وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا
(4)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} قَضَيْنا: حَكَمْنَا، أَوْ قدَّرْنا، فالْقَضَاءُ هنا بِمَعْنَى الْحُكْمِ، أَيْ: التَّقْدِيرُ، وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وغيرُهُ مِنَ المُفَسِّرينَ: أَعْلَمْنَاهُم، وأَخْبَرْنَاهُمْ. أَخْرَجَهُ الطَبَرِيُّ: (15/21)، والنَّحَّاسُ فِي مَعَانِي القُرْآنِ: (4/122)، والسَمَرْقَنْدِيُّ في تفسيرِهِ: (2/260)، والثَعْلَبِيُّ في تفسيرِهِ: (7/104أ)، والطوسيُّ: (6/448)، والسُيُوطيُّ في الدُرِّ المَنْثُورِ: (4/295 ـ 296)، وزادَ نِسْبَتَه إِلَى ابْنِ المُنْذِرِ، وابْنِ أبي حاتِمٍ، وكلُّ هؤلاءِ أخرجوهُ بنصِّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وأَخرجَهُ بنحوِهِ عَنِ ابنِ عباسٍ: هُودُ الهوارِيُّ في تفسيرِهِ: (2/408)، والماورْدِيُّ: (3/228)، والبَغَوِيُّ: (5/67)، وابن عَطِيَّةَ: (9/15)، وابْنُ الجَوْزِيِّ: (5/7)، والفَخْرُ الرَّازِيُّ: (20/155)، والخَازِنُ: (3/152)، وأَبو حَيَّانٍ في البحْر: (6/
. وقال أَبو إِسْحَاقٍ الزَجَّاجُ: مَعْنَاهُ: أَعْلَمْنَاهم في الكِتَابِ، وأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ. ومِثْلُ ذَلِكَ قولُهُ مِنْ سورةِ الحجر: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} الآية: 66، معناهُ: أَعْلَمْنَاهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ. مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُه: (3/227)، ومعنى القضاءِ فِي اللُّغَةِ: قَطْعُ الأَشْياءِ عَنْ إِحْكامٍ، ومِنْهُ قَوْلُهُ تعالى مِنْ سورةِ فُصِّلتْ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} الآية: 12، وكذلكَ قولُ الشّاعِرِ المُخَضْرَمِ أبي ذُؤَيب الهذلي:
وعليهما مَسْرودَتان قضاهما ................ داوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوَابغِ تُبَّع
وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ في هَذِهِ الآيَةِ: أَعْلَمْنَاهُمْ؛ لأَنَّهُ لَمَّا خَبَّرَهُمْ أَنَّهُم سَيُفْسِدونَ فِي الأَرْضِ، حَتَّمَ بِوُقوعِ الخَبَرِ. تَأْويلُ مُشْكِلِ القَرْآنِ: (ص: 441)، وَ "إِلَى" في هَذِهِ الآيَةِ هيَ مِنْ صِلَةِ الإِيحاءِ؛ لأَنَّ مَعْنَى: "قَضَيْنَا" أَوْحَيْنَا، فالمَعْنَى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ، كَذَا قالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَجَّاجُ في معاني القرآنِ وَإِعْرابِهِ: (3/227). وإلَّا فإنَّ الفعلَ "قَضَى" يتعدَّى بنفسِهِ، قالَ تعالى مِنْ سورةِ الأحزاب: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} الآية: 37، وقالَ مِنْ سورةِ القَصَص: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} الآية: 29، وإِنَّمَا تَعَدَّى هُنَا بـ "إلى" لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى: "أَنْفَذْنَا" و "أَوْحَيْنا"، أَيْ: أَنْفَذْنا إِلَيْهِمْ بالقَضَاءِ المَحْتُومِ. وَمُتَعَلَّقُ القَضَاءِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ" والتَقْديرُ: وَقَضَيْنَا إِلى بَني إِسْرائيلَ فِي الكِتَابِ بِإِفْسَادِهِمْ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ. وَ "فِي الْكِتَابِ" أَيْ: أَنَّ هذا الْقَضَاءَ قَدْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، والمُرادُ بِهِ كتابُهُمُ "التَوْرَاةُ" فَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ آنِفًا. وَهَذا عَطْفٌ عَلَى قولِهِ في الآيةِ: 2، السَّابِقَةِ: {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ}، أَيْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ هُدًى، وَبَيَّنَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ مَا يَحِلُّ بِهِمْ جَرَّاءَ مُخَالَفَتِهم هَدْيِ التَّوْرَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرادُ بـ "الْكِتَابِ" بَعْضَ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ. فَالتَعْرِيفُ للْجِنْسِ، وَلَيْسَ للْعَهْدِ الذِّكْرِيِّ، إِذْ لَيْسَ هُوَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ آنِفًا فِي قَوْلِهِ منَ الآيةِ: 2، السابقةِ: {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} لِأَنَّهُ لَمَّا أَظْهَرَ اسْمَ الْكِتَابِ أَشْعَرَ بِأَنَّهُ كِتَابٌ آخَرُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَهُوَ الْأَسْفَارُ الْمُسَمَّاةُ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ: أَشْعِيَاءَ، وَأَرْمِيَاءَ، وَحِزْقِيَالَ، وَدَانْيَالَ، وَهِيَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وذُكِرَ وَالْإِفْسَادُ مَرَّتَيْنِ فِي كِتَابِ أَشْعِيَا وَكِتَابِ أَرْمِيَا. والْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ، يُرَادُ بِهِ الْمُتَعَدِّدُ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ الْكِتَابَ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ. وَضَمَائِرُ الْخِطَابِ فِي الآيَةِ تمنَعُ كُونَ الْمُرَادِ بِـ "الْكِتَابِ" اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ أَوْ عِلْمُ اللهِ.
قولُهُ: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} بَيَانٌ لِقولِهِ قَبْلُ: "وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ"، و "لَتُفْسِدُنَّ" أَصْلُهُ لَتُفْسِدُونَنَّ. وَ "لَتُفْسِدُنَّ" قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ المَعَاصِي وَخِلافَ أَحْكامِ التَوْرَاةِ. تَنْويرُ المِقْبَاس: (ص: 296)، وَبِنَحْوِهِ في تَفْسير البَغَوِيِّ: (5/79)، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. و "فِي الْأَرْضِ" قَالَ الكَلْبِيُّ: يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ. وفي قولِهِ "مرَّتينِ" إِشارَةٌ إِلَى حَوَادِثَ عَظِيمَةٍ وقعتْ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيْنَ الْبَابِلِيِّينَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّومَانِ، فَعَبَّرَ عَنِهُما بِمَرَّتَيْنِ وكُلُّ مَرَّةٍ مِنْهُمَا تَحْتَوِي عَلَى عِدَّةِ مَلَاحِمَ عظيمةٍ. فَفي سَنَةَ: (606)، قَبْلَ مِيلادِ السَيِّدِ الْمَسِيحِ، عيسى ابْنِ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، غَزَا (بُخْتُنَصَّرُ) مَلِكُ بَابِلَ وَآشُورَ بِلَادَ أُورْشَلِيمَ، وأَسَرَ مِنَ الْيَهُودِ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَيُسَمَّى الْأَسْرَ الْأَوَّلَ. ثُمَّ غَزَاهُمْ غَزْوًا أَعْظَمَ مِنَ الْأَوَّلِ سَنَةَ (598) قَبْلَ الْميلادِ، سُمِّيَ الْأَسْرَ الثَّانِيَ، فَأَسَرَ مَلِكَ يَهُوذَا، وَجَمْعًا غَفِيرًا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَأَخَذَ الذَّهَبَ الَّذِي فِي هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَوانِي النَّفِيسَةِ. ثمَّ غَزاهم بعدَ عَشْرِ سِنينَ غزوًا مُبِيرًا سُمِّيَ الْأَسْرَ الثَّالِثَ فسَبَى كُلَّ شَعْبِ يَهُوذَا، وَأَحْرَقَ هَيْكَلَ سُلَيْمَانَ، وَبَقِيَتْ أُورْشَلِيمُ خَرَابًا يَبَابًا. ثُمَّ أَعَادُوا تَعْمِيرَهَا كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 6، الآتِيَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عليهِمْ}. وَأَمَّا الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ غَزَوَاتُ الرُّومَانِيِّينَ لَهُمْ وَسَنُفَصِّلُ بَيَانَهَا أَيْضًا عِنْدَ تَفْسيرِ الآيَةِ السَّادِسَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وقد كانَ ذَلِكَ تَسْلِيطًا مِنْهُ تَعَالَى للانْتِقامِ مِنْهم بِسَبَبِ فَسَادِهِمْ، وَإِسْنَادُ الْإِفْسَادِ إِلَى ضَمِيرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ إِفْسَادٌ مِنْ عامَّتِهِمْ، بِحَيْثُ تُعَدُّ الْأُمَّةُ كُلُّهَا مُفْسِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ الأمَّةُ لَا تَخْلُو مِنْ بَعْضِ الصَالِحِينَ. وأَخْرَجَ عبد الرَّزاقِ الصنعانيُّ: (2/373) عَنْ قَتَادَةَ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، والطَبَرِيُّ: (15/28)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما، وعنْ قتادَةَ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ الإفسادَ الأوَّلَ كان في أَرْضِ مِصْرَ فأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهمْ جالوتَ، ثمَّ عاد مُلْكُهم كما كانَ. ووردَ في (معاني القرآن وإعرابه) للنَحَّاسِ: (4/123)، بِنَحْوِهِ عَنْ قَتَادَةَ، وفي تفسير الثَّعْلَبِيِّ: (7/104أ)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُما، بِنَحْوِهِ أيضًا، ووَرَدَ بِنَحْوِهِ عَنْهُما ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُما، في تفسيرِ الطوسِيِّ: (6/448)، وأَوْرَدَهُ السُّيُوطِيُّ في الدُرِّ المَنْثورِ: (4/299)، وعَزَاهُ إِلى ابْنِ أَبي حاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ العَوفيِّ، وَأَوْرَدَهً وَزادَ نِسْبَتَهُ إِلى ابْنِ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَوْردَهُ أيضًا في: (5/244)، وزَاد نِسْبَتَهُ إِلى ابْنِ أَبي حاتمٍ عَنْ قَتَادَةَ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} أَصْلُ "لَتَعْلُنَّ" لَتَعْلُوُونَنَّ. وهو مَجَازٌ فِي الطُّغْيَانِ وَالْعِصْيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سورةِ النَّمْلِ: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} الآية: ،31 وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} الْآية: 4، وَكقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الدُخان: {إِنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} الآيةَ: 31، تَشْبِيهًا لِلتَّكَبُّرِ وَالطُّغْيَانِ بِالْعُلُوِّ عَلَى الشَّيْءِ لِامْتِلَاكِهِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وَهَذَا إِعْلَامٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالى لَمْ يَدَّخِرْ أُولَئِكَ القَوْمَ نُصْحًا وإِرْشَادًا.
قولُهُ تَعَالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} الواوُ: للاستئْنافِ، وَ "قَضَيْنا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتَّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهَ، سُبْحانَهُ وَ "نَا" التَعْظيمِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "إِلى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَضَيْنا"، و "قضى" يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، أَوْ بِـ "عَلَى"، وَإِنَّمَا عَدَّاهُ هُنَا بِـ "إِلى" لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى "أَوْحَيْنَا"، و "بَنِي" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مِنَ الأَسْماءِ الخمسةِ، وهو مُضافٌ. و "إِسْرائِيلَ" مَجْرُورٌ، بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الفتحةُ نيابةً عَنِ الكسْرةِ لأَنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرفِ بالعلميَّةِ والعُجْمَةِ. وَ "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَيْضًا، و "الْكِتابِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "تُفْسِدُنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِ إلَّا أنَّها حُذِفَتْ لِتَوالي الأَمْثَالِ، والواوُ المُحْذُوفَةُ أَيضًا لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، وجملةُ "لَتُفْسِدُنَّ" جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، والتقديرُ: وَاللهِ لَتُفْسِدُنَّ، وَهَذَا القَسَمُ مُؤَكِّدٌ لِمُتَعَلَّقِ القَضَاءِ. وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ جَوابًا لِقَوْلِهِ: "وقَضَيْنا" لأَنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى القَسَمِ، وَمِنْهً قَوْلُهُم: (قَضَاءُ اللهِ لأَفْعَلَنَّ) فيُجْرُونَ القَضَاءَ والنَّذْرَ مُجْرَى القَسَمِ فَيُتَلَقَّيانِ بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ القَسَمُ. وعلى كلِّ فإنَّ الجملةَ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُفْسِدُنَّ"، و "الْأَرْضِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجرِّ، وَمَفْعُولُ الإِفْسادِ مَحْذُوفٌ، والتقديرُ: لَتُفْسِدُنَّ الأَدْيَانَ فِي الأَرْضِ. و "مَرَّتَيْنِ" مَنْصُوبٌ عَلَى المَصْدَرِيَّةِ، والعامِلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ، لأَنَّهُ بِمَعْنَى: لَتُفْسِدُنَّ إِفْسادَتَيْنِ.
قولُهُ: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} الواوُ: عاطفةٌ وَ "لَتَعْلُنَّ" مثلُ "لتفسدُنَّ" معطوفٌ عليهِ ولهُ مثلُ إعرابِهِ. و "عُلُوًّا" مَنْصُوبٌ عَلَى المَصْدَرِيَّةِ. و "كَبِيرًا" صِفَةٌ لَهُ منصوبةٌ مِثْلهُ.
قرأَ العامَّةُ: {الكتابِ} بالتَوْحِيدِ مُرادًا بـ "الكتابِ" الجنسُ. وقرأَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وأَبُو العَالِيَةِ "في الكُتُبُ" فجَاؤوا بهِ نَصًّا في الجَمْعِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {لتُفسِدُنَّ} بِضَمِّ التّاءِ وَكَسْرِ السِّينِ، مُضَارعَ "أَفْسَدَ"، ومَفْعُولُهُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: لَتُفْسِدُنَّ الأَدْيانَ. ويَجُوزُ أْنْ لا يُقَدَّرَ مَفْعُولٌ، أَيْ: لَتُوقِعُنَّ الفَسَادَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، وجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم جميعًا، "لَتُفْسَدُنَّ" بِالبِنَاءِ للمَفْعُولِ، أَيْ: لَيُفْسِدَنَّكمْ غيْرُكم، وهو إِمَّا مِنَ الإِضلالِ، أَوْ مِنَ الغَلَبَةِ. وَقَرَأَ عِيسى بْنُ عُمَرَ "لَتَفْسُدُنَّ" بِفَتْحِ التاءِ وضَمِّ السِّينِ، أَيْ: فَسَدْتُم بِأَنْفُسِكُمْ.
قَرأَ العامَّةُ: {عُلُوًّا} بِضَمِّ العَيْنِ، مَصْدَرَ "عَلَا يَعْلُو". وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ "عِلِيًّا" بِكَسْرِهِمَا وبالياءُ، والأَصْلُ الواوُ، وَإِنِّما اعْتَلَّ عَلَى اللُّغَةِ القَلِيلَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ "فُعُولًا" المَصْدَرَ الأَكْثَرُ فِيهِ التَصْحِيحُ، نَحْوَ: عَتَا عُتُوًّا، والإِعْلالُ قَلِيلٌ نَحْوَ قولِهِ تعالى مِنْ سُورةِ مَرْيَمَ: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} الآيةَ: 69، عَلَى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بيانُهُ في مَكانِهِ ـ إِنْ شاءَ اللهُ تَعَالى، وإنْ كانَ جَمْعًا فالكَثيرُ الإِعْلالُ. نَحْوَ: "جِثِيًّا" وشَذَّ: "بَهْوٌ" و "بُهُوُّ"، و "نَجْوٌ" و "نَجَوٌّ"، وَقَاسَهُ الفَرَّاءُ.