سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا
(43)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} أَيْ: تَنَزَّهَ بِذَاتِهِ تَنَزُّهًا حَقيقًا بِهِ، وَتَعَالَى تَعَاليًا مُتَبَاعِدًا جدًّا عَمَّا يَقُولُونَهُ مِنَ الفِرْيَةِ العَظِيمَةِ التي يدَّعونَها مِنْ أَنَّه لهُ بناتٍ هُنَّ الملائكةُ، أَوْ أَنَّ مَعَهُ آلِهَةٌ أُخْرَى تُشاركُهُ مُلْكَهُ، كيفَ وهُوَ ـ سُبْحانَهُ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الوُجُودِ، وهوَ الوُجُوبُ الذاتِيُّ، ومَا يدَّعونَهُ مِنْ أَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ وأندادًا وأَوْلادًا هو مُمْتَنِعٌ فَي أَبْعَدِ مَرَاتِبِ العَدَمِ. فَالمُرادُ بَيَانُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِمَّا يَقُولُونَهُ مَحْذُورٌ عَظيمٌ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُونَ.
وهَذِهِ الآيةُ مُسْتَأْنَفةٌ لِأَنَّ مَضْمُونَها نَتِيجَةٌ لِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ: (إِنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً)، بِمَا نَهَضَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بقَوْلِهِ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}. وفيها تَنْزِيهٌ للهِ ـ تَعَالَى، عَمَّا ادَّعَوْهُ مِنْ وُجُودِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وعُلُوًّا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عَامِلُهُ (تَعَالَى). جِيءَ بِهِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ فِعْلِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّعَالِيَ هُوَ الِاتِّصَافُ بِالْعُلُوِّ بِحَقٍّ، لَا بِمُجَرَّدِ الِادِّعَاءِ، كَمَا قَالَ ـ سُبْحَانَهُ، فِي الآيَةِ: 24، مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}، أَيْ: يَدَّعِي الْفَضْلَ وَلَا فَضْلَ لَهُ. ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سُعْدَةَ، أُمِّ الْكُمَيْتِ بْنِ مُعَرٍّ:
تَعَالَيْتَ فَوْقَ الْحَقِّ عَنْ آلِ فَقْعَسٍ ... وَلَمْ تَخْشَ فِيهِمْ رِدَّةَ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ
وَالْكَبِيرُ: هُوَ الْكَامِلُ فِي جنسِهِ ونَوْعِهِ. وَأَصْلُ كِبَرِ الشَّيْءِ ضَخَامَةُ جِسْمِهِ، أَيْ: أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ قَدْ تَعَالَى أَكْمَلَ عُلُوٍّ عَمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ ذَاتِهِ العليَّةِ، وَبَيْنَ نِسْبَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، بَلَغَتْ فِي قُوَّةِ الظُّهُورِ حَدًّا لَا تَحْتَاجُ معهُ إِلَى زِيَادَةٍ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ لِذاتِهِ المُقدَّسَةِ يُنَافِي الْعَجْزَ والِاحْتِيَاجِ.
قولُهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} سُبْحانَهُ: منصوبٌ على أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا، تَقْديرُهُ: أُسَبِّحُهُ سُبْحَانًا، وهو مُضافٌ، والهاءُ: في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ. ويجوزُ أنْ تكونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ لـ "قُلْ". وَ "تَعالَى" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المُقدَّرِ على آخرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلى الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تعالى. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ المَصْدَرُ، والتَقديرُ: تَنَزَّهَ وَتَعَالَى عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَأْنفةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "عَمَّا" عَنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَعالى"، أَوْ بِـ "سُبْحانَ" عَلَى الإِعْمالِ فإِنَّ "عن" مِنْ قَوْلِهِ تعالى في سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَةِ عَمَّا يَصِفُونَ} الآيةِ: 180، تَعَلَّقَتْ بِهِ. وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "يَقُولُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجَازمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. والجملةُ صِلَةُ "ما" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: عَمَّا يَقولونَهُ. "علوًّا" نْصْبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلنَّوْعِ، لِـ "تَعَالَى" لأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَعَالِي. وَ "كَبِيرًا" صِفَةٌ لَهُ مَنْصُوبَةٌ مِثْلُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: {عَمَّا يَقُولُونَ} بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ "تَقُولُونَ" بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، أَوْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ مِنْ قَوْلِهِ تعالى في الآيةِ التي قبلَها: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} الآية: 42، مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ.