وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا (55)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} جِيءَ بِصِيغَةِ التَفْضِيلِ: "أَعْلَمُ" عَلَى وَزْنِ (أَفْعَل) للمُبَالَغَةِ فِي العِلْمِ، أَيْ: فَإِنَّ رَبَّكَ ـ يَا مُحَمَّدُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَعْلَمُ بِمَرَاتِبِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فِي الطَّاعَةِ وَالمَعْصِيَّةِ، وإِنَّ عِلْمَهُ ـ تَعَالَى، غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْكُمْ، وَلَا عَلَى أَحْوَالِكُمْ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، وَجَميعِ ذَوَاتِ الأَرْضِينَ والسَمَوَاتِ، فَيَعْلَمُ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَما لا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، وَلِهَذَا فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، وَآتَى مُوسَى التَّوْرَاةَ، وَدَاوُدَ الزَّبُورَ، وَعِيسَى الْإِنْجِيلَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ جَمِيعًا، فَلَيسَ بالبَعيدِ أَنْ يُؤْتِيَ مُحَمَّدًا ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، الْقُرْآنَ، وَلَيْسَ بالبَعِيدِ ـ أَيْضًا، أَنْ يُفَضِّلَهُ عَلَى الْخَلْقِ أَجَمِعينَ.
قولُهُ: {وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ: 253، مِنْ سُورةِ البَقَرَة: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}، وَهُوَ تَفْضِيلُ اللهِ أَعْلَمُ بِأَسْبَابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ" قَالَ: اتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ مُوسَى تَكْليمًا، وَجَعَلَ عِيسَى كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ، وَهُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ مِنْ كَلِمَةِ اللهِ ورُوحِهِ، وَآتَى سُلَيْمَانَ مُلْكًا عَظِيمًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَآتَى دَاوُدَ زَبُورًا، وَغَفَرَ لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ" قَالَ: كَلَّمَ اللهُ مُوسَى، وَأَرْسَلَ مُحَمَّدًا ـ عليهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، إِلَى النَّاس كَافَّةً. وَهَذَا لاَ يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِيْنِ وغَيْرِهِما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ حَديثِ أَبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ((لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ))، صَحيحُ البُخارِيِّ، بِرَقَم: (3414)، وصَحيحُ مُسْلِمٌ، بِرَقَم: (2373). قالَ الإِمامُ النَوَوِيُّ في شَرْحِهِ لِصَحِيحِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ ـ رَحمَهُمَا اللهُ تَعَالَى مُعَقِّبًا عَلى هَذَا الحَديثِ: جَوَابُهُ مِنْ خَمْسَة أَوْجُهُ: أَحَدُها: أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ قَبْل أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، فَلَمَّا عَلِمَ أَخْبَرَ بِهِ. وَالثَّانِي: قَالَهُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيصِ الْمَفْضُول. وَالرَّابِعُ: إِنَّمَا هوَ نَهْيٌ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَة وَالْفِتْنَة، كَمَا هُوَ الْمَشْهُور فِي سَبَبِ الْحَدِيثِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ، فَلَا تَفَاضُلَ فِيهَا، وَإِنَّمَا التَّفَاضُل بِالْخَصَائِصِ، وَفَضَائِلَ أُخْرَى، وَلَا بُدَّ مِنْ اِعْتِقَادِ التَّفْضِيل، لِمَا تَقَدَّمَ في الآيَتَيْنِ الكَريمَتَيْنِ. فَالمَقْصُودُ هُنَا التَّفْضِيلُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِي وَالعَصَبِيَّةِ، لاَ بِمُقْتَضَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَكِنْ إِذَا قَامَ الدَلِيلُ عَلَى شِيءٍ مَّا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الرُّسُلَ أَفْضَلُ مِنْ بَاقِي الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وهُمْ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدُ هُمْ أَفضَلُ المُرْسَلِينَ، وأَنَّ سيدَنا مُحَمَّدًا هُوَ أَفضَلُهُمْ أَجَمَعِينَ ـ تَحِيَّاتُ رَبِّي وصَلَواتُهُ وبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الدِّينِ.
قولُهُ: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا} وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ أَتَى نبيَّهُ دَاوُدَ ـ عَليْهِ السَّلامُ، زَبُورًا، وَ بِهِ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَمْ يُفَضِّلَهُ بِالمُلْكِ. والزَّبُورُ: هُوَ كِتَابٌ فِيهِ تَحْمِيدُ الْخَالِقِ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، وَتَمْجِيدُهُ، وفيهِ أَيْضًا مَوَاعِظُ للمُؤْمِنينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا" قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَّمَهُ دَاوُدَ، وتَحْميدٌ أَوْ تَمْجيدٌ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَيْسَ فِيهِ حَلَالٌ، وَلَا حَرَامٌ، وَلَا فَرَائِضُ، وَلَا حُدُودٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الزَّبُورُ ثَنَاءٌ عَلَى اللهِ، وَدُعَاءٌ وتَسْبيحٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِرْدُوَيْهِ، قَالَ: فِي زَبُورُ آلِ دَاوُدَ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ: طُوبَى لِرَجُلٍ لَا يَسْلُكُ سَبِيلَ الْخَطَّائِينَ. وطُوبَى لِمَنْ لَمْ يَأْتَمِرْ بِأَمْرِ الظَّالِمِينَ. وطُوبَى لِمَنْ لَمْ يُجَالِسْ البَطَّالِينْ. وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ أيضًا فِي الزُّهْدِ عَنْ وَهْبِ ابْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: فِي أَوَّلِ شَيْءٍ مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: طُوبَى لِرَجُلٍ لَا يَسْلُكُ طَرِيقَ الْخَطَّائِينَ، وَلَمْ يُجَالِسِ البَطَّالِينَ، ويَسْتَقِيمُ عَلى عِبَادَةِ رَبِّهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ نَابِتَةٍ عَلَى سَاقِيَةٍ، لَا يَزَال فِيهَا المَاءُ، يَفْضُلُ ثَمَرُهَا فِي زَمَانِ الثِّمَارِ، وَلَا تَزَالُ خَضْراءَ فِي غَيْرِ زَمَانِ الثِّمَارِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أيضًا عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ زَبُورِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَسَاقَطَتِ الْقُرَى، وأَبْطَلَ ذِكْرُهم، وَأَنَا دَائِمَ الدَّهْرِ مَقْعَدُ كُرْسِيٍّ للْقَضَاءِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ وَهْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتابِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: بِعِزَّتِي وَجَلَالِي، إِنَّهُ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَني بالمُحَارَبَةِ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أُرِيدُ، تَرَدُّدِي عَنْ مَوْتِ الْمُؤْمِنِ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أَسُوءَهُ. قَالَ: وَقَرَأْتُ فِي كِتَابٍ آخَرَ: إنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَقُولُ: كَفَانِي لِعَبْدِي مَالًا، إِذَا كَانَ عَبْدِي فِي طَاعَتِي، أَعْطَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَنِي، واسْتَجَبْتُ لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُوَنِي، فَإِنِّي أَعْلَمُ بِحاجَتِهِ الَّتِي تَرْفُقُ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ. قَالَ: وَقَرَأْتُ فِي كِتَابٍ آخَرَ: إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُ: بِعِزَّتي إِنَّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِي وَإِنْ كادَتْهُ السَّمَوَاتُ بِمَنْ فِيهِنَّ والأَرْضُونَ بِمَنَ فِيهِنَّ، فَإِنِّي أَجْعَلُ لَهُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مَخْرَجًا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِي فَإِنِّي أَقْطَعُ يَدَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ السَّمَاءِ، وَأَخْسِفُ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الأَرْضَ، فَأَجْعَلَهُ فِي الْهَوَاءِ ثُمَّ أَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ. وَأَخْرَجَ مُعَمَّرُ بْنُ أَبي عَمْرٍو الأَزْدِيُّ في جامِعِهِ، وأَحْمَدُ فِي مُسنَدِهِ، وابْنُ أَبي شَيْبةَ في مُصَنَّفِهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ: عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُشْتَغَلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يَصْدُقُونَهُ عُيُوبَهُ، وينْصَحُونَهُ فِي نَفْسِهِ، وَسَاعَةٍ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لذَّتِهَا مِمَّا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ لِهَذِهِ السَّاعَاتِ، واسْتِجْمَامٌ لِلْقُلُوبِ، وَفَضْلٌ وَبُلْغَةٌ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاعِنًا إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: تَزوُّدٍ لِمَعَادٍ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بزَمَانِهِ، مُمْسِكًا لِلِسَانِهِ، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ". جامِعُ مُعَمَّرِ بْنِ راشِدٍ: (11/22). وَأَخْرَجَ هنادُ بْنِ السَّرِيِّ، وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ الرَّبَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وَجَدْتُ فَاتِحَةَ الزَّبُورِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: زَبُورُ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ رَأْسَ الْحِكْمَةِ خَشْيَةُ اللهِ تَعَالَى. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَيُّوبٍ الفَلَسْطِينِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَكْتُوب فِي مَزَامِيرِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَتَدْرِي لِمَنْ أَغْفِرُ؟ قَالَ: لِمَنْ يَا رَبُّ؟ قَالَ: لِلَّذي إِذا أَذْنَبَ ذَنْبًا ارْتَعَدَتْ لِذَلِكَ مَفَاصِلُهُ فَذَلِكَ الَّذِي آمُرُ مَلائِكَتِي أَنْ لَا يَكْتُبُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الذَّنْبِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ: بَطَلَتِ الْأَمَانَةُ وَالرَّجُلُ مَعَ صَاحِبِهِ بِشَفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ يُهْلِكُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ شَفَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ". قَالَ: وَمَكْتُوبٌ فِي الزَّبُورِ بِنَارِ الْمُنَافِقِ، تَحْتَرِقُ الْمَدِينَةُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ في ذَمِّ ذِي الوَجْهَيْنِ وَاللِّسَانَيْنِ: (ص: 110)، وأَخْرَجَهُ أَيْضًا الخَرَائِطِيُّ فِي مَسَاوِئِ الأَخْلاقِ. وَأَخْرَجَ إِسْحاق الخَتْلِيُّ في الديباجِ: (ص: 29)، وأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ في مُسْنَدِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي الزَّبُورِ مَكْتُوبًا ـ وَهِيَ فِي الزَّبُورِ الأَوَّلِ: طُوبَى لِمَنْ لَمْ يَسْلُكْ سَبِيلَ الأَئِمَّةِ، وَلَمْ يُجَالِسِ الْخَطَّائِينَ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي زَهْوِ الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَلَكِنْ هَمُّهُ ذَنْبُهُ، أَوْثَقَتْهُ وَإِيَّاهَا، يَتَعَلَّمُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ نَبَتَتْ فِي شَاطِئِ المَاءِ، تُؤْتِي ثَمَرَهَا فِي حِينِهَا، وَلا يَتَنَاثَرُ مِنْ وَرَقِهَا شَيْءٌ؛ وَكُلُّ عَمَلِهِ تَامٌّ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلَ عَمَلِ المُنَافِقِ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِر الْأُصُولِ، والأصْبهانيُّ في حِلْيَةِ الأَوْلِياءِ وَطَبَقَاتِ الأَصْفِيَاءِ: (4/46). عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ عَمِّي وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ: حَدِّثْنِي رَحِمَكَ اللهُ عَنْ زَبُورِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ: "نَعَمْ، وَجَدْتُ فِي آخِرِهِ ثَلَاثِينَ سَطْرًا: يَا دَاوُدُ، اسْمَعْ مِنِّي، الْحَقَّ أَقُولُ، مَنْ لَقِيَنِي وَهُوَ يُحِبُّنِي أَدْخَلْتُهُ جَنَّتِي، يَا دَاوُدُ اسْمَعْ مِنِّي وَالْحَقَّ أَقُولُ، مَنْ لَقِيَنِي وَهُوَ يَخَافُ عَذَابِي لَمْ أُعَذِّبْهُ، يَا دَاوُدُ، اسْمَعْ مِنِّي وَالْحَقَّ أَقُولُ، مَنْ لَقِيَنِي وَهُوَ مُسْتَحْيِ مِنْ مَعَاصِيهِ أَنْسَيْتُ الْحَفَظَةَ ذُنُوبَهُ، يَا دَاوُدُ، اسْمَعْ مِنِّي وَالْحَقَّ أَقُولُ، لَوْ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي عَمِلَ حَشْوَ الدُّنْيَا ذَنُوبًا مَغَارِبَهَا وَمَشَارِقَهَا ثُمَّ نَدِمَ حَلْبَ شَاةٍ وَاسْتَغْفَرَنِي مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعَلِمْتُ مِنْ قَلْبِهِ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهَا، أَلْقَيْتُهَا عَنْهُ أَسْرَعَ مِنْ هُبُوطِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، يَا دَاوُدُ، اسْمَعْ مِنِّي وَالْحَقَّ أَقُولُ، لَوْ أَنَّ عَبْدًا أَتَانِي بِحَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ حَكَّمْتُهُ فِي جَنَّتِي. قَالَ دَاوُدُ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِمَنْ عَرَفَكَ أَنْ يَقْطَعَ رَجَاءَهُ مِنْكَ. قَالَ: يَا دَاوُدُ، إِنَّمَا يَكْفِي أَوْلِيَائِي الْيَسِيرُ مِنَ الْعَمَلِ، كَمَا يَكْفِي الطَّعَامَ الْقَلِيلُ مِنَ الْمِلْحِ، يَا دَاوُدُ، هَلْ تَدْرِي مَتَى أَتَوَلَّاهُمْ؟ إِذَا طَهَّرُوا قُلُوبَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَنَزَعُوا مِنْ قُلُوبِهِمُ الشَّكَّ، وَعَلِمُوا أَنَّ لِيَ جَنَّةً وَنَارًا، وَأَنِّي أُحْيِي وَأُمِيتُ، وَأَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنِّي لَمْ أَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، فَإِنْ تَوَفَّيْتُهُمْ بِيَسِيرٍ مِنَ الْعَمَلِ وَهُمْ يُوقِنُونَ بِذَلِكَ، جَعَلْتُهُ عَظِيمًا عِنْدَهُمْ، هَلْ تَدْرِي يَا دَاوُدُ مَنْ أَسْرَعُ مَرًّا عَلَى الصِّرَاطِ؟ الَّذِينَ يَرْضَوْنَ بِحُكْمِي، وَأَلْسِنَتَهُمْ رَطْبَةٌ مِنْ ذِكْرِي، هَلْ تَدْرِي يَا دَاوُدُ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً عِنْدِي؟ الَّذِي هُوَ بِمَا أَعْطَى أَشَدُّ فَرَحًا بِمَا حَبَسَ، هَلْ تَدْرِي يَا دَاوُدُ أَيُّ الْفُقَرَاءِ أَفْضَلُ؟ الَّذِينَ يَرْضَوْنَ بِحُكْمِي وَبِقِسْمَتِي، وَيَحْمَدُونَنِي عَلَى مَا أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَعَاشِ، هَلْ تَدْرِي يَا دَاوُدُ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُطِيلَ حَيَاتَهُ؟ الَّذِي إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، اقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، فَإِنِّي أَكْرَهُ لَهُ الْمَوْتَ كَمَا يَكْرَهُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ، وَلَابُدَّ مِنْهُ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسُرَّهُ فِي دَارٍ سِوَى هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنَّ نَعِيمَهَا فِيهَا بَلَاءٌ، وَرَخَاءَهَا فِيهَا شِدَّةٌ، فِيهَا عَدُوٌّ لَا يَأْلُوهُمْ بِهَا خَبَالًا، يَجْرِي مِنْهُمْ مَجْرَى الدَّمِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَجَّلْتُ أَوْلِيَائِي إِلَى الْجَنَّةِ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا مَاتَ آدَمُ وَلَا أَوْلَادُهُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُنْفَخَ فِي الصُّورِ، إِنِّي أَدْرِي مَا تَقُولُ فِي نَفْسِكَ يَا دَاوُدُ، تَقُولُ قَطَعْتَ عَنْهُمْ عِبَادَتَكَ، أَمَا تَعْلَمُ يَا دَاوُدُ أَنِّي أُعِينُ الْمُؤْمِنَ عَلَى عَثْرَةٍ يَعْثَرُهَا، فَكَيْفَ إِذَا ذَاقَ الْمَوْتَ وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ، وَتَرَى جَسَدَهُ الطَّيِّبَ بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، إِنَّمَا أَحْبِسُهُ طُولَ مَا أَحْبِسُهُ لَأُعْظِمَ لَهُ الْأَجْرَ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْسَنَ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ دَاوُدُ: لَكَ الْحَمْدُ إِلَهِي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَمَّيْتَ نَفْسَكَ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. إِلَهِي، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يُعَزِّي الْحَزِينَ عَلَى الْمَصَائِبِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أُلْبِسَهُ رِدَاءَ الْإِيمَانِ، ثُمَّ لَا أَنْزِعُهُ عَنْهُ أَبَدًا. قَالَ: إِلَهِي، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يُشَيِّعُ الْجَنَائِزَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ تُشَيِّعَهُ مَلَائِكَتِي يَوْمَ يَمُوتُ، وَأُصَلِّيَ عَلَى رُوحِهِ فِي الْأَرْوَاحِ. قَالَ: إِلَهِي، فَمَا جَزَاءُ مُسَاعِدِ الْأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أُظِلَّهُ فِي ظِلِّ عَرْشِي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي. قَالَ: إِلَهِي، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَبْكِي مِنْ خَشْيَتِكَ حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُ عَلَى وَجْنَتَيْهِ؟ قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أُحَرِّمَ وَجْهَهُ عَلَى النَّارِ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ: (7/63) عَنْ، مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، قَالَ: "كَانَ فِي زَبُورِ دَاوُدَ مَكْتُوبًا: إِنِّي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا مَلِكُ الْمُلُوكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ بِيَدِي، فَأَيُّمَا قَوْمٍ كَانُوا عَلَى طَاعَةٍ جَعَلْتُ الْمُلُوكَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً، وَأَيُّمَا قَوْمٍ كَانُوا عَلَى مَعْصِيَةٍ جَعَلْتُ الْمُلُوكَ عَلَيْهِمْ نِقْمَةً، لَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبَبِ الْمُلُوكِ، وَلَا تَتُوبُوا إِلَيْهِمْ، تُوبُوا إِلَيَّ أَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكُمْ".
وَقَدْ خُصَّ دَاوُدُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ لمَّا ذَكَرَ ـ تَعَالَى، أَنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ: "وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا" فالمَعْنَى أَنَّهُ بِالرَّغمِ مِنْ أَنَّ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَانَ مَلِكًا عَظِيمًا، فَإِنَّ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ مَا آتَاهُ مِنَ الْمُلْكِ، وَذَكَرَ مَا آتَاهُ مِنَ الْكِتَابِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّفْضِيلِ المَذْكورِ قَبْلَ ذَلِكَ، هُوَ التَّفْضِيلُ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا بِالْمَالِ والمُلْكِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ فِيهِ أَنَّ مُحَمَّدًا ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَنَّ أُمَّتَهُ خَيْرُ الْأُمَمِ فقَالَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاء: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} الآيةَ: 105، وَهْمُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتُهُ.
ثُمَّ إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مَا كَانُوا أَهْلَ نَظَرٍ وَجَدَلٍ بَلْ كَانُوا يَرْجِعُونَ إِلَى الْيَهُودِ فِي اسْتِخْرَاجِ الشُّبُهَاتِ، وَكانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُوسَى وَلَا كِتَابَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ فَنَقَضَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ كَلَامَهُمْ بِإِنْزَالِ الزَّبُورِ عَلَى دَاوُدَ.
وَفِي تَنْكيرِ كلمةِ "زَبُورًا" هُنَا دَليلٌ عَلَى تَعْظِيمِ حَالِهِ، لِأَنَّ الزَّبُورَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَزْبُورِ، أَيْ المَكْتُوبِ، فَكَانَ مَعْنَاهُ الْكِتَابَ، فَكَانَ مَعْنَى التَّنْكِيرِ أَنَّهُ كَامِلٌ فِي كَوْنِهِ كِتَابًا. والزَّبْرُ: الكلامُ. والزَّبْرُ ـ أَيْضًا: الكِتابُةُ. يُقَالُ: زَبَرَ الكِتَابَ يَزبُرُهُ ويَزْبِرُهُ زَبْرًا: إِذا كَتَبَه. وزَبَرْتُ الكِتَابَ: أَتْقَنْتُ كِتِابَتَهُ. قالَ أعرابيٌّ: لا أَعرِف تَزْبِرَتي، أَيْ: كِتابَتِي وخَطِّي. والزَّبْرُ: الانْتِهارُ، فيُقَالُ: زَبَره عَنِ الأَمْرِ زَبْرًا: إذا انْتَهَرَهُ. وفي الحَدِيثِ الشريفِ: ((إِذَا رَدَدْتَ عَلَى السّائلِ ثَلاثًا فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَزْبُرَهُ)). أَيْ: تَنْتَهِرَهُ وتُغِلِظَ لَهُ فِي القَوْلِ والرَّدِّ. والزَّبْر: الزَّجْر والمَنْعُ والنَّهْىُ. يقالُ: زَبَرَهُ عَنِ الأمْرِ زَبْرًا، إذا نَهَاهُ ومَنَعَهُ، وهوَ مَجَازٌ لأَنَّ مَنْ زَبَرْتَهُ عَنِ الغَيِّ فَقَدْ أَحْكَمْتَهُ كَزَبْرِ البِئْرِ بِالطَّيِّ، ويَزْبُرُ بالضَّمّ ويَزْبِرُ بالكَسْرِ. والزِّبْرُ بِكَسْرِ الزايِ: المَكْتوبُ جمعُهُ: زُبُورٌ، بالضَّمِّ، كقِدْرٍ وقُدُورٍ. ومِنْهُ قَرَأَ حَمْزَةُ: "وآتَيْنَا دَاوُودَ زُبُورًا". وورَدَ في الأَثَرِ عَنْ أَبي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ دَعَا في مَرَضِهِ بِدَوَاةٍ وَمِزْبَرٍ فَكَتَبَ اسْمَ الخَلِيفَةِ بَعْدَهُ" والمِزْبَرُ كَ "مِنْبَرٍ" القَلَمُ لأَنَّهُ يُكْتَبُ بِهِ. والزَّبُورُ بِالفَتْحِ: الكِتَابُ بِمَعْنَى المَزْبُورِ، ويُجْمَعُ على "زُبُرٍ" بضَمَّتَيْن، كَ "رَسُول" و "رُسُل" قالَ لَبِيدُ بْنُ ربيعةَ:
وجَلا السُّيُولُ عَنِ الطُّلُولِ كَأَنَّها ............... زُبُرٌ تَخُدُّ مُتُونَهَا أَقَلامُها
وكُلُّ كِتَاب زَبُورٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى المتقدِّمِ مِنْ سُورَةِ البقرةِ: {ولَقَد كَتَبْنَا في الزَّبُورِ مِنْ بَعِد الذِّكْرِ}، قالَ أَبو هُرَيْرَةَ، الزَّبُورُ: مَا أُنْزِلَ عَلَى دَاوُوَدَ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ: مِنْ بَعْدِ التَّوْراةِ. وَسُمِّيَ كِتَابُ دَاودَ زَبُورًا لِأَنَّهُ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَسْطُورًا. والزَّبُورُ: الكِتَابُ المَسْطُورُ. وقِيلَ: الزَّبُورُ "فَعُولٌ" بمَعْنَى "مَفْعُول" كأَنَّهُ زُبِرَ، أَيِ كُتِبَ. والزُّبْرَةُ: القِطْعَةُ الضَّخْمَةُ مِنَ الحَدِيدِ والجَمْعُ "زُبَرٌ" كَ "صُرَد" و "زُبُرٌ" بِضَمَّتَيْن. قالَ تَعَالَى منْ سورةِ الكَهْفِ على لسانِ ذي القرنينِ: {آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ} الآيةَ: 96، أَي: آتُوني القِطَعَ الكَبيرةَ مِنْهُ. وقالَ مِنْ سُورَةِ المُؤمنون: {فتَقَطَّعُوا أمْرَهُم بَيْنَهُم زُبُرًا}، الآية: 53، أَيْ: قِطَعًا.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "رَبُّكَ" مرفوعٌ بالابتداءِ، مضافٌ، وكافُ الخِطَابِ ضميرٌ متَّصِلٌ في مَحَلِّ الجَرِّ بِالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَ "أَعْلَمُ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} مِنَ الآيَةِ السَّابقةِ، عَلى كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "بِمَنْ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعْلَمُ" وهو الأَظْهَرُ كما تَعَلَّقَتْ الباءُ بِـ "أَعْلَمُ" من الجُملةِ قَبْلَهَا، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ عِلْمِهِ بِمَنْ في السَمَاواتِ وَالأَرْضِ فَقَطْ. وقالَ أَبو عليٍّ الفارِسِيُّ: يَجوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِـ "يَعْلَمُ" مُقَدَّرًا مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ عِلْمِهِ بِمَنْ في السَّمَاواتِ والأَرْضِ، وَهُوَ وَهْمٌ، لأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الشَّيْءِ نَفْيُ الحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ. وَهَذا هوَ الذي يَقولُهُ الأُصُولِيُّونَ: إِنَّهُ مَفْهُومُ اللقَبِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ الدَّقَاقُ فِي طائِفَةٍ قليلَةٍ، و "مَنْ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِلَةٍ "مَنْ"، و "السَّماواتِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "الْأَرْضِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "السَّماواتِ" مجرورٌ مِثْلَهَا.
قولُهُ: {وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ} وَلَقَدْ: الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَاللامُ: هِيَ المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، و "قد" للتَحْقِيقِ. و "فَضَّلْنا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، و "نا" التَّعْظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. و "بَعْضَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، مُضافٌ. و "النَّبِيِّينَ" مَجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ. والجُمْلَةُ جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحْذوفٍ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ أَيْضًا. وَ "عَلى" جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَضَّلْنا"، و "بَعْضٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا} الوَاوُ: للعطْفِ، وَ "آتَيْنا" مثلُ "فَضَّلْنا" معطوفٌ علَيْهِ. و "داوُدَ" مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصُوبٌ، و "زَبُورًا" مفعولُهُ الثاني منصوبٌ أَيْضًا، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "فَضَّلْنا" عَلَى كَوْنِها جَوابًا لِقَسَمٍ مَحْذوفٍ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قرأَ الجمهورُ: {زَبورًا} بفتْحِ الزايِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: "زُبُورًا" بِضَمِّها، وقدْ تقدَّمَ تَوْجيهُ ذَلِكَ في مَبْحَثِ التَفْسِيرِ.