كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {كُلُّ ذَلِكَ} الإِشارَةُ بِـ "ذَلِكَ" إِلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الإِرْشادٍ الإِلَهِيٍّ السَّامِي مِنْ قَوْلِهِ فِي الآيَةِ: 23، مِنْ هذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إِلَى قَوْلِهِ في الآيَةِ: 37، مِنْهَا: {وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}، بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْذِيرَاتِ وَالنَّوَاهِي. فَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا أَمْرٌّ هِيَ مُقْتَضِيَةٌ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا نَهْيٌ، هِيَ مُقْتَضِيَةٌ شَيْئًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَإِنَّ اسْمَ الإِشارةِ "ذَلِكَ" يَصْلُحُ أَنْ يُشارَ بِهِ إِلى المُفْرَدِ والجَمْعِ، والمُؤَنَّثِ والمُذَكَّرِ.
قولُهُ: {كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} أَيْ: "كَانَ سَيّئُهُ" الذي نُهِيَ عَنْهُ، وَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ خَصْلَةً، و "مَكْرُوهًا" أَيْ: مُبْغَضًا غَيْرَ مَرْضِيٍّ عَنْهُ، أَوْ غَيْرَ مُرادٍ بِالإرادَةِ الأَوَّلِيَّةِ المُطْلَقَةِ، لَا غَيْرَ مُرَادٍ مُطْلَقًا، ذَلِكَ لِقِيامِ الأَدِلَّةِ القَطْعِيَّةِ عَلى أَنَّ جَميعَ الأَشْيَاءِ وَاقِعَةٌ بِإِرَادَتِهِ ـ سُبْحانَهُ، وَهُوَ تَتَمَّةٌ لِتَعْليلِ الأُمورِ المَنْهِيِّ عَنْهَا جَميعًا، وَوَصْفُ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ الكَرَاهَةِ مَعَ أَنَّ البَعْضَ مِنَ الكَبَائرِ للإيذانِ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الكَرَاهَةِ عِنْدَهُ تَعَالَى كَافِيَةٌ فِي وُجُوبِ الانْتِهَاءِ عَنِ ذَلِكَ، وتَوْجِيهُ الإِشَارَةِ إِلَى الكُلِّ، ثُمَّ تَعْيِينُ البَعْضِ دَونَ تَوْجِيهِها إِلَيْهِ ابْتِداءً، لِمَا أَنَّ البَعْضَ المَذْكُورَ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ جُمْلَةً، بَلْ عَلَى وَجْهِ الاخْتِلاطِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِكَوْنِ مَا عَدَاهُ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ تَعَالَى، وإِنَّما لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ إِيذانًا بالغِنَى عَنْهُ، وقِيلَ الإضافَةُ هنا بَيَانِيَّةٌ كَمَا هي في: آيَةِ اللَّيْلِ، وآيَةِ النَّهَارِ مِنْ قولِهِ تَعَالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الآية: 12، السابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} كُلُّ: مرفوعٌ بالابْتِداءِ، وهوَ مُضافٌ. و "ذلِكَ" ذا: اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطَابِ. و "كانَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ. وَ "سَيِّئُهُ" اسْمُ "كانَ" مَرْفوعٌ بِها، وَهُوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ. و "عِنْدَ" منصوبٌ على الظرفيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، مُضافٌ، وَ "رَبِّكَ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ ومُضَافٌ أَيْضًا، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "مَكْرُوهًا" مَنْصوبٌ عَلى أَنَّهُ خَبَرٌ ثانٍ لِـ "كَانَ"، وتَعْدادُ خَبَرِها جائزٌ عَلَى الصَّحِيحِ. أَوْ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ "سَيِّئُهُ". وهذا الوَجْهُ ضَعيفٌ لأنَّ البَدَلَ بِالمُشْتَقِ قَليلٌ. ويجوزُ أَنَّهُ منصوبٌ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ فِي "عِنْدَ رَبِّكَ" لِوُقوعِهِ صِفَةً لِـ "سَيِّئُهُ". أوْ أَنَّهُ نَعْتٌ لِـ "سَيِّئُهُ"، وذُكِّرَ لِأَنَّ تَأْنيثَ مَوْصُوفِهِ مَجازِيٌّ. وَقَدْ رُدَّ هَذَا الوَجْهُ: بِأَنَّهُ يجوزُ ذَلِكَ حيثُ أُسْنِدَ إِلَى المُؤَنَّثِ المَجَازِيِّ، أَمَّا إِذَا أُسْنِدَ إِلى ضَمِيرِهِ فَلَا، نَحْوُ قولِكَ: الشَّمْسُ طالِعَةٌ، فلا يَجوزُ: طالعٌ، إِلَّا في ضَرُورَةٍ كَقَوْلِ الأعْشى:
فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ......................... وَلاَ أَرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
وهَذَا عِنْدَ غَيْرِ ابْنِ كَيْسانَ، وَأَمَّا ابْنُ كَيْسَانَ فَيُجيزُ فِي الكَلامِ: "الشَمْسُ طَلَعَ، وطالعٌ". والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلِها، لا محلَّ لها منِ الإعرابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {سَيِّئَةً} بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بَعْدَ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَبَهَاءِ تَأْنِيثٍ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ ضِدُّ الْحَسَنَةِ. فتَحْتَمِلُ أَنْ تَقَعَ الإِشارةُ فيها بـ "ذلك" إِلى مَصْدَرَيِ النَّهْيَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ قَريبًا وهُما: "قَفْوُ ما ليس به عِلْمٌ، والمَشْيُ في الأرض مَرَحًا. والثاني: أَنَّهُ أُشيرَ بِهِ إِلى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ المَنَاهِي. وَ "سَيِّئَةً" خَبَرُ كَانَ، وَأُنِّثَ حَمْلًا عَلى مَعْنَى "كُلُّ"، ثُمَّ قَالَ "مَكْروهًا" حَمْلًا عَلَى لَفْظِها. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: (السَيِّئَةُ في حُكْمِ الأَسْماءِ بِمَنْزِلَةِ الذَّنْبِ والإِثمِ، زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الصِفاتِ، فَلا اعْتِبارَ بِتَأْنِيثِهِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَرَأَ "سَيِّئَةً" ومَنْ قرأَ "سَيِّئًا" أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: الزِّنَى سَيِّئَةٌ، كَمَا تَقولُ: السَرِقَةُ سَيِّئَةٌ، فَلا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِسْنَادِها إِلى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ).
وقَرَأَ ابْنُ عامِرٍ وَالكُوفِيُّونَ بِضَمِّ الهَمْزَةِ والهاءِ، والتَذْكِيرِ، وتَرْكِ التَنْوينِ. فأُشِيرَ فِيها بِـ "ذلك" إِلى جميعِ ما تقدَّم، ومنْهُ السَّيِّئُ وَالحَسَنُ، فأَضَافَ السَّيِّئَ إِلى ضَميرِ مَا تَقَدَّمَ، ويُؤيِّدُ هذهِ القراءةَ قراءةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "كلُّ ذَلِكَ كانَ سَيِّآتُهُ" بِالجَمْعِ مُضافًا للضَمِيرِ، وقِراءَةُ اُبَيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "خَبيثُهُ" والمَعْنَى: كُلُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ممَّا أُمِرْتُمْ به ونُهِيْتُمْ عنْهُ كان سَيِّئُهُ ـ وهوَ ما نُهِيْتُمْ عَنْهُ خاصَّةً، أَمْرًا مَكْرُوهًا. هَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَدَّرُ فِي هَذَا المَكانِ. و "مَكروهًا" خَبَرُ "كان"، وحُمِلَ الكلامُ كلُّهُ عَلَى لَفْظِ "كُلُّ" فَلِذَلِكَ ذَكَّرَ الضَمِيرَ فِي "سَيِّئُهُ"، والخبرُ وَهُوَ: مَكْرُوه. وأَمَّا مَا اسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهم مِنْ أَنَّهُ يَصيرُ المَعْنَى: كُلُّ مَا ذُكِرَ كانَ سَيِّئةً، ومِنْ جُمْلةِ كُلِّ مَا ذُكِرَ: المَأْمُورُ بِهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكونَ فِيهِ سَيِّءٌ، فَهُوَ اسْتِشْكالٌ وَاهٍ؛ لِمَا ذَكَرْتُ مِنْ تَقْديرِ مَعْناهُ.
وأَمَّا قِراءَةُ عبدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: فَهِيَ مِمَّا أُخْبِرَ فِيها عَنِ الجَمْعِ إِخبَارَ الواحِدِ لِسَدِّ الواحِدِ مَسَدَّهُ كَقَوْلِ الأَعْشَى:
فإمَّا تَرَيْني ولِيْ لِمَّةٌ .......................... فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بها
ولَوْ قَالَ: فإِنَّ الحَدَثانَ لَصَحَّ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى، فَعَدَلَ عَنْهُ لِيَصِحَّ الوَزْنُ الشِعْرِيِّ.
وَقَرَأَ أَيْضًا عَبْدُ اللهِ بْنِ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "كانَ سَيِّئاتٍ" بالجَمْعِ مِنْ غَيْرِ إِضافةٍ، وهوَ خَبَرُ "كان"، وهيَ تُؤَيِّدُ قِراءَةَ الحَرَمِيِّيْنِ وأَبي عَمْرٍو