قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
قولُهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} أَمْرٌ مِنْهُ ـ تَعَالى، لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أَنْ يَرُدَّ عَلَى المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الشُّفَعَاءَ إِلى اللهِ، وَالأَنْدَادَ لَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، الذينَ يَزْعمونَ أَنَّ للهِ شُرَكَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، ويَعْبُدونَ مَعَهُ غَيْرَهُ لِيُقَرِّبَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، وَأَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى تُعْبَدُ لِتُقَرِّبَ إِلَيْهِ، وَيَبْتَغُونَ إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَالقُرْبَةَ، فَاعْبُدُوهُ أَنْتُمْ وَحْدَهُ، كَمَا يَعْبُدُهُ مِنْ دُوْنِهِ، وَلاَ حَاجَةَ لَكُمْ إِلَى مَعْبُودٍ يَكُونُ وَسِيطًا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَاللهُ لاَ يُحِبُّ ذَلِكَ. فقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَة إِنَاثًا} قَالَتِ الْيَهُودُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ الْحَقِّ، وَفِي قَوْلِهِ: "قُلْ لَو كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ" الْآيَةَ، يَقُولُ: "لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ" إِذًا لَعَرَفُوا فَضْلَهُ وَمَزِيَّتَهُ عَلَيْهِمْ، فَابْتَغَوْا مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ، إِنَّهُم لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ. وَ "كَمَا تَقُولُونَ" تَنْبِيهٌ عَلَى خَطَئِهِمْ، وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَوْصُولِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} قَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: المَعْنَى لَعَرَفُوا اللهَ وَفَضْلَهُ وَابْتَغَوْا مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ. لِاعْتِرَافِهِمْ بِفَضْلِهِ. وَقَدْ تقَدَّمَ. وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ هذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الْآيَةَ: 57. وقالَ السُدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إِذًا لابْتَغَتِ الآلِهَةُ الحَوائِجَ مِنَ اللهِ.
والمعنى المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وأَبي بَكْرٍ الهُذَلِيِّ، وَالنَّقَّاشِ، وَعَنْ أَبِي مَنْصُورٍ ـ أَيْضًا، وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: لالْتَمَسُوا طَريقًا لمُغَالَبَةِ مَنْ لَهُ المُلْكُ والرُّبُوبِيَّةُ عَلَى الإِطْلاقِ، ومُنَازَعَتِهِ عَرْشَهُ، كَمَا هُوَ دَيْدَنُ المُلوكِ بَعْضِهم مَعَ بَعْضٍ، وهُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَعَدَدٍ مِنَ الْآيَاتِ الشَّاهِدَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، كقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} الآية: 22، وقوْلِهِ مِنْ سُورَةِ المُؤْمِنُون: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية: 91، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ فَرْضَ الْمُحَالِ، وَالْمُحَالُ الْمَفْرُوضُ الَّذِي هُوَ وُجُودُ آلِهَةٍ مَعَ اللهِ تعالى مُشَارِكَةٍ لَهُ ـ سُبحانَهُ، لَا يَظْهَرُ مَعَهُ أَنَّهَا تَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ، بَلْ تُنَازِعُهُ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً حقيقةً، وَقَدْ بُنِيَ دَلِيلُ هذا الوَجْهِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ السُّلْطَانِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ أَنْ يَتَطَلَّبُوا تَوْسِعَةَ سُلْطَانِهِمْ، وَيَسْعَى بَعْضُهُمْ لغَزْوِ بَعْضٍ، وَيَتَأَلَّبَ بَعْضُهم عَلَى السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ لِيَسْلُبَهُ مُلْكَهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَتَاريخُ المَمَالِكِ خيرُ شاهدٍ عَلَى هَذَا فطالَما ثَارَتِ الْأُمَرَاءُ وَالسَّلَاطِينُ عَلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ وَسَلَبُوهُ مُلْكَهُ، فَلَوْ كَانَ مَعَ اللهِ تَعَالَى آلِهَةٌ لَسَلَكُوا مَسْلَكَ أَمْثَالِهِمْ. وَهذَا الْتنازُعُ مُفْضٍ إِلَى اخْتِلَالِ الْعَالَمِ، لِاشْتِغَالِ مُديريهِ ومُدَبِّرِيهِ بِالْمُنازلةِ والمُنَازَعَةِ وَالْمُدَافَعَةِ عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ فِي مِيثُلُوجِيَا الْيُونَانِ مِنْ تَغَالُبِ الْأَرْبَابِ وَكَيْدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وهَوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا} الآية: 22، مِنْ سورةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَابْتِغَاءُ السَّبِيلِ: معناهُ الْتِمَاسُ الطَرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الشَّيْءِ المُبْتَغَى، وتَوَخِّيهِ، وَالِاجْتِهَادُ لِإِصَابَتِهِ وسُلوكِهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي تَوَخِّي وَسِيلَةِ الشَّيْءِ مُطْلَقًا.
قولُهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تَقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى المُخاطَبِ، وهوَ سَيِّدِنا مُحَّمَّدٍ ـ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَوْ" حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جَازِمٍ. و "كانَ" فِعْلٌ مَاضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ. و "مَعَهُ" منصوبٌ عَلى الظَرْفيَّةِ الاعتباريَّةِ، متعلِّقٌ بِخَبَرِ "كانَ" المقدَّرِ، مُقَدَّمًا عَلَى اسْمِها، وَهوَ مُضافٌ، والهَاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. وَ "آلِهَةٌ" اسْمُهَا المُؤَخَّرُ مرفوعٌ بها. والجُمْلةُ مِنَ "كانَ" واسْمِها وخبرِها فِعْلُ شَرْطِ "لَوْ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {كَمَا يَقُولُونَ} الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَشْبِيهٍ، الكافُ مبنيٌّ على الفتْحِ فِي محلِّ النَّصْبِ، وقالَ أَبُو البَقاءِ العُكْبُرِيُّ: إِنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: كَوْنًا كَقَوْلِكُمْ. وقالَ الحُوفيُّ هيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ "مَعَ" مِنَ الاسْتِقْرارِ. وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِـالكافِ. و "يَقُولُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجَازمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. والجملةُ صِلَةُ "ما" المَوْصُولَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والجارُّ والمَجْرُورُ، صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَوْنًا مُشَابِهًا لِمَا يَقُولونَ.
قولُهُ: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} إِذًا: حَرْفُ جَوَابٍ وجَزَاءٍ، دَالَّةٌ عَلَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى الْجَوَابِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُقْتَرِنَةُ بِجَوَابِ "لَوْ" الِامْتِنَاعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ حُصُولِ جَوَابِهَا، لِأَجْلِ امْتِنَاعِ وُقُوعِ شَرْطِهَا، وَهِيَ مُهْمَلَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا. قالَ أبو القاسِمِ الزَمَخْشَرِيُّ: (وَ "إِذًا" دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا وهو "لابتَغَوا" جَوَابٌ لِمَقَالَةِ المُشْرِكِينَ وَجَزَاءٌ لـ "لو"). وَ "لَابْتَغَوْا" اللامُ: هي الرابِطَةُ لِجَوابِ "لَوْ". وَ "ابْتَغَوا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ المُقَدَّرِ عَلَى الأَلِفِ المَحْذوفَةِ لالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والألِفُ للتَّفْريقِ. و "إِلى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ابْتَغَوْا"، أَوْ بِحالٍ مِنْ "سَبِيلًا"، و "ذِي" مجرورٌ بجرفِ الجرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ مِنَ الأسْماءِ الخَمْسَةِ، وهوَ مُضافٌ. و "الْعَرْشِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ. و "سَبِيلًا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. وجُمْلَةُ "ابْتَغَوْا" جَوَابُ "لَوْ" الشَرْطِيَّةِ، وجُمْلَةُ "لَوْ" الشَرْطِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قُلْ".
قرَأَ العامَّةُ: {تَقولونَ} بالتَاءِ مِنْ فَوْقُ، حَمْلًا عَلَى مَعْنَى: "قُلْ" أَيْ: قُلْ لَهُمْ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ. وَقَرْأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَفْصٌ "يَقولونَ" بالياءِ مِنْ تَحْت. حَمْلًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا}.
وأَدْغَمَ أَبُو عَمْرٍو الشِّينَ في السِّينِ، وقد اسْتَضْعَفَهَا النُّحاةُ لِقُوَّةِ الشِّينِ وضعفِ السِّينِ.