وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّهْيِ عَنِ التَعَرُّضِ لمالِ اليتيمِ، إِلَّا بالطريقَةِ التي هِيَ أَحْسَنُ الطرائقِ، وهِيَ حِفْظُهُ لُهُ واسْتِثْمارُهُ في كلِّ ما يعودُ عليهِ بالنفعِ والرَّبْحِ الحلالِ، كالتِجَارَةِ، وزراعةِ أَرضِهِ، والعنايةِ بمواشيهِ، لِيَنْمُوَ مَالُهُ، وتَعْظُمَ أَرْباحُهُ.
قولُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} يَعْنِي: حَتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ. وَقَالَ القُتَبِيُّ: أَشُدُّ الرَّجُلِ، غَيْرُ أَشُدِّ اليَتيمِ، وَإِنَ كانَ لَفْظُهُما واحِدًا. لأَنَّ قوْلَهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الأَحْقافِ: {حَتّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} الآيَةَ: 25، إِنَّما هوَ الاكْتِمالُ، وذَلِكَ ثَلاثونَ سَنَةً. وأَشُدُّ الغُلامِ أَنْ يَشْتَدَّ خَلْقُهُ، وَذَلِكَ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً. وقالَ مُقاتِلَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هَذِهِ الآيةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فإِخْوَانُكُمْ} الآيَةَ: 220.
قولُهُ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} يَعْنِي: الذي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى، وَالذي بَيْنَكمْ وبَيْنَ النَّاسِ. قالَ أَبو جَعْفَرٍ الطَبَرِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى: المُرَادُ بالعُقُودِ تِلْكَ التي تَنْعَقِدُ بَيْنَ المُتَعاقِدينَ، يَلْزَمُهُمُ الوَفاءُ بِهَا، وَقِيلَ: المُرادُ بِهِ العَهْدُ فِي الوَصِيَّةِ بِمَالِ اليَتيمِ، يَلْزَمُ الوَفاءُ بِهِ. وقِيلَ: المُرادُ بِهِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ نَهَى عنْهُ فهوَ عهْدٌ يَلْزَمُ الوَفاءُ بِهِ. فَالتَّعْرِيفُ فِي "الْعَهْد" لِلْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فيَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي عَاهَدُوا عَلَيْهِ النَّبِيَّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وَهُوَ الْبَيْعَةُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالنُّصْرَةِ. فهو كما قالَ منْ سُورةِ الأنعامِ: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} الآية:152، وكقولِهِ في الآية: 91، مِنْ سورةِ النَّحْلِ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ}. وهَذَا مِنْ أَهَمِّ الْوَصَايَا الَّتِي أَوْصَى اللهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى لِضَعْفِهِمْ عَنِ التَّفَطُّنِ لِمَنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ وَقِلَّةِ نَصِيرِهِمْ لِإِيصَالِ حُقُوقِهِمْ، فَحَذَّرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ مَا عَسَى أَنْ يَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَثَرٍ مِنْ تِلْكَ الْجَاهِلِيَّةِ. ولا يَكادُ يُسْتَعْمَلُ الوَفاءُ إِلَّا بالباءِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبيْنَ الإيفاءِ الحِسِّيِّ، كإيفاءِ الكَيْلِ والوَزْنِ، وغيرِ ذَلِكَ.
قولُهُ: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} إِنَّ الْعَهْدَ: أَظْهَرَ فِي مَقَامِ الإِضْمَارِ للعِنَايَةِ بِشَأْنِهِ، أَوْ للتَنْبيهِ أَنَّ المُرادَ هُوَ مُطْلَقُ العَهْدِ، أَيًّا كانَ هَذَا العَهْدُ. "كَانَ مَسْئُولًا" أَيْ: إِنَّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ، ورَجَعَ بوعدِهِ دونَ مبرِّرٍ شرعيٍّ سَيُسْأَلُ عن ذلكَ يَومَ القيامَةِ، ويحاسَبُ ويعاقبُ. وحُذِفَ مُتَعَلَّقُ "مَسْؤُلًا" لِظُهُورِهِ، أَي: كانَ مَسْؤُولًا عَنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَهْدَ يُسْأَلُ تَبْكِيتًا لِنَاقِضِهِ فَيُقَالُ: لِمَ نُقِضْتَ؟. كَمَا قالَ مِنْ سُورةِ التَكْوِيرِ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَت} الآيتان: (8 و 9). فَإنَّ المَوْؤودَةَ تُسْأَلُ يَوْمَ القيامةِ: بأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتِ؟ وذلك تَبْكِيتًا لِوَائِدِهَا.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} الواوُ: للعَطْفِ، و "لَا" ناهيةٌ جازِمَةٌ. و "تَقْرَبُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهِيَةِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حذْفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. وَ "مالَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ. و "اليتيمِ" مجرورٌ بالإِضافَةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ}.
قَوْلُهُ: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ مِنْ أَعَمِّ الأَحْوالِ؛ أَيْ: لا تَقْرَبُوهُ بِحَالٍ مِنَ الأَحْوالِ إِلَّا بِالطريقَةِ التي هِيَ أَحْسَنُ. و "بِالَّتِي} الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقْرَبُوا"، و "التي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. وهذا المَوْصُولُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ بِالصِفَة ِالتي هِيَ أَحْسَنُ. وَ "هِيَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ عَلى الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. وَ "أَحْسَنُ" خَبَرٌ للمُبْتَدَأِ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةُ "التي" المَوْصُولَةِ فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ، وغَايَةٍ. و "يَبْلُغَ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدَ "حَتَّى" الجَارَّةِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "الْيَتِيمِ". و "أَشُدَّهُ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مَعَ "أنْ" المُضْمَرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "حَتَّى" بِمَعْنَى "إِلَى"، والتقديرُ: إِلَى بُلُوغِهِ أَشُدَّهُ. الجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقْرَبُوا"، أَوْ بِمَا فُهِمَ مِنَ الاسْتِثْناءِ، مِنْ جَوَازِ قُرْبَانِهِ، والتقديرُ: فَاقْرَبوهُ بالخَصْلَةِ التي هِيَ أَحْسَنُ، إِلىَ أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، فَلَا تَقْرَبوهُ بَعْدَ ذَلِكَ، لأَنَّ التَصَرُّفَ لَهُ حِينَئِذٍ.
قولُهُ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "أَوْفُوا" فِعْلُ أمْرٍ مبنيٌّ على حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّ مُضارِعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والألِفُ للتفريقِ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "وَلا تَقْرَبُوا". و "بِالْعَهْدِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَوْفُوا". و "العهدِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ.
قَوْلُهُ: {إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَوْكِيدِ، و "الْعَهْدَ" اسْمُ "إنَّ" منصوبٌ بها. و "كانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعُودُ عَلى "العَهْدَ"، و "مَسْؤُلًا" خبرُ "كانَ" منصوبٌ. وجُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لـ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.