إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} إِنَّ هذا القرآنَ: هُوَ أَعْظَمُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَأَجْمَعُهَا لِجَمِيعِ الْعُلُومِ، وَآخِرُهَا عَهْدًا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ـ جَلَّ وَعَلَا. واسْمُ الإِشارَةِ "هَذَا" فِيهِ تَعْظيمٌ لِمَا أُنْزِلَ عَلى النَبِيِّ المُصْطَفَى ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. و "الَّتي هِيَ أَقْوَمُ" أَيْ أَسَدُّ الطُرُقِ وأَقْوَمُها وأَصْوبُها. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} قَالَ: للَّتِي هِيَ أَصْوَبُ. وَهُوَ الدِّينُ الإِسْلامِيُّ الحَنِيفُ، والشَّرْعُ الشريفُ، ومِلَّةُ تَوْحِيدِ المَوْلى اللطيفِ ـَ عَزَّ شَأْنُهُ، وَجَلَّ جلالُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّكمْ عَلَى دَائِكُمْ وَدَوَائِكُمْ، فَأَمَّا دَاؤكم فالذُنُوبُ والخَطَايَا، وَأَمَّا دَوَاؤكمْ فَالاسْتِغْفَارُ. والمَوْصُولُ هنا "التي" واقعٌ صِفَةً لِمَوْصوفٍ مَحذوفٍ اخْتِصارًا، تَقْديرُهُ المِلَّةُ أَوْ الطَرِيقَةُ، وَأَيَّما قَدَّرْتَ فَلَنْ تَتَذَوَّقَ حَلاوةَ البلاغَةِ التي تَجِدُها في الحَذْفِ. لِما فِي إِبْهامِ المَوْصُوفِ بِحَذْفِهِ مِنْ فَخَامَةٍ تُفْقَدُ مَعَ التصْريحِ بِهِ وإِيضاحِه. وَ "أَقْوَمُ" بِوزْنِ "أَفْعَل" التَفْضِيلِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ العُلَمَاءِ. إِلَّا أَنَّ الشيخَ أَبَا حَيَّانٍ الأَنْدَلُسيَّ خَالَفَهمْ في ذَلِكَ قائِلًا: الذي يَظْهَرُ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى أَنَّهُ لا يُرادُ بِهِ التَفْضِيلُ إِذْ لا مُشَارَكَةَ بَيْنَ الطَريقَةِ التي يَهْدِي لَهَا القُرْآنُ وغَيْرِها مِنَ الطُرُقِ فِي مَبْدَأِ الاشْتِقَاقِ لِتُفَضَّلَ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: الَّتي هِيَ قَيِّمَةٌ، أَيْ: مُسْتَقِيمَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالى في الآيَةِ: 3، مِنْ سُورَةِ البيِّنَةِ: {فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ}. ثمَّ قالَ بعدَها في الآيةِ: 5: {ذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ}. وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الإِمامُ الرَّازِيُّ أَيضًا ـ رَحمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قولُهُ: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} هِيَ الصِّفَةُ الثانِيَةُ التي ذَكَرَها اللهُ تَعَالى لِكِتَابِهِ الكَريمِ. وَهِي أَنَّهُ يَحْمِلُ البُشْرَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ بهِ الذينَ آمَنُوا بربِّهِمُ العَظيمِ، وكِتابِهِ الكريمِ، ورسولِهِ الخاتمِ ـ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، وامْتَثَلُوا أَوامِرَهُ ونواهِيهِ، مِنْ تَرْكِ المُوبِقاتِ وفِعْلِ الصَّالِحَاتِ.
قولُهُ: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} هو مضمونُ البَشَارَةِ التي حَمَلها لهم هذا الكتابُ العظيمُ (القرآنُ الكريمُ) بِأَنَّ اللهَ ـ تَعالى، قَدْ أَعَدَّ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ الذينَ عملوا الصَّالِحاتِ، أَجْرًا كبيرًا عظيمًا عَلَى إِيمانِهم بِهِ والتِزامِ أَوَامِرِهِ، وهوِ الحِيِاةُ الهانِئَةُ المُطْمئنَّةُ في جَنَّاتِ النَّعيمِ التي أَعَدَّها لهم، خالدينَ فيها أَبَدًا. و "أَجْرًا كَبِيرًا" بِحَسَبِ الأَجْرِ بِالذَّاتِ، وبِحَسَبِ التَضْعيفِ عَشْرًا فصاعدًا، وَفَسَّرَ ابْنُ جُرَيْجٍ الأَجْرَ الكَبيرَ، وكَذَا الرِّزْقَ الكَريمَ الواردَ فِي كُلِّ القُرْآنِ بـ "الجَنَّةِ".
وفي هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى كتابَهُ العظيمَ (القُرْآنَ)، بِأَنَّهُ يَتَّصِفُ بِصِفَتَينِ أوَّلُهُمَا: أَنَّهُ يَهْدِي لأَقْوَمِ الطُّرُقِ، وَأَوْضَحِ السُّبُلِ إلى مرضاةِ اللهِ تَعَالى. وثانهُما أَنَّهُ يُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وِفْقَ مَا شَرَعَهُ اللهُ لهمْ، بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْراً كَبِيرًا، وفي آيةٍ: عظيمًا، وفي آيةٍ كريمًا، وفي آيةً حَسَنًا.
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} إِنَّ: حَرْفُ نَصْبٍ ونَسْخٍ وتَوكيدٍ مُشبَّهٌ بالفعلِ. و "هذَا" الهاءُ: للتَنْبيهِ، وَ "ذَا" اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ". و "الْقُرْآنَ" بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الإِشارَةِ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، منصوبٌ. و "يَهْدِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ على آخِرِهِ لثِقَلِها على الياءِ. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "الْقُرْآنَ" وَمَفْعولُهُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: النَّاسَ كافَّةً، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لِلَّتِي" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَهْدِي"، و "التي" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "هِيَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابتِداءِ. و "أَقْوَمُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الاسْميَّةُ هذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ، لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} الوَاوُ: للعطفِ، و "يُبَشِّرُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. وفاعِلُهُ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على القرآنِ الكريم. و "الْمُؤْمِنِينَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفً عَلَى جُمْلَةِ "يَهْدِي" على كونِها خبرَ "إنَّ". و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ النَّصْبَ صِفَةُ "الْمُؤْمِنِينَ". و "يَعْمَلُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. و "الصَّالِحاتِ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرَةُ نيابةً عَنِ الفَتْحَةِ لأنَّهُ جمعُ المؤنَّثِ السَّالمُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} إِنَّ: حَرْفُ نَصْبٍ ونَسْخٍ مَصْدَرِيٌّ للتوكيدِ مُشبَّهٌ بالفعلِ. و "لَهُمْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخَبَرِ "أنَّ" المُقَدَّمِ المقدَّرِ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "أَجْرًا" اسْمُ "أنَّ" منْصوبٌ مُؤَخَّرٌ. وَ "كَبِيرًا" صِفَةٌ لـ "أَجْرًا" منصوبةٌ مثلُهُ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُبَشِّرُ"، والتَقْديرُ: وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الذين يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بِكَوْنِ أَجْرٍ كَبيرٍ لَّهُمْ.
قَرَأَ الجُمهورُ: {وَيُبَشِّرُ} بتشديدِ الشِّينِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ. وَطَلْحَةُ. وَابْنُ وَثَّابٍ. والأَخَوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ) "وَيَبْشُرُ" بتَخْفِيفِها، مُضَارِعُ "بَشَرَ" المُخَفَّفِ. وجاءَ أَيضًا: بَشَّرْتُهُ، وَبَشَرْتُهُ، وَأَبْشَرْتُهُ.