جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ
كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ
(31)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} هذا في مُقَابِلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهِمْ: {فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} الآية: 29، السابقة مِنْ هذِهِ السُورَةِ المُبَارَكَةِ. والْعَدْنُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَةِ: الْإِقَامَةُ. فَـ "جَنَّاتُ عَدْنٍ" يَعْني جَنَّاتُ الإِقَامَةِ أَبَدًا فِي النَّعِيمِ، لَا يَتَحَوَّلُونَ عَنْهَا، وَلا يَرْحَلُونَ.
قولُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أَيْ: أَنْهارٌ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ في مواضِعَ أَنْوَاعَ تِلْكَ الْأَنْهَارِ بقَوْلِهِ مِنْ سورةِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} الآية: 15.
قوْلُهُ: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} مِنَ النِّعَمِ والمُتَعِ والمَلَذَّاتِ، من طعامٍ وشرابٍ وَغَيْرِهِ، وكلُّ ذَلِكَ يأتيهم دونَ بَذَلِ أَيِّ مَشَقَّةٍ أَوْ جُهْدٍ، وَفِي الجِنَانِ ما لا عينٌ رَأَتْ مِنْ قبلُ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشَرٍ مِنْ مَلاذِّ، كَمَا جاءَ فِيمَا أَخْرَجَه الأَئِمَّةٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((قَالَ اللهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: (2/313، رقم: 8128)، والبُخاري: (3/1185، رقم: 3072)، ومسلم: (4/2174، رقم: 2824)، والترمذي: (5/346، برقم: 3197)، وقالَ: حَسَنٌ صَحيحٌ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ} تَذْيِيلٌ لِأَنَّ "الـ" التَّعْرِيفَ فِي الْمُتَّقِينَ للْعُمُومِ. أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ الأَوْفَى يَجْزِي اللهُ المُتَّقِينَ، فَـ "الـ" للجِنْسِ، أَيْ كُلَّ مَنْ يَتَّقي مِنَ الشِرْكِ والمَعَاصِي، بِمَا فِي ذَلِكَ المُتَّقونَ المَذْكورونَ، وفيهِ باعِثٌ لِغَيْرِهِمْ عَلَى التَّقْوَى. ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ "الـ" للعَهْدِ، فيَكونُ فِيهِ تَحْسِيرٌ للكَفَرَةِ.
قولُهُ تَعَالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} جَنَّاتُ: يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ هوَ المَخْصُوصَ بالمَدْحِ فَيَجِيءُ فِيها ثَلاثةُ الأَوْجُهِ: مَرْفُوعٌ بالابْتِداءِ، والجُمْلَةُ المُتَقَدِّمَةُ خَبَرُها، أَوْ مَرَفوعٌ خَبَرُ المُبْتَدَأِ المُضْمَرِ، أَوْ مرْفوعٌ بالابْتِداءِ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وهذا أَضْعَفُ الوجوهِ. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ "جَنَّاتُ عَدْنٍ" خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ لا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، بَلْ على أَنَّ المَخْصوصَ بالمَدْحِ مَحْذُوفًا، والتَقْديرُ: ولَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ دَارُهمْ هِيَ جَنَّاتُ. وَقَدَّرَهُ الزَمَخْشَرِيُّ "ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقينَ دَارُ الآخرَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً والخَبَرُ الجَمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: "يَدْخلونها"، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ الخَبَرُ مُضْمَرًا تَقْديرُهُ: لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَها {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُنْيَا حَسَنَةٌ}. وهوَ مُضَافٌ، وَ "عَدْنٍ" مَجْرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "يَدْخُلُونَهَا" يَدْخُلُونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُ. و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحَالِ مِنَ الضَميرِ المُسْتَكِنِّ في الخَبَرِ المَحْذُوفِ.
قولُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تَجْرِي: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ وعلامةُ رَفْعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخرِهِ لثقلِها على الياءِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أو متعلِّقٌ بمحذوفِ حالٍ مِنَ "الأنهار" و "تَحْتِهَا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، وَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ آخر، والتقديرُ: مِنْ تَحْتِ بُيُوتِها، أَوْ أَشْجَارِهَا. و "الْأَنْهَارُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وجُمْلَةُ "تَجْرِي" في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ مَفْعُولِ "يَدْخُلُونَهَا". ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصوبًا عَلى الحالِ مِنْ "جَنَّات" قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيجوزُ أَنْ يَكونَ في مَوْضِعِ الصِفَةِ لِـ "جَنَّات" قالَهُ الحُوفِيُّ، والوَجْهانِ مَبْنِيَّانِ عَلى القولِ في "عَدْن" هَلْ هوَ مَعْرِفَةٌ لِكَوْنِهِ عَلَمًا، أَوْ نَكِرَةً، فقائلُ الحَالِ لَحَظَ الأَوَّلَ، وقائلُ النَّعْتِ لَحَظَ الثاني.
قولُهُ: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} لَهُمْ: اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "فِيهَا" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بالاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، مُؤَخَّرٌ. و "يَشَاءُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ والتَقديرُ: ما يَشاؤونَهُ، ويَشْتَهُونَهُ والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على أَّنها حالٌ ثانيَةٌ مِنَ مَفْعُولِ قولِهِ تَعَالى: "يَدْخُلُونَهَا".
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ} كَذَلِكَ: الكافُ حرفُ جَرٍّ وتشبيهٍ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنْ ضَميرِ المَصْدَرِ، أَوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ، أَوْ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: الأَمُرُ كَذَلِكَ. و "ذا" اسمُ إشارةِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، واللامُ للبُعدِ والكاف الثانيةُ للخطابِ. و "يَجْزِي" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضَمَّةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى آخِرِهِ لثقلِها على الياءِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "الْمُتَّقِينَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. والتَقْديرُ: يَجْزَي اللهُ المُتَّقِينَ جَزاءً مِثْلَ الجَزَاءِ الَّذي ذَكَرْناهُ.
قرأَ العامَّةُ: {جناتُ} بالرَّفْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تخريجُهُ في الإعرابِ. وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثابتٍ، وأبو عبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "جنَّاتِ" نَصْبًا عَلَى الاشْتِغالِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ والتَقْديرُ: يَدْخلونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلونَها، وَهَذِهِ تُقَوِّي أَنْ يَكونَ "جَنَّات" مُبْتَدَأً، وَ "يَدْخلونَها" الخَبَرَ في قراءَةِ العَامَّةِ.
قرأَ الجُمهورُ: {ولَنِعْمَ دارُ}، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ: "ولَنِعْمَةُ دَارِ" بِتَاءِ التَأْنيثِ مَرْفوعَةً بالابِتْداءِ، و "دارِ" عَلَى الخَفْضِ بالإِضافَةً، و "جَنَّاتُ عَدْنٍ" الخَبَرُ. وَ "يَدْخُلونَهَا" في جَميعِ ذَلِكَ نَصْبٌ عَلَى الحَالِ، إِلَّا إِذا جَعَلْناهُ خَبَرًا لـ "جَنَّاتُ عَدْنٍ".
قرأَ الجمهورُ: {يَدْخُلونَها} بالبناءِ للفاعلِ، وَقَرَأَ نافِعٌ في رِوَايَةٍ "يُدْخَلُونَها" بالياءِ مِنْ تَحْتُ مَبْنِيَّا للمَفْعُولِ، وقرأَ أَبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُلَميُّ: "تَدْخُلونَها" بِتاَءِ الخِطَابِ مَبْنِيًّا للفَاعِلِ.