظَرَكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ يُنَافِيَانِ الْقَوْلَ الْكَرِيمَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ حِلْمًا وَكَرَمًا وَأَدَبًا، فَكَيْفَ قَالَ لِأَبِيهِ يَا آزَرُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} بِالضَّمِّ {إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الآيةَ: 74، مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَخَاطَبَهُ بِالِاسْمِ وَهُوَ إِيذَاءٌ، ثُمَّ نَسَبَهُ وَنَسَبَ قَوْمَهُ إِلَى الضَّلَالِ وَهُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ؟ فالجَوَابُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّ اللهِ تَعَالَى مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْأَبَوَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ إِقْدَامُ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى ذَلِكَ، تَقْدِيمًا لِحَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ الْأَبَوَيْنِ.
والخُلاصَةُ أَنَّ اللهَ ـ جَلَّ وَعَلَا، أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَقَرَنَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ. وَجَعْلُهُ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ. فَأَمَرَ بِمُراعَاةِ حَقِّ الوَالِدَيْنِ، وَهُمَا مِنْ جِنْسِ العَبْدِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ القِيَامِ بِحَقِّ جِنْسِهِ أَنَّى لَهُ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّ رَبِّهِ؟