وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها} مِنَ الْآيَةِ: 58، السابِقَةِ، فيهِ تَسْلِيَةٌ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِحِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ، وَحُزْنِهِ مِنْ أَنْ يَظُنُّوهُ كَاذِبًا. وَتَثْبِيتٌ لِأَفْئِدَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ. والمَعْنَى: إِنَّمَا أَمْهَلْنَا الْمُتَمَرِّدِينَ المُقِيمِينَ عَلَى كُفْرِهمْ بِمَوْلاهم، أَمْهلْناهُمْ إِلَى الأَجَلِ الذي قَدَّرْناهُ لنُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَلَمْ نُجِبْهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوهُ مِنَ الرَّسُولِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، مِنْ آيَاتٍ، لِعِلْمِنا بِأَنَّ نُزُولَها فِيهم غيرُ مُجْدٍ في اسْتِجابَتِهم لِدَعْوةِ الإيمانِ باللهِ، وَتَرْكِ مَا سِواهُ، فَقَدْ كانَ هَذَا شَأْنُ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الأُمَمِ، فَإِنَّ نُزُولَ الآياتِ فيهِم اسْتِجابَةً لِرَغْبَتِهم لَمْ يَحْمِلْهم عَلى الإِيمانِ، بَلْ زادَهم تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا وَصَلَفًا، كَثَمُودَ حِينَ طَلَبُوا النَّاقَةَ مِنْ نَبِيِّهم صَالِحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَبُرْهانٍ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصِدْقِهِ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ، فَمَا كانَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ عَقَرُوا النَّاقَةَ، وَعَتَوْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهم، فَدَمَّرَهمُ اللهُ تَدْميرًا، وأَمْثَالُهمْ كَثِيرٌ في كِتَابِ اللهِ ـ تَعَالَى.
قولُهُ: {إلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلونَ} أَيْ: وَمَا مَنَعَنَا إِرْسالَ الآياتِ شَيْءٌ مِنَ الأَشْيَاءِ إِلاَّ تَكْذيبُ الأَوَّلِينَ بِهَا حِينَ جاءَتْهُمْ، بِنَاءً عَلَى اقْتِراحٍ مِنْهمِ وطَلَبٍ، فَهُوَ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الأَشْيَاءِ، وَعَدَمُ إِرْسَالِهِ ـ سُبْحَانَهُ وتَعالى، بِهَا، وَإِنْ كانَ بِمَشِيئَتِهِ المَبْنِيَّةِ عَلى الحِكَمِ البَالِغَةِ، لَا لِمَنْعِ مَانِعٍ عَنْ ذَلِكَ، كَتَكْذيبٍ أَوْ غيرِهِ. فَإِنَّهُ ـ تَعَالَى، لَا يَمْنَعُهُ شيءٌ عَنْ فِعْلٍ أَرادَهُ، والْمُرادُ بالآيةِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ، وَكَأَنَّهُ قَدْ مُنِعَ عَنْهُ. فَالْمَنْعُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَعَدَمِ إِتْيَانِهِ. وَالمَنْعُ حَقِيقَتُهُ كَفُّ الْفَاعِلِ عَنْ فِعْلٍ يُرِيدُهُ ويَسْعَى إِلَى تحقيقِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ في حقِّهِ تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَهُ شَيْءٌ عَنْ فعلٍ أرادَهُ، وَأَنْ يَحولَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما يُريدُ، لِأَنَّهُ الْقَادِرُ الْمُخْتَارُ مُطْلَقُ القُدْرَةِ. وفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا إِلَّا أَنْ يُكَذِّبُوا بِهَا فَيُهْلَكُوا كَمَا فُعِلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ، وهذا كرامةٌ لسيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، وتمييزٌ لَهُ وخصوصيَّةٌ ما خُصَّ بِها غيرُهُ مِنَ الأَنْبِياءِ والمُرْسَلينَ.
فَقَدْ أَخَّرَ اللهُ تَعَالَى الْعَذَابَ عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لِعِلْمِهِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَفِيهِمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وهوَ ما أشارَ إليهِ ـ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ، حينَ جاءَ لَجَأَ إِلَى حائطٍ يحتمي بِهِ منْ حجارةِ صِبْيانِ ثقيفٍ وسُفَهائها، والدمُ يَسِيلُ منْ كَعْبَيهِ الشَريفَيْنِ، ونَزَلَ جبريلُ ومعهُ ملكُ الجبالِ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وقالَ: يا محمَّدُ، هذا مَلَكُ الجبالِ مُرْهُ فَيُطبق عليهِمُ الأخشبينِ إِنْ شِئْتَ. فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. والحديثُ متَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَإِسْنَادُ الْمَنْعِ إِلَى تَكْذِيبِ الْأَوَّلِينَ بِالْآيَاتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ سَبَبُ الصَّرْفِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ لَمَّا جَاءَتْهُمْ أَمْثَالُ تِلْكَ الْآيَاتِ. فَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْكُفْرِ سَجِيَّةٌ لِلْمُشْرِكِ لَا يَقْلَعُهَا إِظْهَارُ الْآيَاتِ، فَلَوْ آمن الْأَولونَ عِنْد مَا أُظْهِرَتْ لَهُمُ الْآيَاتُ لَكَانَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَجْعَلُوا إِيمَانَهُمْ مَوْقُوفًا عَلَى إِيجَادِ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوهَا. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} الآيتانِ: (96 ـ 97) منْ سُورةِ يونُسَ. ورَوَى سُنَيْدٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءُ، فَمِنْهُمْ مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَإِنْ سَرَّكَ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ وَنُصَدِّقَكَ، فَادْعُ رَبَّكَ أَنْ يَكُونَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ الَّذِي قَالُوا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ نَفْعَلَ الَّذِي قَالُوا، فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا نَزَلَ الْعَذَابُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ مُنَاظَرَةٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ نَسْتَأْنِيَ بِقَوْمِكَ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ. قَالَ: ((يَا رَبِّ اسْتَأْنِ بِهِمْ)) وَكَذَا قالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمَا. ورَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُم، قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ الْجِبَالَ عَنْهُمْ، فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ نَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَأْتَيَهم، الذي سَأَلُوا، فإِنْ كَفَرُوا هَلَكُوا، كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ. وقالَ: ((لا، بَلِ اسْتَأْنِ بِهِمْ)) وأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ الآية، ورَوَاهُ النَّسَائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ بِهِ. وَروَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ. قَالَ ((وَتَفْعَلُونَ؟)) قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ أَبْوابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: ((بَلْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ)).
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلِ النُبوَّةِ) عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّاسُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ جِئْتَنَا بِآيَةٍ كَمَا جَاءَ بهَا صَالِحُ والنَّبِيُّونَ. فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللهَ فَأَنْزَلَها عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عَصَيْتُمْ هَلَكْتُمْ)). فَقَالُوا: لَا نُريدُهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تعالى: "وَمَا مَنَعنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلونَ" قَالَ: رَحْمَةً لَكُمْ أَيَّتُها الْأُمَّةُ، قَالَ: إِنَّا لَوْ أَرْسَلْنَا بِالْآيَاتِ فَكَذَّبْتُمْ بِهَا، أَصَابَكُم مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَكُمْ. وَروى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ أُمِّ عَطَاءٍ مَوْلَاةِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَتْ: سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} الآيةَ: 214، مِنْ سُورةِ الشُعراءِ، صَاحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَبِي قَبِيسٍ: ((يَا آلَ عَبْدِ مُنَافٍ إِنِّي نَذِيرٌ)) فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، فَقَالُوا: تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْكَ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ سُخِّرَ لَهُ الرِّيحُ وَالْجِبَالُ، وَأَنَّ مُوسَى سُخِّرَ لَهُ الْبَحْرُ، وَأَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُسَيِّرَ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ وَيُفَجِّرَ لَنَا الْأَرْضَ أَنْهَارًا، فَنَتَّخِذَهَا مَحَارِثَ فَنَزْرَعَ وَنَأْكُلَ، وَإِلَّا فادْعُ اللهَ أَنْ يُحْيِيَ لَنَا مَوْتَانَا لِنُكَلِّمَهُم وَيُكَلِّمُونَا، وَإِلَّا فَادْعُ اللهَ أَنْ يُصَيِّرَ لَنَا هَذِهِ الصَّخْرَةَ الَّتِي تَحْتَكَ ذَهَبًا، فَنَنْحَتَ مِنْهَا، وَتُغْنِيَنَا عَنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَإِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ كَهَيْئَتِهِمْ. وَقَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ حَوْلَهُ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ، قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ أَعْطَانِي مَا سَأَلْتُمْ وَلَوْ شِئْتُ لَكَانَ، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ تَدْخُلُوا بَابَ الرَّحْمَةِ فَيُؤَمَّنَ مُؤْمِنُكُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَكِلَكُمْ إِلَى مَا اخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَتَضِلُّوا عَنْ بَابِ الرَّحْمَةِ، فَلَا يُؤَمَّنَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَاخْتَرْتُ بَابَ الرَّحْمَةِ، فَيُؤَمَّنُ مُؤْمِنُكُمْ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ إِنْ أَعْطَاكُمْ ذَلِكَ ثُمَّ كَفَرْتُمْ أَنْ يُعَذِّبَكُمْ عَذَابًا لا يُعَذِّبَهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)). وَنَزَلَتْ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَنَزَلَتْ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} الآيةَ: 31، مِنْ سُورةِ الرَّعْدِ.
قولُهُ: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} أَيْ: وَقَدْ آتَيْنَا ثَمُودَ آيَةً سَأَلوها، كَمَا سَأَلَتْ قَرَيْشٌ آيَةَ، فأُوتِيَتْ ثَمُودُ ما سَأَلَتْ، فَازْدادُوا كُفْرًا بِسَبَبِهَا، فعُجِّلَ اللهُ لَهُمُ الْعَذَابُ. وَقد خَصَّ ثَمُودَ وَآيَتَهِم بِالذِّكْرِ لِشُهْرَةِ أَمْرِهِمْ بَيْنَ قبائلِ الْعَرَبِ لِقُرْبِ بلادِهِم مِنْ ديارِ ثَمُودَ، وَلِأَنَّ آثَارَ هَلَاكِهِمْ قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ المُكَرَّمةَ يُبْصِرُهَا صَادِرُ أَهْلِ مَكَّةَ وَوَارِدُهُمْ فِي رحلَاتِهم الصَيْفِيَّةِ للتِّجارَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالشَّامِ.
و "مُبْصِرَةً" أَيْ دَالَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مَنْ خَلَقَهَا، وَصِدْقِ رَسُولِهِ الكريمِ الَّذِي أُجِيبَ دُعَاؤُهُ فِيهَا، فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: لَمْ تُؤْتَ قَرْيَةٌ بِآيَةٍ فَكَذَّبُوا بِهَا إِلَّا عُذِّبُوا. وَفِي قَوْلِهِ: "وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً" قَالَ: آيَةً. وَ "مُبْصِرَةً" هوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ "أَبْصَرَ" الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ، أَيْ جَعَلَ غَيْرَهُ مُبْصِرًا وَذَا بَصِيرَةٍ، وَأَيْضًا "مُبْصِرَةً": أَيْ: وَاضِحَة الدَّلَالَةِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مُفِيدَةٌ الْيَقِينَ، أَيْ تَجْعَلُ مَنْ رَآهَا ذَا بَصِيرَةٍ وَتُفِيدُهُ أَنَّهَا آيَةٌ. فَهُوَ كقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّمْل: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} الآيةَ: 13.
وَ "فَظَلَمُوا بِها" أَيْ: كَفَرُوا بِالنَّاقَةِ الآيَةِ، وَمَنَعُوهَا شُرْبَهَا، وَقَتَلُوهَا، فَأَبَادَهُمُ اللهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ، وَأَخَذَهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ الظُّلْمُ هُنَا بِمَعْنَى الْكُفْرِ لِأَنَّ الكُفْرَ ظُلْمُ النَّفْسِ، وَتَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْكُفْرِ يُعَدَّى إِلَى الْمَكْفُورِ بِالْبَاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْجَحْدِ، أَيْ كَابَرُوا فِي كَوْنِهَا آيَةً، كَما قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النَّمْل: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآيَة: 14. وَيَجُوزُ بَقَاءُ الظُّلْمِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهِيَ الِاعْتِدَاءُ بِدُونِ حَقٍّ، وَالْبَاءُ هُنَا صِلَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّعْدِيَةِ كما هيَ فِي قولِهِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَة: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} الآية: 6، أَيْ: ظَلَمُوا النَّاقَةَ حِينَ عَقَرُوهَا، وَهِيَ لَمْ تَجْنِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ عَقْرُهَا ظُلْمًا مِنْهم. وَالِاعْتِدَاءُ عَلَى الْعَجْمَاوَاتِ ظُلْمٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا، كَالصَّيْدِ وغيرِهِ.
قولُهُ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} بَيَانٌ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى فِي عدَمِ إِرْسَالِ الْآيَاتِ إِلَى قُرَيْشٍ، تُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِمْ لِيَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَليَكُونَ نَشْرُ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، كَمَا رَأَيْنَاهُ فيما بعدَ حيثَ عمَّ هذا الدينُ مُعْظَمَ الكرةِ الأرضِيَةِ عَلَى يَدِ هؤلاءِ وبنائهم وأَحْفَادِهم.
وَفي قولِهِ ـ تَبَاركَتْ أَسْمَاؤُهُ: "وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا" خَمْسَةُ أَقْوَالٍ هيَ:
الْأَوَّلُ: أَنَّها الْعِبَرُ وَالْمُعْجِزَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ عَلَى أَيْدِي الرُّسُلِ ـ عليْهِمُ السَلامُ، مِنْ دَلَائِلِ الْإِنْذَارِ تَخْوِيفًا لِلْمُكَذِّبِينَ.
الثَّانِي: أَنَّهَا آيَاتُ الِانْتِقَامِ مِنَ الكَفَرَةِ المُعانِدينَ، الذينَ كَذَّبوا النَّبِيِّينَ ولك للتَخْوِيفِ مِنَ مَعْصِيَةِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الآياتِ المُرْسَلَةِ تَخْويفًا مِنْ غَضَبِ اللهِ ـ تَعَالَى وعَذَابِهِ هي القَرْآنُ الكريمُ.
الرَّابِعُ: هُوَ قَوْلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ هَذِهِ الآياتِ هِيَ المَوْتُ الذَّريعُ، أَخْرَجَهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حنبَلٍ فِي (الزُّهْد)، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (ذِكْر الْمَوْتِ) وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (العَظَمَة)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْويفًا" قَالَ: الْمَوْت.
الخامِسُ: أَنَّهَا تَقَلُّبُ الْأَحْوَالِ مِنْ الصِغَرٍ إِلَى الشَبَابٍ، ثُمَّ إِلَى الكُهُولةِ، ثُمَّ إِلَى المَشِيبٍ .. ، لِتَعْتَبِرَ بِتَقَلُّبِ أَحْوَالِكَ ـ أَيُّها الإِنْسَانُ، فَتَخَافَ عَاقِبَةَ أَمْرِكَ. وَهَذَا هو قَوْلُ الإمامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِرْسَالُ حَقِيقَةً، فَيَكُون مَفْعُولُ "أَنْ نُرْسِلَ" مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ "نُرْسِلَ"، وَالتَّقْدِيرُ: أَنْ نُرْسِلَ رَسُولَنَا، فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: "بِالْآياتِ" لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ: مُصَاحِبًا للآياتِ الَّتِي اقْتَرَحَها الْمُشْرِكُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا لِإِظْهَارِ الْآيَاتِ وَإِيجَادِهَا، فَتَكُونَ الْبَاءُ فيهِ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ فِعْلِ الإِرْسِالِ بِالْآياتِ، وَتَكون "بِالْآياتِ" مَفْعُولًا فِي الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْمَائِدَة: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} الآيَةَ: 6. والتَعْريفُ فِي "بِالْآياتِ" لِلْعَهْدِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، أَيْ الْمَعْهُودَةِ مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ، كَقَوْلِهِمْ فِي الآيَةِ: 90، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا}. وكَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الْقَصَص: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى} الآية: 48، وقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الْأَنْعَام: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ} الآيَةَ: 124، عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ. وَالْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ قولِهِ: "وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ" كَالْقَوْلِ فِي قولِهِ: "وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ" مَعْنًى وَتَقْدِيرًا عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
وَالتَّخْوِيفُ: جَعْلُ الْمَرْءِ خَائِفًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَن قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْويفًا" قَالَ: إِنَّ اللهَ يُخَوِّفُ النَّاسَ بِمَا شَاءَ مِنْ آيَاتِهِ لَعَلَّهُمْ يَعْتَبِرونَ، أَوْ يَذْكُرُونَ، أَوْ يِرْجِعُونَ. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْكُوفَةَ رَجَفَتْ عَلَى عَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَيَّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَأَعْتِبُوهُ. وَرَوَى ابْنُ أبي شَيْبةَ مِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّ الْمَدِينَةَ زُلْزِلَتْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((إنَّ رَبَّكُمْ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَاعْتِبُوهُ)). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، مَرْفُوعًا: ((إذَا رَأَيْتُمْ آيَةً فَاسْجُدُوا)). وَأَخْرَج أَبُو دَاوُد فِي (الْبَعْث) عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفًا" قَالَ: الْمَوْتُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْقَصْرُ بـ "إلَّا" فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفًا" جاءَ لِقَصْرِ الْإِرْسَالِ بِالْآيَاتِ عَلَى عِلَّةِ التَّخْوِيفِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ: لَا مُبَارَاةَ بَيْنَ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمْ، أَوْ لَا طَمَعًا فِي إِيمَانِ الْأَقْوَامِ، فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَتِلْكَ مَكْرُمَة للنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ أَرْسَلَ اللهُ لَهُمُ الْآيَاتِ كَمَا سَأَلُوا مَعَ أَنَّ جِبِلَّتَهُمُ الْعِنَادُ لَأَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرُ فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ سُنَّةُ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَهِيَ الِاسْتِئْصَالُ عَقِبَ إِظْهَارِ الْآيَاتِ، لِأَنَّ إِظْهَارَ الْآيَاتِ تَخْوِيفٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَاللهُ أَرَادَ الْإِبْقَاءَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ تَعَالى في الآيَةِ: 33، مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَال: {وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} فَعَوَّضْنَا تَخْوِيفَهُمْ بَدَلًا عَنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا.
وممَّا جَاءَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ مَا أَخْرَجَ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ النَيْسَابوريُّ في مُسْتدْرَكِهِ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النبوَّةِ، والضِيَاءُ المقْدِسِيُّ فِي (المُختارَةِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالَ، فَيَزْرَعُونَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَأَنَّى بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ نُؤْتِيهِمُ الَّذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكوا، كَمَا أُهْلِكَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ. قَالَ: لَا، بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلونَ". وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، وَيَسُرُّكَ أَنْ نُؤْمِنَ، فَحَوِّلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ الَّذِي سَأَلَكَ قَوْمُكَ، وَلكِنَّهُ إِنْ كَانَ، ثُمَّ لَمْ يُؤمِنُوا، لَمْ يُنْظَرُوا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَيْتَ بِقَومِكَ. قَالَ: بَلْ أَسْتَأْنِي بِقَوْمِي. فَأَنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالَى: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ"، وَأَنْزَلَ: {وَمَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} الآيَة: 6، مِنْ سورةِ الْأَنْبِيَاء.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، أَوْ اسْتِئْنَافٍ، وَ "مَا" نَافِيَةٌّ. وَ "مَنَعَنا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحلِّ النَّصْبِ مفْعُولٌ بِهِ أَوَّل. و "أَنْ" حرفٌ ناصِبٌ مَصْدَريٌّ. وَ "نُرْسِلَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بـ "أَنْ"، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، ومَفْعُولُهُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: نُرْسِلُ رَسُولًا. و "بِالْآياتِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُرْسِلَ" أَوْ بحَالٍ مِنَ المَفْعُولِ المَحْذُوفِ، والتَقديرُ: أَنْ نُرْسِلَ رَسُولًا حَالَةَ كَوْنِهِ مُلْتَبْسًا بِالآياتِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا ثانِيًا لِـ "مَنَعَ" والتقديرُ؛ وَمَا مَنَعَنَا إِرْسَالَ رَسُولٍ بِالآياتِ.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ تفيدُ الحَصْرَ. و "أَنْ" حرفٌ نَاصِبٌ مصدريٌّ، و "كَذَّبَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بها. و "بِهَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَذَّبَ"، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الْأَوَّلُونَ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلَى الفاعِلِيَّةِ لِـ "مَنَعَ" والتَقْديرُ: وَمَا مَنَعَنَا إِرْسَالَ رَسُولٍ بِالآياتِ إِلَّا تَكْذيبُ الأَوَّلِينَ بِهَا، وَجُمْلَةَ "مَنَعَنا" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ} المُسْتأْنَفَةِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "أَنْ" الْأُولَى مُفِيدَةٌ مَصْدَرًا مَنْصُوبًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ مِنَ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْمَنْعِ، وَهَذَا الْحَذْفُ مُطَّرِدٌ مَعَ "أَنْ". وَ "أَنْ" الثَّانِيَةُ مَصْدَرُهَا فَاعِلُ مَنَعَنا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ. و "أنْ" الأُولى وَمَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ أَوِ الجَرِّ عَلَى اخْتِلافِ القَوْلَيْنِ؛ لأَنَّها عَلَى حَذْفِ الجَارِّ، أَيْ: مِنْ أَنْ نُرْسِلَ، والثانيةُ وَمَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، أَيْ: وَمَا مَنَعَنا مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ بِالآياتِ إِلَّا تَكْذِيبُ الأَوَّلِينَ، أَيْ: لَوْ أَرْسَلْنَا الآياتِ المُقْتَرَحَةَ لِقُرَيْشٍ لأُهْلِكُوا عِنْدَ تَكذْيبِهِمْ كَعَادَةِ مَنْ قَبْلَهم، لَكِنْ عَلِمَ اللهُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بَعْضُهُمْ، وَيُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ مَنْ يُؤْمِن، فَلِذَلِكَ لَمْ يُرْسِلِ الآياتِ لِهَذِهِ المصلحَةِ. وقَدَّرَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ مُضافًا قَبْلَ الفاعِلِ فَقَالَ: تَقْديرُهُ: إِلَّا إِهْلاكُ التَكْذيبِ، كَأَنَّهُ يَعْني أَنَّ التَكْذيبَ نَفْسَهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَكْذِيبِ، وَهوَ الإِهْلاكُ، وَلَا حاجَةَ إِلَى ذَلِكَ لاسْتِقْلالِ المَعْنَى بِدونِهِ.
قولُهُ: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} الواوُ: للاسْتِئنافِ، و "آتَيْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ متحرِّكٌ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، و "ثَمُودَ النَّاقَةَ" مَفْعولانِ منصوبانِ. و "مُبْصِرَةً" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "النَّاقَةَ". والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {فَظَلَمُوا بها} الفاءُ: حَرْفٌ للعَطْفِ. و "ظَلَمُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "بِهَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ظَلَمُوا"، وَ "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "آتَيْنا" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ} الواوُ: حَالِيَّةٌ، و "ما" نَافِيَةٌ. و "نُرْسِلُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى. و "بِالْآياتِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُرْسِلُ" أَوْ بِحالٍ مِنَ المَفْعُولِ المَحْذُوفِ كَمَا مَرَّ نَظِيرُهُ آنِفًا، و "الآياتِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "مَنَعَنَا" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {إِلَّا تَخْوِيفًا} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ "أداةُ حصْر). و "تَخْوِيفًا" مَفْعُولٌ لأَجِلِهِ مَنْصوبٌ بِـ "نُرْسِلُ"؛ أَوْ هو مَصْدَرٌ في موضِعِ الحَالِ مِنْ فاعِلِ "نُرْسِلُ" أَيْ: حالةَ كَوْنِنَا مُخَوِّفِينَ بِهَا، أَوْ مِنَ "الآياتِ" أَيْ: مَخُوفًا بِها.
قرَأَ العامَّةُ: {مُبْصِرَةً} نَصْبًا عَلَى الحالِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضي اللهُ عَنْهُمَا: "مُبْصِرَةٌ" بِرَفْعِها عَلى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، تقديرُهُ: "هِيَ مُبْصِرَةٌ"، وَهوَ إِسْنادٌ مَجَازِيٌّ، إِذِ المُرَادُ إِبْصَارُ أَهْلِهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا في الإِبْصَارِ نُسِبَ إِلَيْهَا. وَقَرَأَ قَوْمٌ "مُبْصَرَةً" بِفَتْحٍ الصَّادِ، مَفْعُولٌ عَلى الإِسْنَادِ الحَقِيقِيِّ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ "مَبْصَرَةً" بِفَتْحِ المِيمِ والصَّادِ، أَيْ: مَحَلُّ إِبْصارٍ، كَقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((الوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ))، وكَقَوْلِ الشاعرِ عَنْتَرَةَ العَبْسِيِّ:
نُبِّئْتُ عَمْرًا غَيْرَ شَاكِرِ نِعْمَتِي ............. وَالْكَفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ الْمُنْعِمِ
فَأَجْرَى هَذِهِ الأَشْيَاءَ مُجْرَى الأَمْكِنَةِ نَحْوَ: أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ، أَيْ: كَثيرَةُ السِّبَاعِ، وَأَرضٌ مَذْأَبَةٌ: أَيْ: كَثيرَةُ الذِّئابِ.