وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ} أَمْرٌ للنبيِّ ـ عليهِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ، بالصَّبرِ، مع التنبيهِ أَنَّ صَبْرَهُ إنَّما هو بمعونةِ اللهِ تعالى وفضلِهِ وتوفيقِهِ، وفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَبْرَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى ما لَقِيَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ هو صبرٌ عَظِيمٌ أَشَدُّ مِمَّا لَقِيَهُ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ. فَصَبْرُهُ لَيْسَ كَالْمُعْتَادِ، لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صَبْرُهُ لِيَحْصَلَ إلَّا بِإِعَانَةٍ مِنَ اللهِ تَعَالى. وخُصَّ بِهذا الْأَمْرِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ِللْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَقَامَهُ أَعْلَى، ولِذَلِكَ فَهُوَ بِالْتِزَامِ الصَّبْرِ أَوْلَى، أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ بَعْدَ أَنْ رَخَّصَ لَلآخَرينَ بالْمُعَاقَبَةِ.
قولُهُ: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أَتْبَعَ اللهُ تَعَالى الأمْرَ بالصَّبْرِ بأَمرٍ آخَرَ، وهو أَنْ لا يَحْزَنَ عليهِمْ إِذا لمْ يُؤْمِنُوا باللهِ تَعَالى، ونَظِيرُهُ قَولْهُ تَعَالى مِنْ سُورةِ الكَهْفِ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الآية: 6. وقولُهُ مِنْ سورةِ الشُعَراء: {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} الآية: 3. وَقِيلَ: المُرادُ أَنْ لا يَحْزَنَ النَبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، عَلَى قَتْلَى مَعْرَكَةِ أُحُدٍ مِنَ المُسْلِمينَ؛ فإِنَّهُمْ قدْ أَفْضَوْا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ وفَضْلِهِ وَكَرامَتِهِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} أَعْقَبَ الأَمْرَ بالصَّبرِ على أَذاهُم وَعَدَمِ الحُزْنِ عليهِمْ بِأَمرٍ ثالثٍ وهو أَنْ لَا يَضِيقَ صَدْرُهُ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، مِنْ مَكْرِهِمْ بهِ وبدينِهِ وبالمؤمنينَ مَعَهُ، وَهَذِهِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ تَحْصُلُ فِي نَفْسِ الإنسانِ بِاخْتِلَافِ الْحَوَادِثِ الْمُسَبِّبَةِ لَهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَامِلُونَهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِالْأَذَى عَلَنًا أحْيانًا، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَإِظْهَارِ أَنَّهُمْ يَغِيظُونَهُ بِعَدَمِ مُتَابَعَتِهِ أَحيانًا، وَبِالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ لَهُ وللمؤمنينَ، وتَدْبِيرِ الْأَذَى لَهُ ولِلَإسْلامِ والمُسْلِمينَ فِي الخَفَاءِ أَحْيانًا أُخْرَى.
قولُهُ تَعالى: {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "اصْبِرْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَلَى كُلِّ مَنْ هُوَ أَهْلٌ للخِطابِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَمَا" الواوُ: اعْتِرَاضِيَّةٌ، و "ما" نافيَةٌ. و "صَبْرُكَ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ. و "إِلَّا" أَدْاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ أَوْ أداةُ حَصْرٍ. و "بِاللهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ للاستعانةِ، أَيْ بِمَعُونَتِهِ تعالى، وهو مُتَعَلِّقٌ بخبرِ المبتدأِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المُتَعَاطِفَيْنِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "لَا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ، وَ "تَحْزَنْ" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بها، مَعْطُوفٌ عَلى "وَاصْبِرْ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ (أَنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَو على كلِّ مَنْ هوَ أهلٌ للخطابِ. و "عَلَيْهِمْ" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَحْزَنْ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجُملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "اصْبِرْ" على كونِها جُملةً مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ
قولُهُ: {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، وَ "لا" ناهِيَةٌ جازِمَةٌ. و "تَكُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مَجْزومٌ بِـ "لا" النَاهِيَةِ، وعَلامَةُ جَزْمِهِ السُّكونُ المُقدَّرُ عَلى النُّونِ المَحْذوفَةِ للتَخْفيفِ. واسْمُهَا ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَوْ على كلِّ مَنْ هوَ أَهلٌّ للخطابِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِـ خبرِ "كانَ" المُقَدَّرِ، وَ "ضَيْقٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "وَلَا تَحْزَنْ" على كونِها معطوفةً على جملةٍ مُسْتأنفةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِمَّا" مِنْ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ضَيْقٍ"، و "مَا" موصولةٌ مبنيَّةٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. أَوْ مصدَريَّةٌ، و "يَمْكُرون" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ، والجملةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةُ لـ "مَا" إِنْ أُعْرِبَتْ اسْمًا مَوْصُولًا، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذُوفٌ. أَوْ هيَ في تَأْولِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بحرفِ الجرِّ "مِنْ"، والتَقْديرُ: مِنْ مَكْرِهِمْ.
قَرَأَ العامَّةُ: {فِي ضَيْقٍ} بالفَتْحِ هُنَا، وَفِي النَمْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "في ضِيقٍ" بِكَسْرِ الصَّادِ، فَقِيلَ: هما لُغَتَان بِمَعْنًى واحدٍ في هَذا المَصْدَرِ، كَالقَوْلِ وَالقِيْلِ. وَقِيلَ: المَفْتُوحُ مُخَفَّفٌ مِنْ "ضَيِّقٍ" كَ "مَيْتٍ" في "مَيِّتٍ"، أَيْ: فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ. وَرَدَّ ذلكَ أبو عليٍّ الفَارِسِيُّ: بِأَنَّ الصِفَةَ غيْرُ خاصَّةٍ بِالمَوْصُوفِ، فَلَا يَجُوزُ ادِّعاءُ الحَذْفِ، وَلِذَلِكَ جَازَ قولُكَ: مَرَرْتُ بِكاتِبٍ. وامْتَنَعَ "بِآكِلٍ". أَمَّا الوجه فِي الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ فَأُمُورٌ منها: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ضَيْقٌ تخْفيفُ ضَيِّقٍ، مِثْلُ مَيْتٍ و مَيِّتٍ، يُقالُ: أَمْرٌ ضَيْقٌ وضَيِّقٌ. والضِّيقُ بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ الْمَعَاشِ وَالْمَسَاكِنِ، وَمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الضَّيْقُ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ الشِّدَّةُ وَالضَّيْقُ بِفَتْحِ الضَّادِ الْغَمُّ. ونَحْو هَذا قولُ الفَرَّاءِ إِذْ قالَ: الضَّيْق: ما ضَاقَ عَنْهُ صَدْرُكَ، والضِّيق: مَا يَكونُ في الذي يَتَّسِعُ؛ مِثْلُ الدارِ والثَّوْبِ وأَشْباهِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: ضَيْقٌ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قُلْنَا: إِنَّهُ تَصِحُّ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ.