إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} رَوَى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ ـ سُبحانَهُ، يُريدُ: أَوْلِيائي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ فِي الشِّرْكِ. ورَوَى أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ورُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: عِبَادَهُ الذين لا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ هُمُ المُؤْمِنُونَ، فَقَوْلُهُ: "عِبادِي" يُفِيدُ أَنَّهُمْ تَمَحَّضُوا لِعُبُودِيَّةِ اللهِ ـ تَعَالَى، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِضَافَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" قَالَ: عِبَادِي الَّذينَ قَضَيْتَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِم أَنْ يُذْنِبُوا ذَنْبًا إِلَّا أَغْفِر لَهُمْ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مِنْ كِتَابِهِ العَزيزِ: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} الآية: 100، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ. فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَالْجِنَّ وَأَعْرَضَ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ.
وهَذا حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ بِأَنْ يَكُونَ عِبادُهُ المُؤْمِنُونَ بِهِ، المُطِيعونَ لَهُ، المُتَوَكِّلونَ عَلَيْهِ، رَعِيَّتَهُ وَخاصَّتَهُ، فَلَيْسَ للشيطانِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ لأَنَّهم مَحْفوظونَ مِنْ وَسْوَسَتِهِ وكَيدِهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ يَسْتَهْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ، وقَدْ يُغْويهم، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَثُوبُوا إِلَى ربِّهم ويَعْمَلُوا الصَّالِحَاتِ.
قولُهُ: {وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} أَيْ: أَنَّهُمْ اسْتَعَاذُوا بِاللهِ ـ تَعَالَى، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجيمِ وتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ، فحَفِظَهمْ مِنْهُ، فَكَانَ لَهُمْ خَيْرَ وَكِيلٍ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَجَّاجُ في مَعَانِي القُرْآنِ وَإِعْرابُهُ لَهُ: (3/251)، قولُهُ: "وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا" وَكِيلًا لأَوْلِيائِهِ يَعْصِمُهُمْ مِنَ القَبُولِ مِنْ إِبْلِيسَ، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المَعْصُومَ مَنْ عَصَمَهُ اللهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافُ الْخِطَابِ ضَمِيرَ الشَّيْطَانِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللهِ، وَ "كَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا" تَكْمِلَةً لِتَوْبِيخِ الشَّيْطَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكُونَ كَافُ الْخِطَابِ ضَميرَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذَلِكَ تَقْرِيبًا لَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللهِ ـ تَعَالى، فتَكُونُ الجملةُ مُعْتَرِضَةً فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الِاعْتِبَارُ فَمَآلُ الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ. وَفِي هَذَا التَّوَكُّلِ مَرَاتِبُ مِنَ الانْفِلاتِ عَنِ احْتِنَاكِ الشَّيْطَانِ، وَهِيَ مَرَاتِبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَخْذِ بِطَاعَةِ اللهِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ والجماعةِ. والحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} إِنَّ: حَرْفٌ ناسِخٌ ناصِبٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكيدِ. وَ "عِبادِي" اسْمُ "إِنَّ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الفتْحةُ المُقدَّرةُ على ما قبلِ ياءِ المتكلِّمِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "لَيْسَ" فِعْلٌ نَاقِصٌ جامِدٌ. وَ "لَكَ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "لَيْسَ"، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "عَلَيْهِمْ" عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخبرِ أَوم يَتَعَلَّقُ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ "سُلْطانٌ"، نَعْتٌ تَقَدَّمَ مَنْعُوتَهُ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمْعِ المُذكَّر. وَ "سُلْطانٌ" اسْمُ "لَيْسَ" مَرْفوعٌ بِهَا مُؤَخَّرٌ؛ والتقديرُ: لَيْسَ سُلْطانٌ عَلَيْهِمْ كائِنًا لَكَ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "كَفى" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ. وَ "بِرَبِّكَ" الباءُ: حرفُ جرٍّ زَائدٍ، و "ربِّكَ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجَرِّ الزائدِ، مرفوعٌ محلًا فاعِلُ "كَفى"، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "وَكِيلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى التَمْيِيزِ لِنِسْبَةِ "كَفى" إِلَى فَاعِلِهِ، وَجُمْلَةُ "كَفى" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "إنَّ" على كونِها جملةً مُسْتأنفةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.