وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قولُهُ ـ تَعاَلى شأْنُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: ولو شاءَ اللهُ مَشِيئَةَ إِلْجاءٍ وقَسْرٍ، لَجَعَلَ النَّاسَ كُلَّهمْ عَلَى مِلَّةٍ واحِدَةٍ ودِينٍ واحِدٍ، كما قالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَهُوَ دِينُ الإِسْلامِ وَالاسْتِسْلامِ لَهُ ـ سُبْحانَهُ، والخُضوعِ إِلَيْهِ، والسَّيْرِ عَلى دَرْبِ طَاعَتِهِ وتَقْواهُ. وَهَذِهِ الْمَشِيئَةُ لَا يَطَّلِعُ عَلَى كُنْهِهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَتَظْهَرُ آثَارُهَا فِي فِرْقَةِ الْمُهْتَدِينَ وَفِرْقَةِ الضَّالِّينَ. فَقدِ اقَتَضَتْ حِكَمَتُهُ أَنْ ينوِّعَ العقولَ والمَفَاهِيمَ والمدارِكَ لَتَجْمُلَ الحياةُ، فيكونَ هناك مستوياتٌ مختلفةٌ مِنَ العِلْمِ والفَهْمِ والقَنَاعاتِ، فَتَتَفاعَلَ هَذِهِ العقولُ وتَتَحَاوَرَ، فتَّتَفِقُ فِي أُمُورٍ وَتَخْتَلِفُ في أُمورٍ، ويَظْهَرُ الحَسَنُ ويَتَمَيَّزُ مَنَ القَبيحِ، ولو شَاءَ لوفَّقَ بينكم ولجعلكم جميعًا على مِلَّةٍ واحدةٍ وقناعةٍ واحدةٍ وفِكرٍ واحِدٍ وعقلٍ مُشتركٍ، ولكنَّ سَتَنْتَهي عِنْدَ ذَلِكَ الخلافاتُ والتفاعُلاتُ في المجتمعِ الإنسانيِّ فيصبحُ الناسُ كآلاتٍ مُسيَّرةٍ بجهازِ التحكُّمِ. بَيْنَما اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالى أَنْ يَكونَ المُجْتَمَعُ البَشَرِيُّ خَلَّاقًا مُتَفاعِلًا.
قولُهُ: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ولكنَّ اللهَ تَعَالى يُضِلُّ عَنْ طَريقِهِ وشِرْعَتِهِ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِهِ، بِمَا يُوصِلُهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ الذي أُوتِيهِ، وَتَفْكِيرُهُ وشَيْطانُهُ بِمَا عَليْهِ يُمْلِيهِ، وهُوَ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، خالقُ كلِّ شَيْءٍ، ومِنْ ذلك الضلالُ والهُدَى، وَيْهَدَي ـ جَلَّ وعَلا، إِلَى دِينِهِ القويمِ وسِراطِهِ المُسْتَقيمِ وَشَريعَتِهِ المُثْلى، والمِلَّةِ التي ارْتَضاها لأَوْلِيَائِهِ، والتي أَرْسَلَ بها رُسُلَهُ وأَنْبِياءَهُ إلى خَلقِهِ، وَهِيَ القَنَاعَاتُ الَّتي أَوْصَلَتْهُمْ إِلَيْها عقولُهُم التي أُوتُوها، فَسَارَ كُلٌّ عَلَى الطَريقِ التي اخْتَارَهَا، وعَمِلَ كُلٌّ بالقَنَاعاتِ الَّتَي أَوْصَلَهُ إِلَيْهَا تَفْكيرُهُ.
قولُهُ: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} السُّؤَالُ هُنَا هُوَ كِنايَةٌ عَنِ الْمُحَاسَبَةِ، لِأَنَّهُ سُؤَالٌ حَكِيمٌ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْإِنَارَةُ، وَلَيْسَ سُؤالَ اسْتِطْلاعِ وإبْدَاءِ رَأْيٍ. فَقَدِ اكْتَمَلَتْ الدائرةُ ـ إِذًا، وتَحَقَّقَتِ الإِرادَةُ، وَظَهَرَتِ الحِكْمَةُ، لِيُحَاسَبَ كُلٌّ عَلَى مَا عَمِلَ، ويُجازَى بِمَا اكْتَسَبَ، فيَتَمَيَّزُ الخَيْرُ مِنَ الشَرِّ، وتَتَبَيَّنُ عاقبةُ كلٍّ مِنَ الفَريقينِ، ونِهايةُ كُلٍّ مِنَ الطَرِيقَيْنِ، والحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
قولُهُ ـ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "لَوْ" شَرْطِيَّةٌ. و "شَاءَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِعْلُ شِرْطِ "لَوْ". و "لَجَعَلَكُمْ" اللامُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "لَو" الشَرْطِيَّةِ، و "جَعَلَكُمْ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهُ" تعالى، وَكافُ الخطابِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ، و "أُمَّةً" مفعولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ. و "وَاحِدَةً" صِفَةٌ لِـ "أُمَّةً" منصوبةٌ مِثْلها، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ جَوابٌ لِـ "لَوْ" الشَرْطِيَّةِ، وَجُمْلَةُ "لَوْ" الشَرْطِيَّةِ مِنْ فعلِها وجوابِها مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "لَكِنْ" حَرْفُ اسْتِدْارَكٍ، و "يُضِلُّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهُ" تعالى. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "يَشَاءُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهُ" تعالى، والجُمْلَةُ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائِدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: مَنْ يَشَاءُ إِضْلالَهُ. وجُمْلَةُ "لكنْ" الاسْتِدْرَاكِيَّةُ جملةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "لَوْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفةً فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمَلَةِ قولِهِ: "يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ" ولِهذِهِ الجملةِ الفعليَّةِ مِنَ الإِعْرَابِ مثلُ مَا تَقَدَّمَ لِتَلْك.
قولُهُ: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَاللامُ هي المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، و "تُسْأَلُنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُغَيَّرُ الصِيغَةِ (مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ)، (مَبْنِيٌّ للمَفْعُولِ)، وهوَ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ ولمَّا تَلَتْها نونُ التوكيدِ حُذِفَتْ لِتَوَالي الأَمْثَالِ، وواوُ الجماعةِ المَحْذوفَةُ لالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ نائبٌ عَنْ فاعِلِهِ، وَهوَ المَفْعُولُ الأَوَّلُ لِـ "سَأَلَ"، لأَنَّهُ في الأَصْلِ "لَتُسْأَلُوْنَنَّ". و "عَمَّا" عَنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُسْأَلُنَّ" وَهُوَ فِي مَحَلِّ المَفْعُولِ الثاني لِـ "سَأَلَ"، و "ما" موصولةٌ مَبْنِيَّةٌ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ أو نَكِرةٌ موصوفةٌ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جَوابُ القَسَمِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و "كُنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو التَاءُ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كان"، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، و "تَعْمَلُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجملةُ في محلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كانَ"، وَجُمْلَةُ "كان" صِلَةُ "ما"، إِنْ أُعربتْ مَوْصُولَةً فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الجرِّ إنْ أعربتْ "ما" نَكِرةً موصوفةً، والعائدُ، أَوِ الرّابِطُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ.