وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
(6)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} جَمَالٌ: أَيْ زِينَةٌ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَوَجاهَةٌ عِنْدَهُمْ. كَمَا قَالَ في سُورَةِ الكَهْفِ: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية: 46، والمَالُ لَا يَخُصُّ الذَهَبَ والفضَّةَ وغَيْرِهِما، بَلْ يَشْمَلُ الزروعَ والعَقاراتِ والبهائمَ وغيرَ ذَلِكَ، وكانَ يقالُ: أَكْثَرُ مَالِ العَرَبِ الإِبِلُ، وأَكْثَرُ أَمْوالِ أَهْلِ البَصْرَةِ النَّخْلُ. وَقالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْبركَةُ فِي الْغَنَمِ، وَالْجَمَالُ فِي الْإِبِلِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). أَخْرَجَهُ أَبو بِشْرٍ محمَّدُ الأَنْصَارِيُّ الدُولابيُّ الرَّازِيُّ في الكُنَى والأَسْمَاءِ: (2/573)، مِنْ حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، والدَّيْلَمِيُّ في سُنَنِهِ: (2/32، برقم: 2197). وللحديثِ أَطْرافٌ أٌخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَةَ وغيرُهُ عَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((الإِبِلُ عِزٌّ لأَهْلِهَا، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَة)). سُنَنُ ابْنِ ماجةَ: (2/773، برقم: 2305)، قالَ البُوصِيرِيُّ، (3/40): هذا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وأَخرجهُ الطَبَرانيُّ في الكَبيرِ: (17/156، برقم: 404 و 405). وأَخْرَجَهُ أَيْضًا: أَبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ في مُسْنَدِهِ: (12/208، برقم: 6828). وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَنْعانيُّ في التفسيرِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ الطَبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ" قَالَ: إِذا رَاحَتْ كَأَعْظَمِ مَا يَكُونُ أَسْنِمَةً، وَأَحْسَنِ مَا تَكُونُ ضُرُوعًا، و "وَحِينَ تَسْرَحُونَ" قَالَ: إِذا سَرَحَتْ لِرَعْيِها. وَمِنْ جَمَالِهَا كَثْرَتُهَا وَقَوْلُ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهَا هَذِهِ نَعَمُ فُلَانٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَلِأَنَّهَا إِذَا رَاحَتْ تَوَفَّرَ حُسْنُهَا وَعَظُمَ شَأْنُهَا وَتَعَلَّقَتِ الْقُلُوبُ بِهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ أَعْظَمُ مَا تَكونُ أَسْنِمَةً وَضُرُوعًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّمَ الرَّوَاحَ عَلَى السَّرَاحِ لِتَكَامُلِ دَرِّهَا وَسُرُورِ النَّفْسِ بِهَا إِذْ ذَاكَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
والجَمَالُ يَقَعُ عَلَى الصُّوَر وَالْمَعَانِي؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشريفُ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ)) أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَدْخُلِ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلاَ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلًا، وَرَأْسِي دَهِينًا، وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيدًا، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ، حَتَّى ذَكَرَ عِلاَقَةَ سَوْطِهِ، أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: ((لاَ، ذَاكَ الْجَمَالُ، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَأَزْدَرَى النَّاسَ)). أَخْرَجَهُ الإمامً أَحَمَد في مُسْنَدِهِ: (1/399، برقم: 3788)، ولهُ أَطْرافٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ: (1/93، برقم: 91). والتِرْمِذِيِّ: (4/361، برقم: 1999)، والحاكمِ في مُسْتَدْرَكِهِ: (1/78، رقم: 69)، وقال: حديثٌ صَحيحُ الإسْنَادِ. وأَخرجَهُ أَيضًا الطَبَرانِيُّ: (10/221، رقم: 10533)، والبَغَوَيُّ في شَرْحِ السُنَّةِ: (13/165)، وغَيْرُهُم مِنْ أَئِمَّةَ الحديثِ الشريفِ رحمَهُمُ اللهُ. وَفِي حَدِيثِ الإِسْراءِ: ((ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ جَمْلاءُ))، أَيْ جَمِيلَةٌ مَلِيحَةٌ. فقد أَخرجَ الطَبَرانيُّ في مُعْجَمِهِ الأَوْسَطِ: (4/165) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْبُرَاقِ، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَعَلَ يَسِيرُ بِهِ، فَإِذَا بَلَغَ مَكَانًا مَطَّاطِيًا طَالَتْ يَدَاهَا وَقَصُرَتْ رِجْلَاهَا حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ، وَإِذَا بَلَغَ مَكَانًا مُرْتَفِعًا قَصُرَتْ يَدَاهَا وَطَالَتْ رِجْلَاهَا حَتَّى تَسْتَوِيَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِ: يَا مُحَمَّدُ إِلَى الطَّرِيقِ (مَرَّتَيْنِ)، فَقَالَ جِبْرِيلُ: امْضِ وَلَا تُكَلِّمْ أَحَدًا، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِلَى الطَّرِيقِ يَا مُحَمَّدُ (مَرَّتَيْنِ)، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: امْضِ وَلَا تُكَلِّمْ أَحَدًا، ثُمَّ عَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ جَمْلَاءُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ؟. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا. قَالَ: تِلْكَ الْيَهُودُ، دَعَتْكَ إِلَى دِينِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي دَعَاكَ عَلَى يَسَارِ الطَّرِيقِ؟. قَالَ: لَا. قَالَ تِلْكَ النَّصَارَى دَعَتْكَ إِلَى دِينِهِمْ. هَلْ تَدْرِي مَنِ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ الْجَمْلَاءُ؟. قَالَ: تِلْكَ الدُّنْيَا، تَدْعُوكَ إِلَى نَفْسِهَا. ثُمَّ انْطَلَقْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا هُوَ بِنَفَرٍ جُلُوسٍ، فَقَالُوا حِينَ أَبْصَرُوهُ: مَرْحَبًا بِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، وَإِذَا فِي النَّفَرِ الْجُلُوسِ شَيْخٌ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَذَا؟. قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ. ثُمَّ سَأَلَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟. قَالَ: مُوسَى. ثُمَّ سَأَلَهُ: مَنْ هَذَا؟. قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَتَدَافَعُوا حَتَّى قَدَّمُوا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أُتُوْا بِأَشْرِبَةٍ فَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: قُمْ مَعِي إِلَى رَبِّكَ، فَقَامَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا صَنَعَتَ؟. قَالَ: فُرِضَتْ عَلَى أُمَّتِي خَمْسُونَ صَلَاةً، قَالَ لَهُ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَإِنَّكَ لَا تُطِيقُ هَذَا، فَرَجَعَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: مَاذَا صَنَعَتَ؟ قَالَ: رَدَّهَا إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ هَذَا، فَرَجَعَ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى رَدَّهَا إِلَى خَمْسٍ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لْأُمَّتِكَ، فَقَالَ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مَا أُرَاجِعُهُ، وَقَدْ قَالَ لِي: لَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رُدِدْتَهَا مَسْأَلَةٌ أُعْطِيكَهَا. ورَوَاهُ أَيْضًا فِي الكَبيرِ ورِجالُهُ رِجَالُ الصَّحيحِ. وذكَرَهُ الهَيْثَمِيُّ في مَجْمعِ الزَّوائِدِ وَمَنْبَعِ الفوائدِ.
والْجَمَالُ أَيْضًا كلُّ مَا يُتَجَمَّلُ بِهِ وَيُتَزَيَّنُ. وَالْجَمَالُ: الْحُسْنُ. وَقَدْ جَمُلَ الرَّجُلُ (بِالضَّمِّ) جَمَالًا فَهُوَ جَمِيلُ، وَالْمَرْأَةُ جَمِيلَةٌ، وَجَمْلَاءُ أَيْضًا، وَأَنْشَدَ الْكِسَائِيُّ عَلَى ذَلِكَ قولَ الشاعِرِ:
فهيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طالِعٍ .................. بَذَّتِ الْخَلْقَ جَمِيعًا بِالْجَمَالِ
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيِّ:
جَمَالَكَ أَيُّهَا الْقَلْبُ الْقَرِيحُ ................. سَنَلْقَى مَنْ تُحِبُّ فَتَسْتَريحُ
فيُرِيدُ بِهِ: الْزَمْ تَجَمُّلَكَ وَحَيَاءَكَ ولا تَجْزَعْ جَزَعًا قَبيحًا. وأَجْمَلُ: أَيْ حَسَنُ الأَفعالِ، كَامِلُ الأَوْصَافِ؛ وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ لِلشَّاعَرِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ:
وَمَا الحَقُّ أَنْ تَهْوَى فتُشْعَفَ بِالَّذِي ... هَوِيتَ، إِذا مَا كَانَ لَيْسَ بأَجْمَلِ
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: يَجُوزُ أَن يَكُونَ "أَجمل" فِيهِ بِمَعْنَى جَمِيل، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَراد لَيْسَ بـ "أَجْمَل" مِنْ غَيْرِهِ، أَيْ لم يُرِدْ صِيغَةَ التَفْضِيلِ، كَمَا قَالُوا اللهُ أَكْبَرُ، يُرِيدُونَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. والمُجَامَلَة: المُعاملةُ بالجَمِيلِ،
وَلَيسَ لِهذِهِ الكلمةِ مِنْ لَفْظِهَا ما يَأْتي عَلَى وَزْنِ "أَفْعَلَ" كَ "دِيمَةٌ هَطْلاءْ". وَجاءَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ النَبَوِيِّ الشَّريفِ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَضَّ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَامَ رَجُلٌ قَبِيحُ السُّنَّةِ (الصورةِ) صَغِيرُ القِمَّةِ (شَخْصُ الإِنسانِ إِذَا كَانَ قَائِمًا) يَقُودُ نَاقَةً حَسْنَاءَ جَمْلاءَ، فَقَالَ: هَذِهِ صَدَقَةٌ. رَواهُ جارُ اللهِ الزَمَخْشَرِيُّ في (الفائقُ في غريبِ الحديثِ والأَثَرِ): (2/201). ورُوِيَ أَيضًا أَنَّ رَجُلًا، جَاءَ عَبْدَ اللهِ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهُ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي قَبْلَ أَنْ أَزُورَ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَتْ أَعَانَتْكَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا نَاقَةٌ حَسْنَاءُ جَمْلَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُعِنْكَ فَعَلَيْكَ نَاقَةٌ حَسْنَاءُ جَمْلَاءُ). السُنَنُ الكُبْرَى للبَيْهَقِيِّ: (5/168).
والمُجَامِلُ: الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى جَوَابِكَ فَيَتْرُكُهُ إِبقاءً عَلَى مَوَدَّتِك. والمُجَامِل: الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى جَوَابِكَ فَيَتْرُكُهُ ويَحْقِدُ عَلَيْكَ إِلى وَقْتٍ مَا؛ وَالْجَمَالُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ وَتَرْكِيبِ الْخِلْقَةِ، كَمَا يَكُونُ فِي الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنَةِ، وَيَكُونُ أَيْضًا فِي الأَفعالِ. فأَمَّا جَمَالُ الخِلْقَةِ فَهُوَ أَمْرٌ يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ وَيُلْقِيهِ إِلَى الْقَلْبِ مُتَلَائِمًا، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ ذَلِكَ وَلَا نِسْبَتِهِ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَأَمَّا جَمَالُ الْأَخْلَاقِ فَكَوْنُهَا عَلَى الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْعِفَّةِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ. وَأَمَّا جَمَالُ الْأَفْعَالِ فَهُوَ وُجُودُهَا مُلَائِمَةً لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، وَقَاضِيَةً لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ فِيهِمْ، وَصَرْفِ الشَّرِّ عَنْهُمْ. وَجَمَالُ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ مِنْ جَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ مُوَافِقٌ لِلْبَصَائِرِ.
قولُهُ: {حِينَ تُرِيحُونَ} الرَّوَاحُ، هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَعَاطِنِ، يُقَالُ: أَرَاحَ نِعَمَهُ إِذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السُّرُوحِ. أيْ تُرِيحُونَ: مِنَ الإِراحَةِ: وَهِيَ رَدُّ الإِبِلِ بِالعَشِيِّ إِلَى مُراحِها حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ لَيْلًا، وَيُقَالُ: أَرَاحَ المَاشِيَةَ وَهَرَاحَها بالهاءِ بَدَلًا مِنَ الهَمْزَةِ. فَـ "حِينَ تُرِيحُونَ" أَيْ حِينَ تَرُدُّونَها مِنْ مَراعِيها إِلَى مَرَاحِها بالعَشِيِّ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ حِينَ خُروجِ العَرَبِ أَيَّامَ الرَّبيعِ بالمَاشِيَةِ إِلَى الخِصْبِ، يَعْنِي أَنَّ الإراحَةَ أَكْثَرُ مَا تَكونُ أَيَّامَ الرَّبيعِ إِذا سَقَطَ الغَيْثُ، وَكَثُرَ الكَلَأُ، وَخَرَجَتِ العَرَبُ للنَّجْعَةِ، وأَحْسَنُ مَا تَكونُ النَّعَمِ في ذَلِكَ الوقتِ، وَلِذَلِكَ سَتَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجَهَهُ لَمَّا رَأَى نَعَمَ بَنِي المُصْطَلِقِ، وقدْ عَبِسَتْ في أَبْوالِها.
قولُهُ: {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} "وَحِينَ تَسْرَحُونَ" تُخْرِجُونَهَا بالغَدَاةِ مِنْ حَظائرِهَا إِلَى مَسَارِحِهَا، يُقالُ: سَرَّحَ القومُ إبِلَهم سَرْحًا إذا أخرجوها بالغَدَاةِ إِلَى المَرْعَى، واسْمُ ذَلِكَ المَالِ السَّرْحُ، وسَرَحَ المَالُ نَفُسُهُ سُرُوحًا: رَعَى بالغَدَاةِ. وَالسُّرُوحُ: الْإِسَامَةُ، أَيِ الْغُدُوُّ بِهَا إِلَى الْمَرَاعِي. يُقَالُ: سَرَحَهَا ـ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، سَرَحًا وَسُرُوحًا، وَسَرَّحَهَا ـ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، تَسْرِيحًا. وَتَقْدِيمُ الْإِرَاحَةِ عَلَى التَّسْرِيحِ لِأَنَّ الْجَمَالَ عِنْدَ الْإِرَاحَةِ أَقْوَى وَأَبْهَجُ، لِأَنَّهَا تُقْبِلُ حِينَئِذٍ مَلْأَى الْبُطُونِ حَافِلَةَ الضُّرُوعِ مَرِحَةً بِمَسَرَّةِ الشِّبَعِ وَمَحَبَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهَا مِنْ مَعَاطِنَ وَمَرَابِضَ، قالَ عَنْتَرَةُ العَبْسِيُّ:
بَطَلٌ كأَنَّ ثِيابَهُ في سَرْحَةٍ ............... يُحْذَى نِعالَ السَّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ
ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ إِرْسَالٍ، واسْتُعِيرَ أَيْضًا للطَّلاقِ، فقالوا: فلانٌ سَرَّحَ امْرَأَتَهُ، كَمَا اسْتعيرَ الطلاقُ أَيْضًا مِنْ إِطْلاقِ الإِبِلِ مِنْ عُلُقِها. وسَرَحَ الإِبلَ يَسْرَحُها سَرْحًا، أَيْ: أَرْسَلَهَا، وأَصْلُهُ أَنْ يُرْسِلَها لِتَرْعَى السَّرْحَ، والسَّرْحُ شَجَرٌ لَهُ ثَمَرٌ، الواحِدَةُ مِنْهُ سَرْحَة. قال حَمِيدُ بْنُ ثَوْرِ الهِلالِيُّ:
أَبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ ............... عَلَى كُلِّ أَفْنَانٍ العِضَاهِ تَرُوقُ
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ. وَفِي تَكَرُّرِهَا تَكَرُّرُ النِّعْمَةِ بِمَنَاظِرِهَا. واعْتُبِرَ مِنَ السَّرْحِ المُضِيُّ، فَقِيلَ: ناقَةٌ سُرُحٌ، أَيْ: سَريعَةٌ. قَالَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ الزِّبَعْرَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَمْدَحُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا ........... عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
والبَيْتُ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ أَنْشَدَها مُعْتَذِرًا للنَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ وَآلِهِ صَلاةُ اللهِ وسَلامُهُ، عَمَّا كانَ أَسَاءَ في جَاهِلِيَّتِهِ، نُثْبِتُهَا هُنَا تَبَرُّكًا:
مَنَعَ الرُّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ .................... وَاللَّيْلُ مُعْتَلِجُ الرَّوَاقِ بَهِيمُ
مِمَّا أَتَانِي أَنَّ أَحْمَدَ لَامَنِي ..................... فِيهِ فَبِتُّ كَأَنَّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا ............ عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
إِنِّي لَمُعْتَذِرٌ إِلَيْكَ مِنَ الذِي ............ أَسْدَيْتُ إِذْ أَنَا فِي الضَّلَالِ أَهِيمُ
أَيَّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطَّةٍ ...................... سَهْمٌ وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدُّ أَسْبَابَ الرَّدَى وَيَقُودُنِي ................ أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ .................. قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتِ الْعَدَاوَةُ فَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا ............ وَأَتَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ فِدًى لَكَ وَالِدَايَ كِلَاهُمَا .............. زَلَلِي فَإِنَّكَ رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْكَ مِنْ سِمَةِ الْمَلِيكِ عَلَامَةٌ ................. نُورٌ أَغَرُّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاكَ بَعْدَ مَحَبَّةٍ بُرْهَانَهُ ..................... شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْتُ بِأَنَّ دِينَكَ صَادِقٌ ............ حَقًّا وَأَنَّكَ فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاللهُ يَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى ............ مُسْتَقْبَلٌ فِي الصَّالِحِينَ كَرِيمُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ .................. فَرْعٌ تَمَكَّنَ فِي الذُرا وَأرُومُ
العَيْرَانَةُ: النَشِطَةُ السَّريعَةُ مِنَ الإِبِلِ. والقَرْمُ: سَيِّدُ القومِ وعَظيمُهُمُ المُطاعُ فِيهمْ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، وَ "لَكُمْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "فِيهَا" في: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، أَوْ بِحالٍ مِنْ "جَمَالٌ"، وَ "ها" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "جَمَالٌ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ، مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {فِيهَا دِفْءٌ}، و "حِينَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزَمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَمَالٌ" لأَنَّهُ بِمَعْنَى تَجَمَّلَ، أَو بِصِفَةٍ لَهُ، و "تُريحونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفْعَالِ الخَمْسَةِ، والواوُ، وواوُ الجَماعةِ، ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وَجُمْلَةُ "تُرِيحُونَ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ لِـ "حِينَ". و "وَحِينَ تَسْرَحُونَ" حرفُ عطفٍ، وَمَعْطُوفٌ عَلَى "حِينَ تُرِيحُونَ" ولهُ مثلُ ما لهُ مِنَ الإعرابِ. وحَذَفَ مفعولي "تُرِيْحونَ" و "تَسْرَحُون" مُراعَاةً للفَوَاصِلِ مَعَ العِلْمِ بِهِمَا.
قرَأَ الجمهورُ: {حينَ}، وَقَرَأُ عِكْرِمَةُ والضَحَّاكُ "حِينًا" بالتَنْوينِ عَلَى أَنَّ الجُمْلَةَ بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ، والعائدُ مَحْذوفٌ، أَيْ: حِينًا تُرِيْحون فيهِ، وحِينًا تَسْرحُون فيهِ، كما في قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} الآية: 281.