وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ فِي قولِهِ مِنَ الْآيَةَ: 26. السَّابِقَةِ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} قالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيْ عَنْ هَؤُلاءِ الذينَ أَوْصَيْنَاكَ بِهِمْ. تَفْسيرُ الطبريِّ: (15/75). وقالَ الزَجَّاجُ: هَذِهِ الهاءُ والميمُ تَرْجِعانِ عَلَى القُرْبَى والمَسَاكِينِ وابْنِ السَّبيلِ. مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ، لأبي إسحاقٍ الزَجَّاج: (3/235). وَالمَعْنَى: إِنْ تُعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ فَلَمْ تُعْطِهُمْ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَكَ، وَإِعْرَاضُكَ الْمَذْكُورُ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا. فَتُعْطِيهِمْ مِنْهُ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا. فَشَرَطَ الحقُّ ـ سُبْحانهُ شَرْطَيْنِ للْإِعْرَاضِ: أوَّلُهُما: أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضًا لِابْتِغَاءِ رِزْقٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، أَيْ إِعْرَاضًا لِعَدَمِ الْجِدَةِ، ولَيسَ إعْرَاضًا لِبُخْلٍ عَنْهُمْ. وثانيهُما: أَنْ يَكُونَ مَصحوبًا بِلِينِ القَوْلِ فِي الِاعْتِذَارِ. وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ أَنَّهُ اعْتِذَارٌ صَادِقٌ وَلَيْسَ تَعَلُّلًا كَمَا جاءَ في قَوْلِ بَشَّار بْنِ بُرْدٍ:
وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ ................. زُرُقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودٌ
فقَوْلَهُ: "ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ" مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ "تُعْرِضَنَّ" لَا بِجَزَاءِ الشَّرْطِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تفسيرِهِ (الْكَشَّافِ) تَعَلُّقَهُ بِالْجَزَاءِ وَتَقْدِيمَهُ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أَيْ: يَسِّرْ عَلَيْهِمْ وَتَلَطَّفْ بِهِمْ، ابْتِغَاءً مِنْكَ رَحْمَةَ اللهِ بِذَلِكَ، وَقدْ رَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشيخُ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (الْبَحْرِ الْمُحِيطِ) بِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبِلَهُ. قَالَ: لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِكَ: (إِنْ يَقُمْ فَاضْرِبْ خَالِدًا)، أَنْ تَقُولَ: (إِنْ يَقُمْ خَالِدًا فَاضْرِبْ)، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: "وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ" رَاجِعٌ لِلْكُفَّارِ، أَيْ: إِنْ تُعْرِضْ عَنِ الْكُفَّارِ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أَيْ نَصْرٍ لَكَ عَلَيْهِمْ، أَوْ هِدَايَةٍ مِنَ اللهِ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْقَوْلُ الْمَيْسُورُ هُنَا: هُوَ الْمُدَارَاةُ بِاللِّسَانِ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ عَظِيمٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فإِذا لَمْ يَسْتَطِعِ الْإِعْطَاءَ الْجَمِيلَ، فَلْيَتَجَمَّلْ فِي عَدَمِ الْإِعْطَاءِ، لِأَنَّ الرَّدَّ الْجَمِيلَ خَيْرٌ مِنَ الْإِعْطَاءِ الْقَبِيحِ.
وَالْإِعْرَاضُ: ضِدُّ الْإِقْبَالِ، وأَصْلهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ ـ بِضَمِّ الْعَيْنِ، أَيِ الْجَانِبِ، فَإنَّ مَعْنَى (أَعَرَضَ): أَعْطَى جَانِبَهُ، قالَ تَعَالَى فِي الآية: 83، مِنْ هذهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ}، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي عَدَمِ الْإِيتَاءِ، أَوْ كِنَايَةٌ عَنْهُ، لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ يُلَازِمُهُ الْإِعْرَاضُ. وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هُنَا، صَرَّحَ بِهِ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، فِي الْآيَةَ: 263، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فقَالَ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}، وَعَلَيْهِ قَولَ الشَّاعِرِ بِشَامَةَ بْنِ عقيرٍ المُرِّيِّ، يُخَاطِبُ امْرَأَةً ويُقَرِّرُها عَلى مَا أَنْكَرَتْ عَلَيْهِ فِي البَذْلِ والسَّخاءِ:
أَلَاَ تَرَيْنَ وَقَدْ قَطَّعْتِني عَذَلًا .......... مَاذا مِنَ الفَوْتِ بَيْنَ البُخْلِ والجُودِ
إِلَّا تَكَنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجْوَدُ بِهَا .................. لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ
لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي ...... إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِي
لا يُعْدَمُ السائلونَ الخَيْرَ أَفْعَلُهُ ............. إِمَّا نَوالًا وإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِ
وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُعْرِضُ عَنِ الْإِعْطَاءِ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ مَا يُعْطَى مِنْهُ، وَأَنَّ الرِّزْقَ الْمُنْتَظَرَ إِذَا يَسَّرَهُ اللهُ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْهُ، وَلَا يُعْرِضُ عَنْهُمْ. وَهَذَا هُوَ غَايَةُ الْجُودِ وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ.
قولُهُ: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} أَيْ: ابتغاءَ رِزْقٍ حَلَالٍ، يَرْزُقُكَهُ اللهُ تَعَالى ويُفيءُ عَلَيْكَ بِهِ، كَغَنَائمِ الحُروبِ المُسْتولى عَلَيْها في المَعَارِكِ (الفَيْء)، وَغَيْرِ ذلك. وقالَ الحَسَنُ البصريُّ، وعِكْرِمَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَيْ: انْتِظارَ رِزْقٍ مِنَ اللهِ يَأْتيكَ. أَخرجَهُ الطبريُّ بنَصِّهَ في تَفْسيرِهِ: (8/70).
قولُهُ: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} مَيْسُورًا: أَيْ: سهلًّا، لَيِّنًا، لَطِيفًا، طَيِّبًا، كَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْغِنَى وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وأَحْسِنِ لهمُ الْقَوْلَ، وَابْسُطِ الْعُذْرَ لَهُمْ، وَادْعُ لَهُمْ بِسَعَةِ الرِّزْقِ، وَقُلْ إِذَا وَجَدْتُ فَعَلْتُ وَأَكْرَمْتُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي مَسَرَّةِ نَفْسِهِ عَمَلَ الْمُوَاسَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهٌ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "فَقل لَهُم قولا ميسورًا": قالَ: وَقُلْ لَهُمُ الْخَيْرَ. وذَكَرَ الكَلْبِيُّ وغَيْرُهُ: أَنَّ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كانَ إِذا سَأَلَهُ فُقَراءُ أَصْحابِهِ فَلَا يَجِدُ مَا يُعطِيهِم، أَعْرَضَ عَنْهم حيَاءً مِنْهم، ويَسْكُتُ، فَعَلَّمَهُ اللهُ كَيْفَ يَصْنَعُ، فَقَالَ: "فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا". وقالَ الزَجَّاجُ: يُرْوَى أَنَّ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانَ إِذَا سُئِلَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُعْطِي أَمْسَكَ انْتِظارَ الرِّزْقِ يَأْتي مِنَ اللهَ؛ كَأَّنَّهُ يَكْرَهُ الرَّدَّ، فلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: كانَ إِذَا سُئِلَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعطي، قالَ: ((يَرْزُقُنَا اللهُ وإِيَّاكُمْ مِنْ فَضْلِهِ))، فَذَلِكَ قوْلُهُ: "فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا". ورَدَ في تَفْسِيرِ الثَعْلَبِيِّ: (7/107 ب) بِنَصِّهِ، وفي تَفْسيرِ القُرْطُبِيِّ: (10/249)، وتفسيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ: (9/62)، وَأَوْرَدَهُ أَيضًا الهَيْثَمِيُّ فِي (المَجْمَع): (9/13). وأَخْرَجَهُ بِنَحْوِهِ الطَبَرانِيُّ فيِ مُعْجَمِهِ الأَوْسَطِ: (6/197)، عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنينَ سيِّدِنا عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكَرَّمَ وَجْهَهُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَوْلًا جَمِيلًا، كَرَزَقَكَ اللهُ، وبَارَكَ اللهُ فِيكَ. أَخْرَجَهُ الطَبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ: (15/75 ـ 76). وَأَخْرَجَهُ أَيضًا ابْنُ أبي حاتمٍ في تفسيرِهِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: عِدْهُمْ عِدَةً حَسَنَةً، وهوَ أَيْضًا قَوْلُ الفَرَّاءِ ومُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ.
وَ "مَيْسُورًا" "مَفْعُولًا" بِمَعْنَى "فَاعِل"، مِن (الْيُسْرِ) وَهُوَ السُّهُولَةُ، كَ (مَيْمُون) مِنَ اليُمْنِ. وَفِعْلُهُ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ. يُقَالُ: يُسِرَ الْأَمْرُ ـ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ، كَمَا يُقَالُ: (سُعِدَ) و (نُحِسَ)، وَيَكُونُ الفِعْلُ "يَسَرَ" لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَقولُهُ هُنَا: "مَيْسُورًا"، هوَ مِنَ الْمُتَعَدِّي، تَقُولُ: يَسَّرْتُ لَكَ كَذَا إِذَا أَعْدَدْتَهُ وهيَّأْتَهُ لَهُ وذَلَّلْتَهُ، وسهَّلْتَهُ.
وجاءَ في سبَبِ نُزولِ هذِهِ الآيةِ الكريمةِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَنَّها نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَأْبَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُمْ نَفَقَةَ الْمَالِ فِي فَسَادٍ، فَكَانَ يَعْرِضُ عَنْهُمْ رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ فِي مَنْعِهِمْ، لِئَلَّا يُعِينَهُمْ عَلَى فَسَادِهِمْ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها" قَالَ: لَيْسَ هَذَا فِي ذِكْرِ الْوَالِدَيْنِ، جَاءَ نَاسٌ مِنْ مُزَيْنَةَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْتَحْمِلُونَهُ، فَقَالَ: ((لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ))، فَتَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها".
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} الواوُ: استئنافيَّةٌ، و "إِمَّا" هي "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٍ، و "ما" زَائدَةٌ. وَ "تُعْرِضَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوْكِيدِ الثَّقيلَةِ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والنونُ الثقيلةُ للتوكيدِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى المُكَلَّفِ. و "عَنْهُمُ" عَنْ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ.
قولُهُ: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} ابْتِغاءَ: مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ مَنْصُوبٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ أَوْ جَوابِهِ، وهوَ مِنْ وَضْعِ المُسَبَّب مَوْضِعَ السببِ، وذلكَ أَنَّ الأَصْلَ: وإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ لإِعْسَارِكَ. وجَعَلَهُ الزَمَخْشَرِيُّ مَنْصُوبًا بِجَوابِ الشَّرْطِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ في مَبْحَثِ التَفْسِيرِ، أَيْ: فَقُلْ لَّهُمْ قولًا سَهْلًا ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ. وقد رَدَّ أَبو حَيَّانَ الأندلُسيُّ عَلَيْهِ: بِأَنَّ مَا بَعْدَ الفاءِ لَا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَهَا نَحْوَ: "إِنْ يَقُمْ زَيْدٌ عَمْرًا فَاضْرِبْ"، فإِنْ حَذَفْتَ الفاءَ جازَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ والكِسَائيِّ نَحْوَ: إِنْ يَقُمْ زيدٌ عَمْرًا يَضْرِبْ. فإِنْ كانَ الاسْمُ مَرْفُوعًا نحوَ "إِنْ تَقُمْ زَيْدٌ يَقُمْ" جَازَ ذَلِكَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ الظاهرُ بعدَهُ، أَيْ: إِنْ تَقُمْ يَقُمْ زَيْدٌ يَقُمْ. ومَنَعَ ذَلِكَ الفَرَّاءُ وشَيْخُهُ. قالَ السَّمِينُ: وَفِي الرَدِّ نَظَرٌ؛ لأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا اليَتيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} الآية: 9، منْ سُورَةِ الضُحَى. لأَنَّ "اليتيمَ" وما بعدَهُ مَنْصوبانِ بِمَا بَعْدَ فَاءِ الجَوَابِ. ويجوزُ: أَنَّهُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنْ فاعِلِ "تُعْرِضَنَّ"، وهوَ مُضافٌ. وَ "رَحْمَةٍ" مَجْرُورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِصِفَةٍ أُولَى لِـ "رَحْمَةٍ"، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مُتَعَلِّقًا بِـ "تَرْجُوها"، أَيْ: تَرْجُوها مِنْ جِهَةِ رَبِّكَ، عَلَى سبيلِ المَجازِ. وَ "تَرْجُوها" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخرِهِ لثقلِها على الواوِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلى المُخاطَبِ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصِبِ على المَفْعُولِيَّةِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً ثانيَةً لِـ "رَحْمَةٍ"، أَوْ في محلِّ النَّصِبِ عَلى الحَالِ مِنْ "رَحْمَةٍ" لِتَخَصُّصَهُ بالصِّفَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ حالًا مِنْ فاعِلِ "تُعْرِضَنَّ".
قولُهُ: {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} الفاءُ: رابِطَةٌ لِجَوابِ الشَّرْطِ، وُجُوبًا، و "قُلْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" عَلَى كَوْنِهِ جَوابًا لَهَا، وفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى المُخَاطَبِ. و "لَهُمْ" اللامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. و "قَوْلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ. و "مَيْسُورًا" صِفَةٌ لِـ "قَوْلًا" منصوبٌ مثلهُ.