وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(95)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الاشْتِراءُ هُنَا هو مَجَازٌ عَنِ الاسْتِبْدالِ، والمُرَادُ بـ "بِعَهْدِ اللهِ" بَيْعَةُ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الإِيمانِ باللهِ تَعَالى واتِّباعِ مِلَّةِ الإِسْلامِ. أَيْ لا تَأْخُذُوا مُقابِلَ عَهْدِكم لله تَعَالَى ورسُولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِوَضًا يَسيرًا مِنْ الدُنْيا، فإنَّ متاعَها قَلِيلٌ مَهْمَا كَثُرَ، وضَئيلٌ مَهَمَا عَظُمَ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ عَرَضَ الدُنْيا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا؛ لأَنَّ مَا يَذْهَبُ وَيَبْلَى قَلِيلٌ. فَقَدْ كانَ قوْمٌ مِنْ ضُعَفاءِ المُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَيْطانِ لِجَزَعِهِمْ مِمَّا رَأَوْا مِنْ غَلَبَةِ قُرَيْشٍ واسْتِضْعافِهِمُ المُسْلِمينَ وَإِيذائهمْ، ولِمَا كانُوا يَعِدُونَهُمْ بِهِ مِنَ المكاسِبِ والعطايا إِنْ هُمْ رَجَعُوا عَنْ دينِ الإسلامِ ونَقَضُوا عَهْدَهُمْ لرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما بايَعُوهُ عَلَيْهِ، فَثَبَّتَهُمُ اللهُ تَعَالى بِهَذِهِ الآيَةِ ونَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَسْتَبْدِلُوا ذَلِكَ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ كُفَّارُ مَكَّةَ مِنْ عَرَضِ الدُنْيَا، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا نَهْيٌ عَنِ الرِّشَا وَأَخْذِ الأَمْوالِ عَلَى تَرْكِ مَا يَجِبُ عَلَى الآخِذِ فِعْلُهُ، أَوْ فِعْلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ، فالمُرادُ بِعَهْدِ اللهِ تَعَالَى مَا يَعُمُّ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرَهُ، وَلا يَخْفَى حُسْنُهُ.
قولُهُ: {إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} أَيْ: إِنَّ مَا يَنْتَظِرُكمْ في مُسْتَقْبَلِ أَيامِكُمْ منَ الحياةِ الدُنْيا، والذي ادَّخَرَهُ اللهُ لَكُمْ في الحياةِ الأُخرى خَيْرٌ لَّكُمْ بما لا يقاسُ مِمّا يعدُكم بِهِ المُشركونَ مِنْ مَتَاعِ الحياةِ الدُنْيَا، وَهُوَ ثَمَنٌ بَخْسٌ جِدًّا جِدًّا إِذَا ما قُورِنَ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ تَعَالى لَكُمْ مِنْ مكافأةٍ في الدنيا وأَجْرٍ في الآخِرَةِ.
قولُهُ: {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالتَمْييزِ، تَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَغُرُّكُمُ الْعَاجِلُ الفاني. وَفِيهِ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الوَاو: للعَطْفِ، و "لَا" ناهيَةٌ جازِمَةٌ. و "تَشْتَرُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ، وعلامةُ جزمِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لآنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، والأَلِفُ فَارِقَةٌ. وَ "بِعَهْدِ" الباء: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَشتَرُوا" و "عَهْدِ" مَجرُورٌ بِحَرفِ الجَرّ مُضافٌ. وَلَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مَجْرُورٌ بِالإِضافَةِ إِلَيْهِ. و "ثَمَنًا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ. و "قَلِيلًا" صِفَةٌ لِـ "ثَمَنًا" مجرورٌ مثلها. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {لَا تَتَّخِذُوا} مِنَ الآيةِ التي قَبْلَها، عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، و "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إِنَّ"، أَوْ هي نَكِرَةٌ مَوْصوفةٌ. وَكانَ حَقَّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً عَنْ "إِنَّ" لِأَنَّهَا لَيْسَتْ "مَا" الْكَافَّةَ، وَلَكِنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ مَوْصُولَةً اعْتِبَارًا لِحَالَةِ النُّطْقِ، وَلَمْ يَكُنْ وَصْلُ أَمْثَالِهَا مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الْمُصْحَفِ. و "عِنْدَ" مَنْصُوبٌ على الظَرْفيَّةِ الاعْتِباريَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ صِلَةٍ لِـ "ما" أَوْ بِصِفَةٍ لَهَا، وهُوَ مُضافٌ، ولَفْظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإِضافةِ إلَيْهِ. و "هُوَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ، و "خَيْرٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ. ويجوزُ أَنْ نُعْرِبَ "هو" مبتَدأً و "خيرٌ" خبرَهُ، والجملة خبر "إنَّ". وَ "لَكُمْ" اللام: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبَرِ "خَيْرٌ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ لتكيرِ الجمع. وجُمْلَةُ "إنَّ" مِنِ اسمها وخَبَرِها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلها.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ، "كُنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٌ هُوَ تاءُ الفاعِلِ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ. وتاءُ الفاعِلِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرفعِ اسْمُ "كان"، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "تَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لآنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فَارِقَةٌ. والجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كان"، والفِعْلُ هُنَا مَنْزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللازِمِ، وَقِيلَ: مُتَعَدٍّ وَالمَفْعولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ فَضْلُ مَا بَيْنَ العِوَضَيْنِ، وَالأَوَّلُ أَبْلَغُ وَمُسْتَغْنٍ عَنِ التَقْديرِ. وجَوَابُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ العِوَضَيْنِ، فَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ تَعَالَى وَاحْذَرُوا نَقْضَهُ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.