إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أَيْ: لَوْ أَنَّكَ قارَبْتَ أَدْنَى الرُّكونِ إِلَيْهم، لأَذَقناكَ عَذابًا شديدًا مُضَاعَفًا في الحَيَاةِ الدُنْيَا، وَفِي القَبْرِ، وَفيمَا بَعْدَ البَعْثِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ" يَعْنِي ضِعْفَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كتابِ عَذَابِ الْقَبْرِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَضِعْفَ الْمَمَاتِ" قَالَ: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَطَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَضِعْفَ الْمَمَاتِ" قَالَ: عَذَابُ الْقَبْرِ.
وَالضِّعْفُ ـ بِكَسْرِ الضَّادِ: ما كانَ مِثْلَ مِقْدَارِ شَيْءٍ ذِي مِقْدَارٍ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مُبَيِّنًا بِجِنْسِهِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} الآية: 30، أَيْ ضِعْفَيْ مَا أُعِدَّ لِتِلْكَ الْفَاحِشَةِ. وَلذَلِكَ سَاغَ إِطْلَاقُهُ هُنَا دُونَ بَيَانٍ، اعْتِمَادًا عَلَى بَيَانِ السِّيَاقِ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْإِذَاقَةِ فِي مَقَامِ التَحْذيرِ يُنْبِئُ بِأَنَّهَا إِذَاقَةُ عَذَابٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ ضِعْفٌ. وأُطْلِقَ الضِّعْفُ هُنَا عَلَى الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ لِعَدَمِ حَمْلِ الضِّعْفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ عِلْمٌ بِمِقْدَارِ الْعَذَابِ يُرَادُ تَضْعِيفُهُ كَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الأَعْرافِ: {فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} الآية: 38. وَإِضَافَةُ الضِّعْفِ هنا إِلَى الْحَيَاةِ وَإِلَى الْمَمَاتِ جاءَ عَلَى مَعْنَى (فِي)، فَإِنَّ تَقْدِيرَ مَعْنَى (فِي) بَيْنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِإِضَافَةِ مَا يُضَافُ إِلَى الْأَوْقَاتِ. فَالتَّقْدِيرُ: لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفًا فِي الْحَيَاةِ وَضِعْفًا فِي الْمَمَاتِ، فَضِعْفُ عَذَابِ الْحَيَاةِ هُوَ تَرَاكُمُ الْمَصَائِبِ وَالْأَرْزَاءِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ، أَيِ الْعُمْرِ بِزَوَالِ مَا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ بَهْجَةٍ وَسُرُورٍ بِتَمَامِ دَعْوَتِهِ وَانْتِظَامِ أُمَّتِهِ، ذَلِكَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ أَعْدَاؤُهُ، وَعَذَابُ الْمَمَاتِ أَنْ يَمُوتَ مَكْمُودًا مُسْتَذَلًّا بَيْن كُفَّارٍ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ فَازُوا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَشْرَفُوا عَلَى السُّقُوطِ أَمَامَهُ. ولا يَزَالُ الخِطَابُ لِحَضْرَةِ النَّبِيِّ الكريمِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وفِي هَذَا الشَّرْطِ إِجْلالٌ لَهُ، وإِعْظامٌ لِجَنَابِهِ الشَّريفِ، وتَنْويهٌ بِعُلُوِّ مَكانَتِهِ عِنْدَ ربِّهِ، فإِنَّ مُجَرَّدَ المُقارَبَةِ مِنْهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَقَدْ أُوعِدَ عَلَيْهِ بِمُضَاعَفةِ العَذابِ لأَدْنَى رُكُونٍ، بَيْنَمَا غَيْرُهُ مِنَ الخَلْقِ غيرُ مُؤَاخَذٍ مَا لَمْ تقعَ الخَطِيئَةُ مِنْهُ، ومَا لَمْ يُصَدِّقْ رُكُونَهُ إِلَيْهَا العَمَلُ، أَمَّا الرُّكونُ فَمَوْضُوعٌ عَنَّا، لِمَا رَوَى الأَئِمَّةُ مِنْ حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قَالَ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ)). صحيحُ البُخَارِي: (6/2724، رقم: 7062)، وَمُسْلِم: (1/117، رقم: 128)، والتِرْمِذِيُّ: (5/265، رقم: 3073)، وَقالَ: حَسَنٌ صَحيحٌ. وابْنُ حِبَّان: (2/104، رقم: 380). ونَظِيرُ هذا مَا جَاءَ في نِسَائِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن} الآيَةَ: 30. ثمَّ بينَّ في الآيَةِ: 32 بَعَدَهَا السَّبَبَ فَقَالَ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} وذلكَ لأنَّهُنَّ ـ رضِيَ اللهُ عنهنَّ، نِسَاءَهُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ. وقدْ قيلَ: هُبُوطُ الأَكابِرِ عَلَى حَسَبِ صُعُودِهِمْ، وَمِحَنُ الأَحِبَّةِ ـ وإِنْ قَلَّتْ جَلَّتْ، وَأَنْشَدُوا في هَذَا المَعْنَى بيتَ ابْنِ الرُّوميِّ في عِتَابِ صَديقِهِ أَبي القاسِمِ التوزيِّ الشِطْرَنْجِيِّ:
أَنْتَ عَيْنِي وَلَيْسَ مِنْ حَقِّ عَيْنِي ............. غَضُّ أَجْفانِهَا عَلَى الأَقْذَاءِ
وهو منْ قصيدةٍ لَهُ مطلِعُها:
يَا أَخِي أَيْنَ رَيْعُ ذَاكَ الإِخاءِ ................ أَيْنَ مَا كانَ بَيْنَنَا مِنْ صَفاءِ
وَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:
لا يَحْقِرُ الرَّجُلُ الرَّفيعُ دَقِيقَةً ............ فِي السَّهْوِ فِيها للوَضِيعِ مَعَاذِرُ
وَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغَائِرُ ............... وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ
وَفي هَذَا المَعْنَى لابْنِ الفارِضِ قُدِّسَ سِرُّهُ:
وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي
وَقالُ الشَّاعِرُ الخَفَاجِيُّ:
كَمْ مِنْ عُيُوبٍ لِفَتًى عَدَّهَا ..................... سِوَاهُ زَيْنًا حَسَنَ الصُّنْعِ
فنُكْتَةُ الياقوتِ مَذْمومَةٌ .................... وهيَ التي تُحْمُد في الجَزْعِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ طاهرِ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى المَخْزُومِيِّ:
العَيْبُ في الخامِلِ المَغْمُورِ مَغْمُورُ ... وَعَيْبُ ذِي الشَّرَفِ المَذْكُورِ مَذْكُورُ
كَفُوفَةِ الظُفْرِ تَخْفَى مِنْ حَقَارَتِهَا ........ ومِثْلُها فِي سَوادِ العَيْنِ مَشْهُورُ
وَقَدْ أَشارَوا إِلَى هَذَا التَفَاوُتِ بِقَولِهم: حَسَنَاتُ الأَبْرارِ سَيِّئَاتُ المُقَرَّبِينَ. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ورَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: مَعْصُومٌ، وَلكنَّ هَذِهِ مُخَاطَبَةٌ لأُمَّتِهِ لِئَلَّا يَرْكَنَ أَحَدُ مِنَ المُؤْمِنينَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ المُشْرِكِينِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكامِ اللهِ وَشَرَائِعِهِ.
وَالجُمْلَةُ جَزَاءٌ لِجُمْلَةِ {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ} مِنَ الآيَةِ التي قَبْلَها. وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. وَقَدِ اسْتُغْنِيَ عَنْ رَبْطِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّفْرِيعِ لِمَا فِي "إِذًا" مِنْ مَعْنَى الْجَزَاءِ.
قولُهُ: {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} النَّصِيرُ: النَّاصِرُ الْمُخَلِّصُ مِنَ الْغَلَبَةِ، أَوِ الَّذِي يَثْأَرُ لِلْمَغْلُوبِ، والمَعْنَى: لَا تَجِدُ لِنَفْسِكَ مَنْ يَنْتَصِرُ لَكَ مِنَّا فَيَصُدُّنَا عَنْ إِلْحَاقِ ذَلِكَ العقابِ الشديدِ بِكَ، أَوْ مَنْ يَثْأَرُ لَكَ مِنَّا. وعَدَمُ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، والاسْتِمْرارُ فِيهِ أَهَمُّ مِنْ إِذَاقَتِهِ، فَرُتْبَتُهُ فِي الْأَهَمِّيَّةِ أَرْقَى. وَلِذَلِكَ عُطِفَ بِـ "ثُمَّ" لأَنَّها لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} إِذًا: حَرْفُ جَوابٍ وَجَزَاءٍ، مُقَدَّرَةٍ، بِـ "لو" الشَرْطِيَّةِ؛ أَيْ: وَلَوْ رَكَنْتَ إِلَيْهِمْ .. و "لَأَذَقْناكَ" اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "أَذَقْنَاكَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَعْظِيمِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ فَاعِلُهُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّل. و "ضِعْفَ" مَفْعُولُهُ الثاني، منصوبٌ بِهِ، مُضافٌ، و "الْحَياةِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "ضِعْفَ الْمَماتِ"، مِثْلُ "ضِعْفَ الْحَيَاةِ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ، جَوَابٌ للقَسَم ِالمَحْذُوفِ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ المحذوفِ جَوَابُ "لَوْ" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "لو" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ للترتيبِ الرُّتَبيِّ. و "لا" نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لها. و "تَجِدُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وَهوَ مِنْ وَجَدَ الضَّالَّةَ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى سيدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ. و "لَكَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَجِدُ"، وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "عَلَيْنا" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَصِيرًا"، وضميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحَانَهُ: "نَا" مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "نَصِيرًا" مَفْعُولٌ لِـ "تَجِدُ" منْصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "أَذَقْنَاكَ" على كونِها جَوَابًا لِلقَسَم ِالمَحْذُوفِ لَا مَحلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.