كُلُّ بَنِي حُرَّةَ مَصِيرُهُمْ ...................... قُلْ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنَ الْعَدَدِ
إِنْ يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمَرُوا ............... يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْهَلَكِ وَالنَّكَدِ
وَفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ الْذي رُوِيَ في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَديثٍ طويلٍ، قَوْلُ أَبي سُفيانَ بْنِ حَرْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، متحدِّثًا عَنْ هِرَقْل: (فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، ارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللهُ عَلَيَّ الْإِسْلَام). أَيْ كَثُرَ وعَظُمَ، وَكُلُّهَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمَرْنَا بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، لُغَةٌ فَصِيحَةٌ كَآمَرْنَا بِالْمَدِّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "خَيْرُ مَالِ امْرِئٍ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ" وقدْ تقدَّمَ تَخْريجُ الحَديثِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ، فِي كِتَابِهِ (الْغَرِيبِ): الْمَأْمُورَةُ: كَثِيرَةُ النَّسْلِ. وَالسِّكَّةُ: الطَّرِيقَةُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ النَّخْلِ. وَالْمَأْبُورَةُ: مِنَ التَّأْبِيرِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الذَّكَرِ عَلَى النَّخْلَةِ لِئَلَّا يُسْقَطَ ثَمَرَهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِتْيَانَ الْمَأْمُورَةِ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُجَرَّدًا عَنِ الزَّوَائِدِ، مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ، فَيَتَّضِحُ كَوْنُ أَمْرِهِ بِمَعْنَى أَكْثَرَ، وَأَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ تَعَدِّي أَمْرِ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى الْإِكْثَارِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَالُوا: حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبِيلِ الِازْدِوَاجِ، كَقَوْلِهِمْ: الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا، وَكَحَدِيثِ: ((ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ)) رَوَاهُ ابْنً مَاجَهْ: (1578)، عَنْ أَميرِ المؤمنينَ عَلِيِّ بْنِ طالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْغَدَايَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا سَاغَ لِلِازْدِوَاجِ مَعَ الْعَشَايَا، وَكَذَلِكَ "مَأْزُورَاتٌ" بِالْهَمْزِ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمَادَّةَ مِنَ "الْوِزْرِ" بِالْوَاوِ، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَ فِي قَوْلِهِ: "مَأْزُورَاتٍ" لِلِازْدِوَاجِ مَعَ "مَأْجُورَاتٍ"، وَالِازْدِوَاجُ يَجُوزُ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: "مَأْمُورَةٌ" إِتْبَاعٌ لِقَوْلِهِ: "مَأْبُورَةٌ" وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا قَبْلَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ. وَتَعْلِيقُ "الْأَمْرِ" بِالْمُتْرَفِينَ خاصَّةً مَعَ أَنَّ الرُّسُلَ يُخَاطِبُونَ جَمِيعَ النَّاسِ، لِأَنَّ عِصْيَانَهُمُ الْأَمْرَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِمْ هُوَ سَبَبُ فِسْقِهِمْ وَفِسْقِ بَقِيَّةِ قَومِهمْ، إِذْ هُمْ قَادَةُ الْعَامَّةِ وَزُعَمَاؤهم، فَالْخِطَابُ ـ فِي الْأَكْثَرِ، يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا فَسَقُوا عَنِ الْأَمْرِ اتَّبَعَهُمُ الدَّهْمَاءُ فَعَمَّ الْفِسْقُ أَوْ غَلَبَ عَلَى الْقَرْيَةِ فَاسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ. وقدْ خَصُّوا بِالذِكْرِ، مَعَ أَنَّ أَمْرَهُ لا يَكونُ مَقْصُورًا عَلَيهِمْ، إنَّما يَعُمَّ جميعَ خَلْقِهِ مِنْ مُتْرَفٍ وَغَيْرِهِ، لأَنَّهُمْ هُمُ الرُّؤَساءُ وَمَنْ عَدَاهُمْ تَبَعٌ لَّهُمْ، فلَمَّا أُرسِلَ سيِّدُنا مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إِلَى فِرْعَوْنَ لِيَأْمُرَهُ بِطَاعَةِ اللهِ، كَانَ القُبْطُ وغيرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ تَبَعًا لَهُ فإِذا اتَّبعَ موسى اتَّبَعوهُ، وإذا حاربَهُ حاربوهُ مَعَهُ، وهذا ما كانَ مِنْهُمْ. هَذَا إِذَا قُلْنَا: إِنْ قَوْلَهُ: "أَمَرْنَا" مِنَ الأَمْرِ الذي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ.
الثالثُ: أَنَّ الأَمَرَ هُنَا مِنَ الإمارةِ، فَقَدْ قَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ: "أَمَّرْنَا" بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَمِيرِ المُؤمنينَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَيْ سَلَّطْنَا شَرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ "أَمَّرْنَا" بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ: جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ مُسَلَّطِينَ. وَقَالَهُ ابْنُ عَزِيزٍ: وَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ. وقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ "أَمَرَ" فَهِيَ لُغَةٌ، وَوَجْهُ تَعْدِيَةِ أَمْرٍ أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِـ (عَمَرَ) مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْكَثْرَةُ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْعِمَارَةِ، فَعَدَّى كَمَا عَدَّى عَمَرَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقِيلَ أَمَرْنَاهُمْ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَمِيرٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ، أَيْ غَيْرُ مُؤَمِّرٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: بَعَثْنَا مُسْتَكْبَرِيهَا. قَالَ هَارُونُ: وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: "بَعَثْنَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا"، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي الْعَالِيَةِ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، كَانَ يقْرَأُ "أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا" مُثَقَّلَةً، يَقُولُ: أَمَّرْنَا عَلَيْهِم أُمَرَاءَ. وَقَالَ هَارُونُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً بَعَثْنَا فِيهَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَمَكَرُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَإِذا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" قَالَ: سَلَّطْنَا شِرَارهَا، فعَصَوْا فِيهَا، فَإِذا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيهَا} الآيَةَ: 123.
الْقَوْلُ الرابعُ: فِي الْآيَةِ: هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا، أَيْ قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَسَخَّرْنَاهُمْ لَهُ، لِأَنَّ كَلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ حَذْفُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَقَدَّرَ هوَ مُتَعَلِّقَ الأَمْرِ: الفِسْق، أَيْ: أَمَرْناهم بِالفِسْقِ، قالَ: أَيْ: أَمَرْناهم بالفِسْقِ، فَعَمِلُوا بِهِ، وَالأَمْرُ مَجَازٌ؛ لأَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ بِالفِسْقِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: افْسُقوا، وَهَذَا لَا يَكونُ، فَبَقِي أَنْ يَكونَ مَجَازًا. ووَجهُ المَجازِ: أَنَّهُ صَبَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا، فَجَعُلُوهَا ذَريعَةً إِلَى المَعَاصِي وَاتِّباعِ الشَهَوَاتِ، فَكَأَنَّهمْ مَأْمُورونَ بِذَلِكَ لِتَسَبُّبِ إِيلاءِ النِّعْمَةِ فِيهِ، وَإِنَّما خَوَّلَهُمْ فِيها لِيَشْكُرُوا. ثُمَّ قَالَ: فإِنْ قُلْتَ: فَهَلَّا زَعَمْتَ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَمَرْنَاهُمْ بالطاعَةِ فَفَسَقُوا. قُلْتُ: لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دَليلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ، فكيفَ حَذْفُ مَا الدَّلِيلُ قائمٌ عَلَى نَقِيضِهِ؟ وذَلِكَ أَنَّ المَأْمُورَ بِهِ إِنَّما حُذِفَ لأَنَّ "فَفَسَقُوا" يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَلامٌ مُسْتَفِيضٌ، يُقَالُ: (أَمَرْتُه فَقامَ)، و (أَمَرْتُه فَقَرَأَ)، لا يُفْهُمُ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ المَأْمُورَ بِهِ قِيَامٌ أَوْ قِراءَةٌ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تُقَدِّرُ غَيْرَهُ رُمْتَ مِنْ مُخَاطَبِكَ عِلْمَ الغَيْبِ، وَلَا يَلْزَمُ ـ عَلَى هَذَا، قَولُهم: (أَمَرْتُهُ فَعَصَاني) أَوْ (فَلَمْ يَمْتَثِلْ) لأَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلأَمْرِ مُنَاقِضٌ لَهُ، وَلَا يَكونُ مَا يُنَاقِضُ الأَمْرَ مَأْمُورًا بِهِ، فَكَانَ مُحَالًا أَنْ يُقْصَدَ أَصْلًا حَتَّى يُجْعَلَ دَالًّا عَلَى المَأْمُورِ بِهِ، فَكَانَ المَأْمُورُ بِهِ في هَذَا الكلامِ غَيْرَ مَنْوِيٍّ وَلَا مُرَادٍ؛ لأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا الكَلامِ لا يَنْوي لآمِرِهِ مَأْمُورًا بِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كانَّ مِنِّي أَمْرٌ فَكَانَ مِنْهُ طَاعَةٌ، كَمَا أَنَّ مَنْ يَقولُ: (فلان يَأْمُرُ وَيَنْهَى ويُعْطِي ويَمْنَعُ) لا يَقْصِدُ مَفْعُولًا. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا كانَ ثُبُوتُ العِلْمِ بِأَنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بالفَحْشَاءِ دَليلًا عَلىَ أَنَّ المُرادَ: أَمَرْناهم بالخَيْرِ، قُلْتُ: لأَنَّ قَوْلَهُ "فَفَسَقوا" يُدافِعُهُ، فَكَأَنَّك أَظْهَرْتَ شَيْئًا وَأَنْتَ تُضْمِرُ خِلافَهُ، وَنَظِيرُ "أَمَرَ" "شاءَ"، فِي أَنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفَاضَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ لِدَلالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ. تَقُولُ: لَوْ شَاءَ لَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَلَوْ شَاءَ لأَسَاءَ إِلَيْكَ، تُريدُ: لَوْ شَاءَ الإِحْسَانَ، وَلَوْ شَاءَ الإِساءَةَ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خِلافَ مَا أَظْهَرْتَ، وَقُلْتَ: قَدْ دَلَّتْ حَالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إِلَيْهِ المَشِيئَةُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الإِحْسَانِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الإِساءَةِ فَاتْرُكِ الظَّاهِرَ المَنْطُوقَ، وَأَضْمِرْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَالُ المُسْنَدِ إِلَيْهِ المَشِيئَةُ، لَمْ تَكُنْ عَلَى سَدَادٍ.
وقد تَتَبَّعَهُ الشَيْخُ أبو حيَّان الأَندلُسيُّ في هَذَا فَقَالَ: أَمَّا مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ المَجَازِ فَبَعِيدٌ جَدًّا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائزٍ). فَتَعْلِيلٌ لا يَصِحُّ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، بَلْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ. وقولُهُ: (فَكَيْفَ يُحْذَفُ مَا الدَّلِيلُ عَلَى نَقِيضِهِ قَائِمٌ .. إِلى (عِلْمِ الغَيْبِ). فنَقولُ: حَذْفُ الشَّيْءِ تَارَةً يكُونُ لِدَلَالَةِ مُوَافِقِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا مَثَّلَ بِهِ فِي قوْلِه: "أَمَرْتُه فَقامَ"، وتَارَةً يَكونُ لِدَلَالَةِ خِلافِهِ، أَوْ ضِدِّهُ، أَوْ نَقيضَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَنْعامِ: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ والنَّهَارِ} الآيةَ: 13، أَيْ: مَا سَكَنَ وَتَحَرَّكَ، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ النَّحْل: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} الآيةَ: 81، أَيْ: وَالبَرْدَ، ومنْهُ قَوْلُ المُثقَّفِ العَبْدِيِّ:
ومَا أَدْرِيْ إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ..................... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهما يَلِينْي
أي: وأَجْتَنِبُ الشَرَّ، وتَقُولُ: (أَمَرْتُهُ فَلَمْ يُحْسِنْ) فَلَيْسَ المَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِعَدَمِ الإِحْسَانِ، بَلِ المَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِالإِحْسَانِ فَلَمْ يُحْسِنْ، والآيَةُ مِنْ هَذَا القَبيلِ، يُسْتَدَلُّ عَلَى حَذْفِ النَّقيضِ بِنَقِيضِهِ كَمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى حَذْفِ النظيرِ بِنَظيرِهِ، وَكَذَلِكَ (أَمَرْتُهُ فَأَسَاءَ إِلَيَّ) لَيْسَ المَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِالإِساءَةِ، بَلْ أَمَرْتُهُ بِالإِحْسَانِ. وَقَوْلُهُ: (ولا يَلْزَمُ هَذَا قَوْلَهُمْ: (أَمَرْتُهُ فَعَصَاني). نَقولُ: بَلْ يَلْزَمُ. وقوْلُهُ: (لأَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ)، أَيْ: لأَنَّ العِصْيانَ مُنَافٍ. وَهُوَ كلامٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: (فَكانَ المَأْمُورُ بِهِ غَيْرَ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ وَلَا مَنْويٌّ) لا يُسَلَّمُ، بَلْ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ وَمَنْوِيٌّ لَا دَلَالَةُ المُوافِقِ بَلْ دَلَالَةُ المُنَاقِضِ، كَمَا بَيَّنَّا. وَقَوْلُهُ: (لا يَنْوِي مَأْمُورًا بِهِ) لَا يُسَلَّمُ. وَقَوْلُهُ: (لأَنَّ فَفَسَقُوا يُدَافِعُهُ .. إِلى آخِرِهِ)، قُلْنَا: نَعَم نَوَى شَيْئًا ويُظْهِرُ خِلافَهُ، لأَنَّ نَقِيضَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وقولُهُ: (ونَظِيرُ "أَمَرَ" "شَاءَ" لَيْسَ نَظِيرَهُ؛ لِأَنَّ مَفْعُولَ "أَمَرَ" كَثُرَ التَصْريحُ بِهِ. قالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بالفَحْشَاءِ} الآية: 28، مِنْ سُورَةِ الأعراف. وقالَ: {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} الآية: 40، مِنْ سورةِ يوسُف، وقَالَ مِنْ سُورَةِ النَّحلِ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي} الآية: 90، وقال مِنْ سُورةِ الأَعْرافِ: {أَمَرَ رَبِّي بالقِسْطِ} الآية: 29، وقال مِنْ سُورَةِ الطُورِ: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهذا} الآية: 32، وَقَالَ الشَّاعِرُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الزُبَيْدِيِّ:
أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ بهِ ........ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ
قالَ السمينُ الحلَبيُّ: والشَّيْخُ رَدَّ عَلَيْهِ رَدَّ مُسْتَريحٍ مِنَ النَظَرِ، وَلَوْلَا خَوْفُ السَآمَةِ عَلَى النَّاظِرِ لَكَانَ للنَظَرِ في كَلَامِهِمَا مَجَالٌ.
وَقَدْ تَقدَّمَ التَّحْقِيقَ في أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا أَمْرَنَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. فَتَصْرِيحُهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، بِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا"، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا، لِأَنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ: أَنَّ مَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا، أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا، وَأَنَّ هَذَا مَجَازٌ تَنْزِيلًا لِإِسْبَاغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمُ الْمُوجِبِ لِبَطَرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ، كَلَامٌ كُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ، وَقَدْ أَوْضَحَ إِبْطَالَهُ أَبُو حَيَّان الأندَلُسيُّ فِي "الْبَحْرِ" كما تقدَّمَ، وَالرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَشُكُّ مُنْصِفٌ عَارِفٌ فِي بُطْلَانِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْمَأْلُوفِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي، أَيْ أَمَرْتُهُ بِالطَّاعَةِ فَعَصَى. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَمَرْتُهُ بِالْعِصْيَانِ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَثَمَّةَ قَوْلٌ خَامِسٌ أَخْرَجَهُ الطَسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنِ قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" قَالَ: سَلَّطْنَا عَلَيْهِمُ الْجَبَابِرَةَ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟. قَالَ: نَعَم. أَمَا سَمِعْتَ لَبِيدَ بْنَ رَبيعَةَ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنْ يُغْبَطُوا يَيْسَرُوا وَإِنْ أَمِرُوا ............... يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْهُلْكِ وَالْفَقْدِ
وَ "مُتْرَفِيها" جَمْعُ "مُتْرَفٍ" وَهو مِنَ التَرَفِ وأَصْلُهُ مِنَ التُّرْفَةِ. (بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ) وَهِيَ النِّعْمَةَ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَتْرَفَهُ إِذَا أَعْطَاهُ التُّرْفَةَ، وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ أَهْلُ النِّعْمَةِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، وَهُمْ مُعْظَمُ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ. أَمَّا مُؤْمِنوا مَكَّةَ فَقَدْ كَانَ مُعْظَمُهم يَوْمَئِذٍ ضُعَفَاءَ. فَقَالَ اللهُ تَعَالَى مهدِّدًا أُولَئِكَ المُترفينَ: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} الآيةَ: 11، مِنْ سُورَةِ المُزَّمِّلِ. وَ "فَسَقوا" أَيْ: خَرَجُوا عَنِ الطَريقِ السَوِيِّ، وَهُوَ طاعَةُ المَخْلُوقِ لِخَالِقِهِ وَالعَبْدِ لِمَوْلاهُ، فإِنَّهمْ بِكُفْرِهِمْ قَدْ تَمَرَّدُوا عَلَيْهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، فَـ "الْفِسْقُ" هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْمَقَرِّ، وَعَنِ الطَّرِيقِ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ الكريمِ الْخُرُوجُ عَمَّا أَمَّرَ اللهُ بِهِ. وَالْفِسْقُ فِي الكُفْرِ أَفْحَشُ الفِسْقِ.
قولُهُ: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} الْقَوْلُ هُوَ مَا يُبَلِّغُهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ مِنْ كَلَامٍ بِوِساطَةِ الرُّسُلِ الكِرَامِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَهُوَ الْوَعِيدُ الذي توَعَّدَهُمْ بهِ، كَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الصَافَّاتِ: {فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ} الآيةَ: 31. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ" يُريدُ اسْتَوْجَبَتِ العَذَابَ، يَعْنِي قَوْلَهُ مِنَ الآيَةِ: 15، قَبْلَهَا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. وَقولَهُ مِنْ سُورَةِ القَصَص: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ} الآيَةَ: 59، ونَظيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ هود: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} الآيَةَ: 117، والآياتُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا المَعْنَى، وَقَدْ حَكَمَ بِأَنَّهُ لا يُهْلِكُ قَرْيَةً حَتَّى يُخَالِفُوا أَمْرَهُ فِي الطَّاعَةِ، فَإِذَا خَالَفُوا الأَمْرَ حَقَّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ بِالعَذَابِ. فَـ "حَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ"، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْوَعِيدُ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْراف: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الْآيَةَ: 28.
قولُهُ: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، أَيْ أَهْلَكْنَاهَا إِهْلَاكًا مُسْتَأْصِلًا شَأْفَتَهم، وَأَكَّدَ فِعْلَ التَّدْمِيرِ بِمَصْدَرِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ الْهَلَاكِ الْوَاقِعِ بِهِمْ، وللدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ التَّدْمِيرِ لَا نَفْيُ احْتِمَال الْمَجَاز. وَالتَّدْمِيرُ: هَدْمُ الْبِنَاءِ وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلِاسْتِئْصَالِ إِذِ الْمَقْصُودُ إِهْلَاكُ أَهْلِهَا وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ بِنَائِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورةِ يوسُف ـ عليهِ السَّلامُ: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} الآية: 82. وَتَقَدَّمَ التَّدْمِيرُ فِي سُورَة الْأَعْرَاف عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} الآية: 137. والآيةُ هَذِهِ تَأْكِيدٌ لِمَا جاءَ في الآيَةِ التي قبلَها؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ وبَيَّنَ أَنَّ العِقَابَ إِنَّما يَحِقُّ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ مُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ اللهِ تعالى. وفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ أَسْنَدَ الْفِسْقَ فِيهَا لِخُصُوصِ الْمُتْرَفِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا" مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ عُمُومَ الْهَلَاكِ لِجَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ وَغَيْرِهِمْ، فِي قَوْلِهِ: "فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" يَعْنِي الْقَرْيَةَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنَ التدميرِ غَيْرَ الْمُتْرَفِينَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ غَيْرَ الْمُتْرَفِينَ تَبَعٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا خَصَّ بِالذِّكْرِ الْمُتْرَفِينَ الَّذِينَ هُمْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ، لِأَنَّ غَيْرَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى منْ سورةِ البقرة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} الْآيَةَ: 166، وكقولِهِ مِنْ سُورةِ الأعراف: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا} الْآيَةَ: 38، وَقَوْلِهِ تَعَالَى من سُورةِ إِبراهيمَ ـ عليهِ السَّلامُ: {وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} الْآيَةَ: 21، وقَولِهِ مِنْ سُورَةِ الأَحْزَاب: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ} الآيةِ: 67، وَقَوْلِهِ منْ سُورةِ غافر: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} الآية: 47، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ المُبارَكاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ إِنْ عَصَى اللهَ وَبَغَى وَطَغَى وَلَمْ يَنْهَهُمُ الْآخَرُونَ فَإِنَّ الْهَلَاكَ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى منْ سُورَةِ الأَنْفَال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} الآيةَ: 25، وَكما جاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ السيِّدةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرِبْ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذِهِ)) وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: ((نَعَم، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ في الفِتَنِ: (13/106)، وَمُسْلِم فِي الفِتَنِ: (4/2207، برقم (2880)، والبغويُّ في (شَرْح السُنَّةِ): (14/397)، وغيرُهم.
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، وَ "إِذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، مُتَعَلِّقٌ بِجَوابِهِ خافضٌ لِشَرْطِهِ. وَ "أَرَدْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكِ هو "نا" المعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحَانَهُ، و "نا" التَعْظِيمِ ضميرٌ مُتصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فَاعِلُهُ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الخَفْضِ بِإِضَافَةِ "إِذا" إِلَيْهَا عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. و "أَنْ" حرفٌ نَاصِبٌ مَصدريٌّ. و "نُهْلِكَ" فعلٌ مُضَارِعٌ منصوبٌ بـ "أَنْ" وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى. وَ "قَرْيَةً" مَفْعُولٌ بِهِ منْصوبٌ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، لِـ "أَرَدْنا" والتقديرُ: وإِذَا أَرَدْنَا إِهْلاكَ قَرْيَةٍ مِنَ القُرَى.
قولُهُ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أَمَرْنا: مِثْلُ "أَرَدْنا" وقد تَقَدَّمَ إِعْرابُهُ. و "مُتْرَفِيها" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، وعَلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لَأنَّهُ جَمْعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، وهو مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ جَوَابُ "إِذا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وجُمْلَةُ "إِذا" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيانِ الأَسْبَابِ التي تُهْلَكُ بِهَا القُرَى.
قولُهُ: {فَفَسَقُوا فِيهَا} فَفَسَقُوا" الفاءُ: للعَطْفِ والتَعْقِيبِ. وَ "فَسَقُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَفْريقِ. و "فِيها" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقُ بـ "فَسَقُوا"، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَمَرْنا" عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ "إِذا" فإنَّهُ ليسَ لَهَا مَحلَّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} الفاءُ: للعطفِ والتعقيب، و "حَقَّ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ. و "عَلَيْهَا" على: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقُ بـ "حَقَّ"، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "الْقَوْلُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ، والجُمْلَة مَعْطُوفةٌ عَلَى جُملةِ "فسقوا" لَا عَلى جُمْلةِ "أَمَرْنا" لأَنَّ العاطِفَ هُنَا للترتيبِ.
قولُهُ: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} الفاءُ: عاطفةٌ، و "دَمَّرْنَا" مثلُ "أَرَدْنَا" و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "تَدْمِيرًا" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ، مُؤَكِّدٌ لِعامِلِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ".
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {أَمَرْنا} بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ بالقصرِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الأَمْرِ الذي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ آمَرْنَا بِالْمَدِّ بِهَمْزَتَيْنِ هَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ وَهَمْزَةِ فَاءِ الْفِعْلِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ آمِرِينَ، أَيْ دَاعِينَ قَوْمَهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، فَسَكَنَتِ الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ فَصَارَتْ أَلِفًا تَخْفِيفًا، أَوِ الْأَلِفُ أَلِفُ الْمُفَاعَلَةِ، وَالْمُفَاعَلَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُبَالَغَةِ، مِثْلُ عَافَاهُ اللهُ. وَقَرَأَ الحَسَنُ ويَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَعِكْرِمَةُ: "أَمِرْنا" بِكَسْرِ المِيمِ بِمَعْنَى "أَمَرْنا" بالفَتْحِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ، وابْنُ أَبي إِسْحَاقَ، وَأَبُو رَجَاءٍ في آخَرينَ "آمَرْنَا" بالمَدِّ، ورُوِيَتْ هَذِهِ قِراءَةً عَنِ ابْنِ كَثيرٍ، وَأَبي عَمْرٍو وعَاصِمٍ ونَافِعٍ، واخْتَارَهَا يَعْقُوبُ، والهَمْزَةُ فِيهِ للتَعْدِيَةِ؟ وَقَرَأَ عَلِيٌّ أَيْضًا وابْنُ عَبَّاسٍ وأَبو عُثْمَان النَهْدِيُّ: "أَمَّرْنا" بالتَشْديدِ. وَفِيها وَجْهَانِ، أَحَدُهُما: أَنَّ التَضْعيفَ للتَعْدِيَةِ، عَدَّاهُ تَارَةً بِالهَمْزَةِ وَأُخْرَى بِتَضْعِيفِ العَيْنِ، كَأَخْرَجْتُهُ وَخَرَّجْتُهُ. والثاني: أَنَّهُ بِمَعْنَى جَعَلْنَاهُم أُمَراءَ، واللازمُ مِنْ ذَلِكَ "أُمِّرَ". قالَ أبو عليٍّ الفارِسِيُّ: لا وَجْهَ لِكَوْنِ "أَمَّرْنا" مِنَ الإِمَارَةِ؛ لأَنَّ رِئاسَتَهم لا تَكونُ إِلَّا لِواحِدٍ بَعْدَ واحِدٍ، والإِهلاكُ إِنَّما يَكونُ فِي مُدَّةٍ واحِدَةٍ. وَرُدَّ عَليْهِ: بِأَنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ الأَمِيرَ هُوَ المَلِكُ حَتَّى يَلْزَمَ مَا قُلْتُ، لأَنَّ الأَميرَ عِنْدَ العَرَبِ مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ بِهِ. وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مَا قالَ؛ لِأَنَّ المُتْرَفَ إِذا مَلَكَ فَفَسَقَ ثُمَّ آخَرَ بَعْدَهُ فَفَسَقَ، ثُمَّ كَذَلِكَ، كَثُرَ الفَسَادُ، ونَزَلَ بِهِمْ عَلَى الآخِرِ مِنْ مُلُوكِهم.
ورُوِيَ عَنْ أَبي عَمْرٍو الدانيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ "أَمَّرْنَا" بتَشْديدِ المِيمِ، وَهُو في هَذا مُوافِقٌ تَفْسيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنَهْ، فيما رَوَى عَنْه الوَالِبِيُّ، يَقُولُ: سَلَّطْنَا شِرارَهَا فعَصَوْا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجّاجُ: أَي جَعَلْنَا لَهُمْ إِمْرَةً وَسُلْطانًا، وقالَ ابْنُ عباسٍ أَيضًا فِي رِوَايَةِ عَطَاء عنْهُ: يُرِيدُ سَلَّطْنا مُلُوكَها. قالَ أَبُو عَلِيٍّ الفَارِسِيُّ: حُمِلَ أَمَّرْنا عَلى أَنَّهُ مِثْلُ: آمَرْنَا؛ نَحْو: كَثَّرَهُ اللهُ وأَكْثَرَهُ، وَلَا يُحْمَلُ أَمَّرْنَا عَلَى أَنَّ المَعْنَى: جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ؛ لأَنَّهُ لا يَكادُ يَكُونُ فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ عِدَّةُ أُمَرَاءَ. وما قالَهُ أَبُو عَلِيٍّ لا يَقْدَحُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لأَنَّ القَرْيَةَ الوَاحِدَةَ قَدْ يَكونُ فِيها أُمَرَاءَ كَثيرٌ تَبَعًا لِوَاحِدٍ هُوَ أَكَبَرُهُمْ،
فَهُمْ يُسَمَّونَ أُمَراءُ، وَيَكونُونَ مُسَلَّطينَ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُمْ غَيْرُهُمْ هوَ الأَعْظَمُ، فَهَؤُلاءِ لَا يَخْرُجُونَ عِنْ سِمَةِ الإِمَارَةِ، وَ مَا قالَهُ أَبُو عَلِيٍّ يُقَوِّي: أَنَّ يُونُسَ بْنَ حَبيبٍ رَوَى عَنْ أَبي عَمْرٍو الدانيِّ أَنَّهُ قَالَ: لا يَكونُ "أَمَرْنَا" مُخَفَّفَةً بِمَعْنَى كَثَّرْنَا، وَلَمَّا أَرادَ مَعْنَى الكَثْرَةِ شَدَّدَ المِيمَ وَلَمْ يَقْرَأْ بِمَدِّ الأَلِفِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بالمُصْحَفِ إِلَّا أَلِفٌ وَاحِدَةٌ. وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثيرٍ: آمَرْنَا بالمَدِّ، وَهِيَ اللُّغَةُ العَالِيَةُ؛ يُقَالُ: أَمِرَ القَوْمُ وآمَرَهُمُ اللهُ، أَيْ: أَكْثَرِهُمْ، فَهُمْ مُؤَمَّرُونَ. وَنَحْوَ هَذَا رَوَى خَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ، قالَ الزَجَّجُ أَبُو إِسْحَاق: وَيَكونُ لِقَوْلِهِ: "أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا" مَعْنَى آخَرَ غَيْرَ كَثْرَةِ العَدَدِ، وَهُوَ أَنْ تَكْثُرَ جِدَتُهم ويَسَارُهُم. قَالَ أَبُو عُبيدٍ: الوَجْهُ قِراءَةُ العامَّةِ؛ لاحْتِمَالِهِ مَعْنَى الأَمْرِ وَالكَثْرَةِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: أَميرٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ، أَيْ: غَيْرُ مُؤَمَّرٍ. وَأَمَّا المُتْرَفُ فَمَعْنَاهُ في اللُّغَةِ: المُنَعَّمُ الذي قَدْ أَبْطَرَتْهُ النَّعْمَةُ وسَعَةُ العَيْشِ. والمُفَسِّرونَ يَقولونَ في تَفْسيرِهَا: الجَبَّارينَ والمُسَلَّطينَ والمُلَوكُ.