وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: (فِي بَابِ إِذَا مَاتَ فِي الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ بِهِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ الْيَمَانَ وَالِدَ حُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مَا نَصُّهُ: وَحُجَّتُهُ (يَعْنِي إِعْطَاءَ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ قِصَّةِ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ: أَنَّ وَالِدَ حُذَيْفَةَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَتَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ أَيْضًا (فِي بَابِ الْعَفْوِ عَنِ الْخَطَأِ) وَرَوَى مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ مَذْكُورٍ: أَنَّ رَجُلًا زُحِمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَمَاتَ، فَوَدَاهُ عَلِيٌّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ أُخْرَى (مِنْهَا) قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ حَضَرَ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِمْ فَلَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. (وَمِنْهَا) قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ: أَنَّهُ يُقَالُ لِوَلِيِّهِ ادَّعِ عَلَى مَنْ شِئْتَ وَاحْلِفْ، فَإِنْ حَلَفْتِ اسْتَحْقَقْتَ الدِّيَةَ، وَإِنْ نَكَلْتَ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّفْيِ وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّ الدَّمَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالطَّلَبِ.
(وَمِنْهَا) قَوْلُ مَالِكٍ: دَمُهُ هَدَرٌ. وَتَوْجِيهُهُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ بِعَيْنِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ أَحَدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الرَّاجِحِ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ (فِي بَابِ الْعَفْوِ عَنِ الْخَطَأِ). انتهى كلامُ ابْنِ حجر. وَالتَّرْجِيحُ السَّابِقُ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُوَ قَوْلُهُ فِي قَوْلِ حُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مُخَاطِبًا لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَبَاهُ خَطَأً: "غَفَرَ اللهُ لَكُمْ" اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ دِيَتَهُ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ حَضَرَ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "غَفَرَ اللهُ لَكُمْ"، عَفَوْتُ عَنْكُمْ، وَهُوَ لَا يَعْفُو إِلَّا عَنْ شَيْءٍ اسْتَحَقَّ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ. انْتَهَى مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. فَكَأَنَّ ابْنَ حَجَرٍ يَمِيلُ إِلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قَالَ الشنقيطيُّ رحِمَهُ اللهُ تَعَالى: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي اللَّوْثِ الَّذِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِهِ: أَنَّهُ كُلُّ مَا يَغْلِبُ بِهِ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فِي دَعْوَاهُمْ، لِأَنَّ جَانِبَهُمْ يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ فَيَحْلِفُونَ مَعَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ (أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الرِّوَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ مَا تَحْصُلُ بِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ).
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: لَا يَحْلِفُ النِّسَاءُ وَلَا الصِّبْيَانُ فِي الْقَسَامَةِ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ فِيهَا الرِّجَالُ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَاللَّيْثُ، وَوَافَقَهُمْ مَالِكٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جميعًا، فِي قَسَامَةِ الْعَمْدِ، وَأَجَازَ حَلِفَ النِّسَاءِ الْوَارِثَاتِ فِي قَسَامَةِ الْخَطَإِ خَاصَّةً. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَحْلِفُ فِي الْقَسَامَةِ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ إِلَّا الرِّجَالُ بِأَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي الْقَسَامَةِ يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ. قَالُوا: وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الرِّجَالِ لَا يُقْسِمُ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ بِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ"، فَجَعَلَ الْحَالِفَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْوَارِثِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَلِفُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ. وَأَجَابَ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ حُجَّةِ الْأَوَّلِينَ بِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ" مَا نَصُّهُ: هَذَا مِمَّا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْوَارِثِ خَاصَّةً لَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقَبِيلَةِ. وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا: أَنَّ مَعْنَاهُ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ يَمِينًا، وَالْحَالِفُ هُمُ الْوَرَثَةُ، فَلَا يَحْلِفُ أَحَدٌ مِنَ الْأَقَارِبِ غَيْرُ الْوَرَثَةِ، يَحْلِفُ كُلُّ الْوَرَثَةِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَوَافَقَنَا مَالِكٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً، وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَقَالَ: يَحْلِفُ الْأَقَارِبُ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا تَحْلِفُ النِّسَاءُ وَلَا الصِّبْيَانُ. وَوَافَقَهُ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ الَّذِي أَوَّلُوا بِهِ الْحَدِيثَ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِتَمْيِيزِ الْخَمْسِينَ بِالرَّجُلِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَبْدَأَ بِأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، فَإِنْ حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ نَكَلُوا رُدِّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَإِنْ حَلَفُوهَا بُرِّئُوا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ)) أَيْ يَبْرَءُونَ مِنْكُمْ بِذَلِكَ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ حَلَفُوا لَزِمَ أَهْلَ الْمَحِلَّةِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْقَتِيلُ أَنْ يُغَرَّمُوا الدِّيَةَ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ أَلْزَمَهُمُ الدِّيَةَ بَعْدَ أَنْ حَلَفُوا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَبْدَأَ بِالْأَيْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، وَلَا حَلِفَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: إِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعُونَ مِنَ الْحَلِفِ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَ كَذَلِكَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآية: 21، من سُورةِ الأَحْزَابِ.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ: إِنْ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَبْرَأُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَحْلِفَ بِانْفِرَادِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَلَا تُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ عَدَدِهِمْ. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ: تُقَسَّمُ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مُتَسَاوُونَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْيَمِينِ فَقِيلَ يُحْبَسُونَ حَتَّى يَحْلِفُوا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنْ طَالَ حَبْسُهُمْ وَلَمْ يَحْلِفُوا تُرِكُوا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَلْدُ مِائَةٍ وَحَبْسُ سَنَةٍ، وَلَا أَعْلَمُ لِهَذَا دَلِيلًا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهُمْ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ بِنُكُولِهِمْ عَنِ الْأَيْمَانِ، وَرَوَاهُ حَرْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنُّكُولِ فَثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ هَاهُنَا كَسَائِرِ الدَّعَاوَى، قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ الْعَدَدِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَحْلِفَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ ; فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَحْلِفَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْعَصَبَةِ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَقْتُولِ ابْنٌ وَاحِدٌ مَثَلًا اسْتَعَانَ بِرَجُلٍ آخَرَ مِنْ عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ وَلَوْ غَيْرَ وَارِثٍ يَحْلِفُ مَعَهُ أَيْمَانَهَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا هُوَ صِحَّةُ اسْتِعَانَةِ الْوَارِثِ بِالْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ: "يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ". الْحَدِيثَ. وَهُمَا ابْنَا عَمِّ الْمَقْتُولِ، وَلَا يَرِثَانِ فِيهِ لِوُجُودِ أَخِيهِ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ "يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ"، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ الْمَقْتُولِ عِشْرُونَ رَجُلًا وَارِثُونَ، لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ إِلَّا أَخُوهُ وَمَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبُ مِنْهُ نَسَبًا. وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ بِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمَجْمُوعِ مُرَادًا بِهِ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ الْوَارِثُونَ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، فَإِنْ كَانُوا خَمْسِينَ حَلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وُزِّعَتْ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ، فَإِنْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّ نَصِيبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ إِنْ كَانَ النَّاكِلُ مُعِينًا لَا وَارِثًا، فَإِنْ كَانَ وَارِثًا يَصِحُّ عَفْوُهُ عَنِ الدَّمِ، سَقَطَ الْقَوَدُ بِنُكُولِهِ، وَرُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا. هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ.
وَأَمَّا الْقَسَامَةُ فِي الْخَطَأِ عِنْدَ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَيَحْلِفُ أَيْمَانَهَا الْوَارِثُونَ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا وَاحِدٌ وَلَوِ امْرَأَةٌ حَلَفَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا كُلَّهَا وَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنَ الدِّيَةِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: لَا يَجِبُ الْحَقُّ حَتَّى يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ خَاصَّةً خَمْسِينَ يَمِينًا سَوَاءٌ قَلُّوا أَمْ كَثُرُوا، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ خَمْسِينَ حَلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ أَوْ نَكَلَ بَعْضُهُمْ رُدَّتِ الْأَيْمَانُ عَلَى الْبَاقِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا وَاحِدٌ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَاسْتَحَقَّ حَتَّى لَوْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ أَوْ بِالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْقَسَامَةَ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِهَا الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَعَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ:
الْأُولَى: أَنَّهُ يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنَ الْعَصَبَةِ خَمْسِينَ يَمِينًا، كُلُّ رَجُلٍ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً، فَإِنْ وُجِدَتِ الْخَمْسُونَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فَذَلِكَ، وَإِلَّا كُمِّلَتِ الْخَمْسُونَ مِنَ الْعَصَبَةِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ، الْأَقْرَبِ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبِ حَتَّى تَتِمَّ الْخَمْسُونَ، وَهَذَا قَوْلٌ لِمَالِكٍ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ سَهْلٍ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ.
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ إِلَّا الْوَرَثَةُ خَاصَّةً، وَتُوَزَّعُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا وَاحِدٌ حَلَفَ الْخَمْسِينَ وَاسْتَحَقَّ، إِلَّا أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِفْنَ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عِنْدَ أَحْمَدَ، فَالْمُرَادُ بِالْوَرَثَةِ عِنْدَهُ الذُّكُورُ خَاصَّةً. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عِنْدَهُ لَا يَحْلِفُهَا إِلَّا خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحِلَّةِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْقَتِيلُ، فَيُقْسِمُونَ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا.
تَنْبِيهٌ: قَدْ عَلِمْتَ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ يَحْلِفُ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ، فَإِذَا وُزِّعَتْ عَلَى عَدَدٍ أَقَلَّ مِنَ الْخَمْسِينَ وَوَقَعَ فِيهَا انْكِسَارٌ، فَإِنْ تَسَاوَوْا جُبِرَ الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَوْ خَلَّفَ الْمَقْتُولُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ، فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا، وَهُوَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثُلُثَانِ، فَيُتَمَّمُ الْكَسْرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ خِلَافُ الشَّرْعِ فِي زِيَادَةِ الْأَيْمَانِ عَلَى خَمْسِينَ يَمِينًا، لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ يَمِينًا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ نَقْصَ الْأَيْمَانِ عَنْ خَمْسِينَ لَا يَجُوزُ، وَتَحْمِيلُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ زِيَادَةً عَلَى الْآخَرِينَ لَا يَجُوزُ، فَعُلِمَ اسْتِوَاؤُهُمْ فِي جَبْرِ الْكَسْرِ، فَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ الْمُنْكَسِرَةُ لَمْ يَسْتَوِ فِي قَدْرِ كَسْرِهَا الْحَالِفُونَ، كَأَنْ كَانَ عَلَى أَحَدِهِمْ نِصْفُهَا، وَعَلَى آخَرَ ثُلُثُهَا، وَعَلَى آخَرَ سُدُسُهَا، حَلَفَهَا مَنْ عَلَيْهِ نِصْفُهَا تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ، وَلَا تُجْبَرُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ وَالسُّدُسِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: تُجْبَرُ عَلَى الْجَمِيعِ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُدَّعِينَ خَمْسِينَ يَمِينًا، سَوَاءٌ تَسَاوَوْا فِي الْمِيرَاثِ أَوِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ لَحَلَفَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا كُلَّهَا. قَالَ: وَمَا يَحْلِفُهُ مُنْفَرِدًا يَحْلِفُهُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ فِيمَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْقَسَامَةِ تُصَرِّحُ بِأَنَّ عَدَدَ أَيْمَانِهَا خَمْسُونَ فَقَطْ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ تَصِيرُ بِهِ مِئَاتٍ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ السَّادِسُ: لَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ الْقَوَدَ بِهَا إِلَّا وَاحِدٌ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِالْقَوَدِ بِهَا، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالزُّهْرِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ". الْحَدِيثَ. فَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَعْرِضِ بَيَانِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: يُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ كَالْبَيِّنَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو ثَوْرٍ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.
وَهَلْ تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي الْقَسَامَةِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ لَا؟ وَهَلْ تُسْمَعُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُسْمَعُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مُسْتَدِلًّا بِقِصَّةِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَقْتُولِ بِخَيْبَرَ، لِأَنَّ أَوْلِيَاءَهُ ادَّعَوْا عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ.
وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الدَّعْوَى فِيهَا لَا تُسْمَعُ إِلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ، قَالُوا: وَلَا دَلِيلَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ وَالْأَنْصَارِيِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِيهَا: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ" فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيَّنَ. وَقَالَ بَعْضُ مَنِ اشْتَرَطَ كَوْنَهَا عَلَى مُعَيَّنٍ: لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ يَشْتَرِطُ كَوْنَهَا عَلَى مُعَيَّنٍ: يَجُوزُ الْحَلِفُ عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا اخْتِلَافَهُمْ: هَلْ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا يُقْتَلُ إِلَّا وَاحِدٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللهُ. وَقَالَ أَشْهَبُ صَاحِبُ مَالِكٍ: لَهُمْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى جَمَاعَةٍ وَيَخْتَارُوا وَاحِدًا لِلْقَتْلِ، وَيُسْجَنُ الْبَاقُونَ عَامًا، وَيُضْرَبُونَ مِئَةً. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُحْلَفُ عَلَى الْبَتِّ، وَدَعْوَى الْقَتْلِ أَيْضًا عَلَى الْبَتِّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْلِفُ الْغَائِبُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَحْضُرْهُ، وَكَيْفَ يَأْذَنُ الشَّارِعُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْأَيْمَانِ عَلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ تَكْفِي فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غَلَبَةٌ قَوِيَّةٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ غَلَبَةٌ قَوِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْحَلِفِ.
الْفَرْعُ الثَّامِنُ: إِنْ مَاتَ مُسْتَحِقُّ الْأَيْمَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَلِّفَهَا انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ، وَيُجْبَرُ الْكَسْرُ فِيهَا عَلَيْهِمْ كَمَا يُجْبَرُ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ انْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ. وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْقَسَامَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَهَا كَثِيرَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ جِدًّا، وَقَدْ بَسَطَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا الْكَلَامَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.
غَرِيبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا أَيَّامَ النِّزَاعِ بَيْنَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ السَّلْطَنَةَ وَالْمُلْكَ سَيَكُونَانِ لِمُعَاوِيَةَ، لِأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ مَقْتُولٌ ظُلْمًا، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: "وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا" الْآيَةَ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ عَنْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ فِي ذَلِكَ بِسَنَدِهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
قولُهُ: {فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا} أَيْ: قَدْ جَعَلَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ تَصَرُّفًا فِي الْقَاتِلِ بِالْقَوَدِ أَوِ الدِّيَةِ. ووَلِيُّهُ: مَنْ يَلِي أَمْرَهُ مِنَ الوَارِثِ، أَوِ السُلْطَانِ، عِنْدَ عَدَمِ وُجودِ الوَارِثِ. وَالسُّلْطَانُ ـ كَ "الْغُفْرَانِ": مَصْدَرٌ مِنَ السُّلْطَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا اسْتَقَرَّ فِي عَوَائِدِهِمْ مِنْ حُكْمِ الْقَوَدِ، وَكَوْنِهُ حَقًّا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ يَأْخُذُ القاتِلَ بِهِ أَوْ يَعْفُو عنْهُ، أَوْ يَأْخُذُ الدِّيَةَ. التي شَجَّعَهُمُ اللهُ عَلَى أَخْذِها لِئَلَّا يَنْزُوا أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ عَلَى الْقَاتِلِ، أَوْ ذَوِيهِ لِيَقْتُلُوا مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَجْنِ يَدَاهُ قَتْلًا. وَهَكَذَا تَسْتَمِرُّ التِّرَاتُ بَيْنَ أَخْذٍ وَرَدٍّ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَاداتِهِمْ أَيْضًا. وَالْقَوَدُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ، لِأَنَّ الْقَوَدَ مِنَ الْقَاتِلِ الظَّالِمِ هُوَ قَتْلٌ لِلنَّفْسِ بِالْحَقِّ. وَهَذِهِ حَالَةٌ خَصَّهَا اللهُ بِالذِّكْرِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْعُدْوَانِ فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَمَرَ اللهُ تعالى الْمُسْلِمِينَ بِقَبُولِ الْقَوَدِ. وَهَذَا مَبْدَأُ صَلَاحٍ عَظِيمٍ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَهُوَ حَمْلُ أَهْلِ القتيلِ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، حَتَّى لَا يَكُونَ الْفَسَادُ مِنْ طَرَفَيْنِ فَيَتَفَاقَمُ أَمْرُهُ، كما قَالَ الشَّمَيْذَرُ الْحَارِثِيُّ:
فَلَسْنَا كَمَنْ كُنْتُمْ تُصِيبُونَ سَلَّةً ........... فَنَقْبَلُ ضَيْمًا أَوْ نُحَكِّمُ قَاضِيَا
وَلَكِنَّ حُكْمَ السَّيْفِ فِينَا مُسَلَّطٌ .... فَنَرْضَى إِذَا مَا أَصْبَحَ السَّيْفُ رَاضِيَاِ
قولُهُ: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} نَهَى اللهُ تعالَى عبادَهُ عَنِ مُقَابَلَةِ الظُّلْمَ بِالمِثلِ كَما كانتْ عَادَةُ العَرَبِ في جَاهِلِيَّتِهم، قَالَ الزِّيرُ الْمُهَلْهِلُ فِي الْأَخْذِ بِثَأْرِ أَخِيهِ كُلَيْبٍ بْنِ رَبيعَةَ:
كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّةٌ ...................... حَتَّى يَعُمُّ الْقَتْلُ آلَ مُرَّة
وَأَمَّا قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ فَقَدْ كَانُوا يَقْتُلونَ رَجُلًا آخَرَ مِنْ قَبِيلَةِ الْقَاتِلِ. وَكَانُوا أَيضًا يَتَكَايَلُونَ الدِّمَاءَ، أَيْ: يَجْعَلُونَ كِلَيْهِا مُتَفَاوِتًا بِحَسَبِ شَرَفِ الْقَتِيلِ، كَمَا قَالَتْ كَبْشَةُ بِنْتُ مَعْدِيَكْرِبَ الزبيْدِيِّ، تَحُثُّ أَخَاهَا عَمْرًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، على الثَأْرِ لأَخيهِمَا عَبْدِ اللهِ:
فَيُقْتَلُ جَبْرًا بامْرِئٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ ............. بَوَاءً، وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ
الْبَوَاءُ: الْكُفْءُ فِي الدَّمِ. تُرِيدُ فَيَقْتُلُ الْقَاتِلَ وَهُوَ الْمُسَمَّى جَبْرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا لِأَخِيهَا عَبْدِ اللهِ، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ أَبْطَلَ التَّكَايُلَ بِالدَّمِ، وحثَّ عَلَى اتِّباعِ سَبِيلَ الْإِنْصَافِ وَقَبولِ الْقَوَدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ". وَالسَّرَفُ: الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ، وهُوَ أَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ الْقَاتِلِ مِنْ أَقَارِبِهِ، أَوْ أَنْ يَزيدَ عَلَيْهِ المُثْلَةَ، أَوْ أَنْ يَقْتُلَ الاثْنَيْنِ أَوْ أكْثرَ مَكانَ الوَاحِدِ، وكلُّ ذلكَ كانَ يُفْعَلُ في الجاهِلِيَّةِ، وَالضَمِيرُ في "يُسْرِفْ" بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، يَعُودُ إِلَى الْوَلِيِّ مَظِنَّةِ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ بِحَسَبِ مَا تَعَوَّدُوهُ.
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} تَحْذيرٌ مِنَ السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ، وَتَذْكيرٌ لهُمْ مِنَ اللهِ بِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْوَلِيِّ سُلْطَانًا عَلَى الْقَاتِلِ. أَيْ: أَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ كَانَ مَنْصُورًا بِحُكْمِ الْقَوَدِ، فَلِماذَا يَتَجَاوَزُ الْحَدَّ مِنَ النَّصْرِ إِلَى الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ بِالسَّرَفِ فِي الْقَتْلِ؟. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ "إِنَّ" وَبِإِقْحَامِ "كَانَ" الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَقِرُّ الثُّبُوتِ. وَفِي هَذِهِ الجُمْلَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ تَجَاوَزَ حَدَّ الْعَدْلِ إِلَى السَّرَفِ فِي الْقَتْلِ لَا يُنْصَرُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي} الوَاوُ: حرفُ عطفٍ، وَ "لا" ناهيةٌ جازمةٌ، وَ "تَقْتُلُوا" فِعْلٌ مضارعٌ مجزومٌ بِـ "لا" النَاهِيَةِ، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والأَلِفُ الفارقةُ. و "النَّفْسَ" مَفعولٌ بهِ منصوبٌ، و "الَّتِي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "النَّفْسَ". والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا.
قولُهُ: {حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} حرَّمَ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، ولفظُ الجلالةِ "الله" مرفوعٌ بالفاعليَّةِ. والجملةُ صلةُ الموصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ. و "بِالْحَقِّ" الباءُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقْتُلُوا" أَيْ: إِلَّا بِسَبَبِ الحَقِّ، أَوْ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ فاعِلِ "تَقْتُلُوا" أَيْ: إِلَّا حالَةَ كَوْنِكِمْ مُلْتَبْسينَ بِالحَقِّ، أو بِحالٍ مِنْ مَفْعُولِهِ، أيْ: إِلَّا مُلْتَبِسَةً بالحقِّ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ نعتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: إِلَّا قَتْلًا مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ.
قولُهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} الوَاوُ: استِئنافيَّةٌ، و "مَنْ" شَرْطيَّةٌ جازِمَةٌ، مبنيَّةٌ على السكونِ في مَحِلِّ الرفع بالابْتِداءِ، والخَبَرُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوْ جَوابِهِ أَوْ هُمَا معًا. و "قُتِلَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شِرْطٍ لَهَا، ونَائِبُ فاعِلِهِ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "مَنْ". و "مَظْلُومًا" حَالٌ مِنْ نائبِ الفاعِلِ فِي "قُتِلَ".
قولُهُ: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ وُجُوبًا لاقْتِرانِهِ بِـ "قد". و "قدْ" حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و "جَعَلْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والجملةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِها جَوابًا لَهَا. و "لِوَلِيِّهِ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـ "جعلَ" في محل المفعول الثاني له. وَ "وَلِيِّ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "سُلْطانًا" مَفْعُولٌ بِهِ أَوِّلُ لَـ "جعل"، وجُمْلَةُ "مَنْ" الشَرْطِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَلَا يُسْرِفْ في الْقَتْلِ} الفاءُ: حرفُ عَطْفٍ، و "لا" ناهيَةٌ جازِمَةٌ. و "يُسْرِفْ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومُ بِـ "لا" الناهِيَةِ، وفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "وَلَيِّهِ". و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُسرِفْ"، و "الْقَتْلِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الجَوابِ.
قوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} إِنَّهُ" إنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على اضمِّ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "كانَ" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مبنٌّ على الفتحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الوَلِيِّ. و "مَنْصُورًا" خَبَرُ "كان" منصوبٌ بها، وجُمْلَةُ "كانَ" مِنِ اسْمِها وَخَبَرِها في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لـ "إنَّ"، وَجملةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَهَا لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {فَلاَ يُسْرِفْ} بالغَيْبة، وقرَأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ) وخلفٌ "فَلا تُسْرِفْ" بالخِطابِ، عَلَى إرادةِ الوليِّ، وكانَ الوليُّ يَقْتُل الجماعَةَ بالواحِدِ، أَوِ الوليُّ هو السُّلطانِ، رَجَعَ لِمُخَاطَبَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَتَى بِهِ غائبًا. وَقَرَأَ أَبُو مُسْلِمْ" فَلا يُسْرِفُ" بِرَفعِ الفَاءِ، عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ كَما في قولِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {فَلاَ رَفَثَ} الآيةَ: 197. وقيل: "في" هنا بِمَعْنَى الباءِ، أَيْ: بِسَبَبِ القَتْلِ.