إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
(37)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} الْحِرْصُ عَلى الشَّيْءِ: طَلَبُهُ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، وفَرْطُ الْإِرَادَةِ الْمُلِحَّةِ فِي تَحْصِيلِهِ بِالسَّعْيِ فِي أَسْبَابِهِ. والخِطابُ للرَّسُولِ ـ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ كانَ شَديدَ الحِرْصِ عَلَى هِدايَتِهم، يَوَدُّ لَوْ لَمْ يَبْقَ مَخْلوقٌ وَاحِدٌ عَلَى الضَّلالَةِ، وقد وَرَدَ هذا المعنى في غيرِ موضِعٍ من كتابهِ الكريمِ حيثُ قالَ في سُورَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} الآية: 103، وقالَ في سُورةِ الكَهْفِ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الآية: 6. وقال في سورةِ فاطر: {فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} الآية: 8. وغيرُ ذَلِكَ. وَالشَّرْطُ هُنَا لَيْسَ لِتَعْلِيقِ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَضْمُونَ الشَّرْطِ مَعْلُومُ الْحُصُولِ، لِأَنَّ عَلَامَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ النَّاسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 128، سُورَة التَّوْبَة: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}. وَإِنَّمَا هُوَ لِتَعْلِيقِ الْعِلْمِ بِمَضْمُونِ الْجَوَابِ عَلَى دَوَامِ حُصُولِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتَ حَرِيصًا عَلَى هُدَاهُمْ حِرْصًا مُسْتَمِرًّا فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللهُ لَا تَسْتَطِيعُ هَدْيَهُ وَلَا تَجِدُ لِهَدْيهِ وَسِيلَةً وَلَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ. فَالْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّجَدُّدِ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِ عَنْتَرَةَ العبْسِيِّ:
إِنْ تُغْدِ فِي دُونِي الْقِنَاعِ فَإِنَّنِي ............ طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
وَأَظْهَرُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ أَيْضًا مِنَ القَصيدَةِ ذاتِها:
إِنْ كُنْتِ أَزْمَعْتِ الْفِرَاقَ فَإِنَّمَا ................. زُمَّتْ رِكَابُكُمُ بِلَيْلٍ مُظْلِمِ
أَيْ: إِنْ كُنْتِ أَخْفَيْتِ عَنِّي عَزْمَكِ عَلَى الْفِرَاقِ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ شَدَدْتُمْ رِحَالَكُمْ بِلَيْلٍ لِتَرْحَلُوا خُفْيَةً. فَإِنَّ فِعْلَ الشَّرْطِ فِي الْبَيْتَيْنِ فِي مَعْنَى: إِنْ كَانَ ذَلِكَ تَصْمِيمًا، وَجَوَابُ الشَّرْطِ فِيهِمَا فِي مَعْنَى إِفَادَةِ الْعِلْمِ.
وفي هَذَا النَّصِّ الكريمِ تَعْرِيضٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِعَظِيمِ حِرْصِهِ عَلَى كلِّ مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ، وكُلِّ مَا يُصْلِحُهُم، مَعَ عَظيمِ مَا لَقِيَهُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَذَى، وتَحَمَّلَهُ منْ السَّفاهَةِ، الأَمرُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ ـ في العادَةِ، أَنْ يُثِيرَ الْحَنَقَ فِي نَفْسِ مَنْ يَلْحَقُهُ مِثْلُ هَذَا الْأَذَى، وتِلكَ السَّفاهَةُ، وَلَكِنَّ نَفْسَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كاملةٌ، طيِّبةٌ مُطَهَّرَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ يَنْشَأُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَوَانِيَّةِ، ولِذَلِكَ لم تَتَأَثرْ بذاك الأَذَى، وتَلكَ السَّفَاهَةِ، بلْ بالعكسِ، فقد زادها الأَذَى شَفَقَةً عليهم، وحرصًا على إِنْقاذِهِمْ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ غَالِبَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ سَيَكُونُونَ مُهْتَدِينَ في النهايةِ، وَأَنَّ الضُّلَّالَ مِنْهُمْ هُمْ فِئَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللهُ هَدْيَهُمْ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وباهِرِ حكمتِهِ، بِمَا نَشَأَ عَنْ خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي هَيَّأَتْ لَهُمُ الْبَقَاءَ فِي الشَّقاءِ، والاسْتمرارَ في الضَّلَالِ.
قولُهُ: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أَيْ: مَا لَهُمْ نَاصِرٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ، فكَمَا أَنَّهُ ليسَ لَهُمْ مُنْقِذٌ مِنَ الضَّلَالِ الْوَاقِعِينَ فِيهِ، كذلكَ ليسَ لَهُمْ نَاصِرٌ يَدْفَعُ عَنْهُمْ عَوَاقِبَ الضَلالِ.
قولُهُ تَعَالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جازمٌ. و "تَحْرِصْ" فِعُلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "إِنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ. و "عَلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَحْرِصْ"، و "هُدَاهُمْ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَجَوابُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: فَلَا يَنْفَعُهُمْ حِرْصُكَ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} الفاءُ: تَعْلِيلِيَّةٌ للجَوابِ المَحْذوفِ. و "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منْصوبٌ بِهِ. و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها. و "يَهْدِي" فِعْلٌ مٌضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلَى الياءِ. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهَ" تَعَالَى. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُكُونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ لـ "يَهْدِي"، و "يُضِلُّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "اللهَ" تَعَالى، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. والعائدُ مَحْذوفٌ والتَقْديرُ: مَنْ يُضِلُّهُ. وجُمْلَةُ "يَهْدِي" الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ". وَجُمْلَةُ "إنَّ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِلامِ التَعْليلِ المُقَدَّرَةِ، المَدْلولِ عَلَيْها بالفاءِ التَعْليلِيَّةِ.
قولُهُ: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "ما" حِجَازِيَّةٌ أَوْ تَميمِيَّةٌ، و "لَهُمْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "مَا" المُقَدَّمِ إنْ أُعْرِبَتْ حجازِيَّةً، أَوْ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، إِنْ أُعْرِبَتْ تَمِيمِيَّةً، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "نَاصِرِينَ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ الزائدِ لفظًا، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التَنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. وهو مَرْفُوعٌ مَحَلًّا عَلَى أَنَّهُ اسْمُ "ما" الحِجازِيَّةِ المُؤَخَّرِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مٌؤَخَّرٌ إنْ أُعْرِبَتْ "ما" تَمِيمِيَّةً. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنْ".
قَرَأَ العَامَّةُ: {إِنْ تَحْرِصْ} بِكَسْرِ الرَّاءِ مُضَارِعَ "حَرَصَ" بِفَتْحِها، وَهِيَ اللُّغَةُ العَالِيَةُ لُغَةُ الحِجَازِ. وقَرَأَ الحَسَنُ وأَبُو حَيْوَةَ "تَحْرَصُ" بِفَتْحِ الرَّاءِ مُضَارِعَ "حَرِصَ" بِكَسْرِها، وَهِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِهِمْ، وَكَذَلِكَ قرأَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ زادَ وَاوًا قَبْلَ "إِنْ" فَقَرَأَ "وَإِنْ تَحْرَصْ".
قَرَأَ العامَّةُ: {لا يُهْدَى} بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الدَّالِ مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، وَ "مَنْ" قائمٌ مَقامَ فاعِلِهِ، وعَائدُهُ مَحْذُوفٌ أَيْضًا، وَجَوَّزَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ في "مَنْ" أَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً، وَ "لا يُهْدَى" خَبَرُهُ، يَعْني: مٌقَدَّمٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لأَنَّهُ مَتَى كانَ الخَبَرُ فِعْلًا رافِعًا لِضَميرٍ مُسْتَتِرٍ وَجَبَ تَأْخُّرُهُ نَحْوَ: "زَيْدٌ لا يَضْرِبُ"، وَلَوْ قَدَّمْتَ لالْتَبَسَ بِالفَاعِلِ. وَقَرَأَ الكُوفِيُّونَ: "يَهْدِي" بِفَتْحِ اليَاءِ وكَسْرِ الدَّالِ، وَتَحْتَمِلُ هَذِهِ القِراءَةُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُما: أَنْ يَكونَ الفاعِلُ ضَميرًا عائدًا عَلى اللهِ تعالى، أَيْ: لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّهُ، فـ "مَنْ" مَفْعُولُ "يَهْدِي" وَيُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ أُبَيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، (فإِنَّ اللهَ لا هادَيَ لِمَنْ يُضِلُّ، ولِمَنْ أضلَّ)، وأَنَّهُ في مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ سورةِ الأَعْراف: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} الآية: 186.
والثاني: أَنْ يَكونَ المَوْصُولُ هوَ الفاعِلَ، أَيْ: لا يَهْدِي المُضِلَّونَ، و "يَهْدِي" يَجِيءُ فِي مَعْنَى يَهْتَدي. يُقالُ: هَدَاهُ فَهَدَى، أَيْ: اهْتَدَى. ويُؤَيِّدُ هَذَا الوَجْهَ قِراءَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رَضيَ اللهُ عنْهُ: "يَهِدِّي" بتَشْديدِ الدَّالِ المَكْسُورَةِ، فَأَدْغَمَ. ونَقَلَ بَعْضُهم في هَذِهِ القِراءَةِ كَسْرَ الهاءِ عَلَى الإِتْباعِ، والعائدُ عَلَى "مَنْ" مَحْذوفٌ، أَيْ: الذي يُضِلُّهُ اللهُ.
وقُرِئَ: "لا يُهْدِيْ" بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الدَّالِ. وقدْ ضَعَّفَها ابْنُ عَطِيَّةَ، وقالَ الشَّيْخُ أبو حيَّان: وَإِذا ثَبَتَ أَنَّ "هَدَى" لازِمٌ بِمَعْنَى اهْتَدَى لَمْ تَكُنْ ضَعيفَةً؛ لأَنَّهُ أَدْخَلَ هَمْزَةَ التَعْدِيَةِ عَلَى اللازِمِ، فالمَعْنَى: لا يُجْعَلُ مُهْتَدِيًا مَنْ أَضَلَّهُ اللهُ.
قرأَ العامَّةُ: {مَنْ يُضِلُّ} مِنَ الرباعي "أَضَلَّ". وَقُرِئَ: "مَنْ يَضِلُّ" بِفَتْحِ الياءِ مِنَ الثلاثي "ضَلَّ"، أَيْ: لا يَهْدي مَنْ ضَلَّ بِنَفْسِهِ.