فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
(94)
قولُهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أَيْ: فَاجْهَرْ بِهِ، وأَظْهِرْهُ، وَصَرِّحْ بِهِ، وأَنْفِذْهُ، وَفَرِّقْ ـ بِما تُؤْمَرُ بِهِ، بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ. فقد كانَ ـ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْعُو النَّاسَ خُفْيَةً، حِينَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ إِذَا أَرَادَوا الصَّلَاةَ يَذْهَبُونَ إِلَى بَعْضِ الشِّعَابِ يَسْتَخْفِونَ بِصَلَاتِهِم مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَرَّةً يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ، وَيَعِيبُونَ عليهِمْ صَلَاتَهُمْ، فَحَدَثَ تَضَارُبٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فأَدْمَى فِيهِ سَعْدٌ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ دَارَ الْأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا بَعْدَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَكَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِهَا. وَاسْتَمَرُّوا كَذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ تَزِيدُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ" الْآيَةَ. وَبِنُزُولِهَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهُ وَسَلامُهُ، الِاخْتِفَاءَ بِدَارِ الْأَرْقَمِ، وَأَعْلَنَ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِسْلَامِ جَهْرًا دونَ أَنْ يَعْبَأَ بِغَيْظِ المُشْرِكِينَ وَأَذاهُمْ. وَهو منْ قولِكَ: صَدَعَ فلانٌ بِحُجَّتِهِ، إذا تَكَلَّمَ بِها جِهَارًا. وفي اللُّغَةِ الصَّدْعُ: الشَّقُّ، والفَرْقُ، والفَصْلُ. وَمِنهُ قولُ جَريرٍ مِنْ قصيدةٍ لَهُ يَمْدَحُ فيها يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ:
هُوَ الخَليفهُ فارْضَوْا مَا قَضَى لَكُمُ ....... بالحَقِّ يَصْدَعُ مَا في قَوْلِهِ جَنَفُ
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهِ عَنْهُمَا: مَعْنَى "اصْدَعْ" أَظْهِرْ. وقالَ الأَخْفَشُ وَأَبو عُبَيْدَةَ المعْنَى: افْرِقْ. وقالَ المُؤَرِّجُ المعنى: افْصِلْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ المُضِريُّ ذُو الرُمَّةِ، غَيْلاَنُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ بُهَيْسٍ، وهو مِنَ كبارِ الشُعَراءِ في العصْرِ الأُمَويٌّ:
فَأَصْبَحْتُ أَرْمِي كُلَّ شَبْحٍ وَحَائِلٍ ...... كَأَنِّي مُسَوِّي قِسْمَةِ الأَرْضِ صَادِعُ
وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" أَيْ: أَظْهِرْ ذَلِكَ، قالَ: وَأَصْلُهُ الفَرْقُ والفَتْحُ، أَيْ: اصْدَعْ بِحَقِّكَ الباطِلَ، وهذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ وأَهلِ المَعاني. ويَصْدَعُ: يَفْصِلُ، قالَ عَبْدُ يَغُوثَ بْنُ وَقَّاصٍ الحارِثيُّ:
وأَنْحَرُ لِلشَّرْبِ الكِرامِ مَطِيَّتي ............... وأَصْدَعُ بين القَيْنَتَيْن رِدَائِيا
أَيْ: أَشُقُّ. وتَصَدَّعَ القومُ، إِذَا تَفَرَّقُوا، وِمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرُّومِ: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} الآية: 43، قالَ الفَرَّاءُ: المعنى يَتَفَرَّقونَ، فَأَمَّا مَعْنَى الآيَةِ فَقالَ ابْنُ عَرَفَةَ: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" أَيْ فَرِّقْ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وَرَوَى أَبو العَبَّاسِ المُبرِّدُ عِنِ ابْنِ الأَعْرابيِّ في قَوْلِهِ تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" أَيْ: شُقَّ جَمَاعَتَهمْ بالتَوْحِيدِ؛ كَأَنَّهُ يَقُولُ: ادْعُهُمْ إِلَى التَوْحِيدِ لِتُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُمْ؛ بإجابَةِ بَعْضِهِمْ إِيَّاكَ، فَيَكونُ ذَلِكَ تَفَرُّقَ كَلِمَتِهم. فالصَّدْعُ عَلَى هَذَا يَعُودُ إِلى صَدْعِ جَمَاعَةِ المُشْرِكِينَ. وَقَيلَ المعنى: فَرِّقِ القَوْلَ فِيهِمْ، وَعَلَيْهِ: فالصَّدْعُ يَعُودُ إِلَى دَعْوَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ أَنْ يُفَرِقْها في النَّاسِ فَيُذِيعَها فِيهم.
وقالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَجَّاجُ يَقُولُ: أَظْهِرْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ؛ أُخِذَ مِنَ الصِّدِيعِ وهوَ الصُّبْحُ، وَقالَ: وتَأَويلُ الصَّدْعِ في الزُّجَاجِ، أَنْ يَبِينَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ. وَهَذَا الذي ذَكَرَهُ الزجَّاجُ يَعُودُ إِلَى الشَّقِّ أَيضًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر" قال: فامْضِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَقَ، وَابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمرُ" قَالَ: هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ لِنَبِيِّهِ بِتَبْليغِ رِسَالَتِهِ قوْمَهُ وَجَمِيعَ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمرْ" قَالَ: أَعْلِنْ بِمَا تُؤْمَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمرُ" قَالَ: اجْهَرْ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ. واللهُ أَعْلَمُ.
وَ "بِمَا تُؤْمَرُ" يَشْمَلُ كُلُّ مَا أُمِرَ الرَّسُولُ ـ عَلَيْهِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلَامُهُ، بِتَبْلِيغِهِ. وَهذا مِنْ بَدِيعِ الإِيجَازٍ. وقالَ الفَرَّاءُ: أَرادَ فَاصْدَعْ بِالأَمْرِ، وَ "ما" مَعَ الفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ المَصْدَرِ، وكَذَلِكَ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ عائدٌ مِنَ الصِلَةِ كَقَوْلِكَ: مَا أَحْسَنَ مَا تَنْطَلِقُ؛ تُريدُ: مَا أَحْسَنَ انْطِلاقكَ، ومَا أَحْسَنَ ما تَأْمُرُ، أَيْ: أَمْرَكَ، وِمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الصَافَّاتِ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} الآية: 102، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: افْعَلِ الأَمْرَ الذي تُؤْمَرُ، قالَ: ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَعْنَى: بِمَا تُؤْمَرُ بِهِ، فَحَذَفَ الجَارَّ؛ لأَنَّ العَرَبَ قَدْ تَقُولُ: إِنِّي لآمُرُكَ وآمُرُ بِكَ، وأَكْفُرُكَ وأَكْفُرُ بِكَ. وأَنْشَدَ لُجَيْمُ بْنُ صَعْبٍ:
إذا قَالَتْ حَذَامِ فَأْنْصِتُوها ................... فإِنَّ الأَمْرَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
قالَ: يُريدُ فَأَنْصِتُوا لَهَا. و "حَذَامِ" امْرَأَتُهُ، وَهِيَ بِنْتُ الريَّانِ، سُمِيَتْ بِذَلِكَ لأَنَّ ضِرَّتَها حَذَمَتْ (قَطَعَتْ) يَدَهَا بِشَفْرَةٍ.
فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى في هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِهِ عَلَنًا فِي غَيْرِ خَفَاءٍ وَلَا مُوَارَبَةٍ. وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المَائدَةِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية: 67. ثمَّ شَهِدَ لَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ امْتَثَلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَبَلَّغَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ منْ سُورةِ البَقَرَةِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية: 3، وَكقَوْلِهِ ـ تباركَ وتَعَالَى أَيْضًا مِنْ سُورةِ الطورِ: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} الآية: 54، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الكريمةِ.
و "اصْدَعْ" أَصْلُهُ مِنَ الصَّدْعِ بِمَعْنَى الْإِظْهَارِ، والفاعلُ منهُ صادِعٌ، واسمُ المفعولِ صَديعٌ، وأَيضًا فالصَّديعُ: ضَوءُ الفَجْرِ لانْشِقاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ، يُقالُ: انْصَدَعَ، وانْفَلَقَ، وانْفَجَرَ، وانْفطرَ الصُّبحُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: انْصَدَعَ الصُّبْحُ، أَيْ: انْشَقَّ عَنْهُ اللَّيْلُ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ الزُبَيْديِّ:
تَرَى السَّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ...................... كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ
فقولُهُ: صديعٌ، أَيْ: فَجْرٌ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَظْهِرْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ، وَبَلِّغْهُ عَلَنًا عَلَى رُؤوسِ الْأَشْهَادِ، فإنَّ الْعَرَبُ تَقُولُ: صَدَعْتُ الشَّيْءَ: أَظْهَرْتُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الهُذلِيِّ:
وَكَأَنَّهُنَّ رَبَابَةٌ وَكَأَنَّهُ يَسَرٌ ................... يَفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ
وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ غَيْلاَنُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ بُهَيْسٍ:
عَشِيَّةَ قَلْبِي فِي الْمُقِيمِ صَدِيعُهُ ........... وَرَاحَ جَنَابَ الظَّاعِنِينَ صَدِيعُ
يَعْنِي: أَنَّ قَلْبَهُ افْتَرَقَ إِلَى جُزْأَيْنِ: جُزْءٍ فِي الْمُقِيمِ، وَجُزْءٍ فِي الظَّاعِنِينَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" أَيْ: فَرِّقْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِمَا أَمَرَكَ اللهُ بِتَبْلِيغِهِ.
وَقَيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الصَّدْعِ بِمَعْنَى الشَّقِّ فِي الشَّيْءِ الصُّلْبِ: كَالزُّجَاجِ وَالْحَائِطِ. وَمِنْهُ بِمَعْنَى التَّفْرِيقِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرُّومِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} الآية: 43، أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} الآية: 7، مِنْ سُورَةِ الشُورَى، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الرُومِ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} الآية: 14، قالَ الأَزْهَرِيُّ: وَسُمِّيَ الصُّبْحُ صَدِيعًا، كَمَا سُمِّيَ فِلْقًا، وَقَدِ انْصَدَعَ، وانْفَلَقَ، وانْفَجَرَ الصُّبْحُ. وفاعِلُ الصَّدْعِ صَادِعٌ، قالَ الشاعِرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ خَلِيفَةَ الطَّائيُّ يَرْثِي حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ:
فَيَا حُجْرُ مَنْ للخَيْلِ تَدْمَى نُحُورُها .... وللمَلك المُعْزَى إِذا ما تَغَشْمَرَا ومَنْ صادِعٌ بالحَقِّ بَعْدَكَ ناطِقٌ ........ بِتَقْوَى وَمَنْ إِنْ قِيلَ بِالجَوْرِ غَيَّرا
وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ" قَالَ: بِالْقُرْآنِ الَّذِي أُوحِي إِلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغُهُمْ إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النبوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُسْتَخْفِيًا سِنِينَ لَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ حَتَّى نَزَلَتْ: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" يَعْنِي: أَظْهِرْ أَمْرَكَ بِمَكَّةَ فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِكَ وَبِالْقُرْآنِ، وهُمْ خَمْسَةُ رَهْطٍ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرَاهُم أَحيَاءَ بَعْدُ كُلَّهُمْ، فَأُهْلِكوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَيْلَةٍ، مِنْهُمُ الْعَاصُ ابْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ خَرَجَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ، فَخَرَجَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسيرُ، وَابْنٍ لَهُ يَتَنَزَّهُ، ويَتَغَدَّى، فَنَزَلَ شِعْبًا مِنْ تِلْكَ الشِّعابِ، فَلَمَّا وَضَعَ قَدَمَهُ عَلَى الأَرْضِ قَالَ: لُدِغْتُ، فَطَلَبُوا فَلَم يَجِدُوا شَيْئًا، وَانْتَفَخَتْ رِجْلُهُ حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ عُنُقِ الْبَعِيرِ، فَمَاتَ مَكَانَهُ. وَمِنْهُم الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، أَكَلَ حُوتًا مالِحًا فَأَصَابَهُ غَلَبَةُ عَطَشٍ فَلَمْ يَزَلْ يَشْرَب عَلَيْهِ مِنَ المَاءِ حَتَّى انْقَدَّ بَطْنُهُ فَمَاتَ وَهُوَ يَقُولُ: قَتَلَنِي رَبُّ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمُ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ لَهُ زَمَعَةٌ بِالشَّامِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قدْ دَعَا عَلَى الْأَبِ أَنْ يَعْمَى بَصَرُهُ وَأَنْ يَتَّكِلَ على وَلَدِهِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِوَرَقَةٍ خَضْراءَ، فَرَمَاهُ بهَا فَذَهَبَ بَصَرُهُ. وَخَرَجَ يُلاقي ابْنَهُ، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ، فَجَعَلَ يَنْطَحُ رَأْسَهُ، وَيَضْرِبُ وَجْهَهُ بالشَّوْكِ، فاسْتَغَاثَ بِغُلامِهِ، فَقَالَ لَهُ غُلَامُهُ: لَا أَرَى أَحَدًا يَصْنَعُ بِكَ شَيْئًا غَيٍرَ نَفْسِكَ، حَتَّى مَاتَ وَهُوَ يَقُولُ: قَتَلَنِي رَبُّ مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، مَرَّ عَلَى نَبْلٍ لِرَجًلٍ مِنْ خُزَاعَةَ، قدْ رَاشَها، وجَعَلَها فِي الشَّمْسِ، فَرَبَطَهَا فَانْكَسَرَتْ، فَتَعَلَّقَ بِهِ سَهْمٌ مِنْهَا، فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ فَقَتَلَهُ. وَمِنْهُمُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ، فَأَصَابَهُ السَّمُومُ، فاسْوَدَّ حَتَّى عَادَ حَبَشِيًّا فَأَتى أَهْلَهُ، فَلَمْ يَعْرِفُوهُ، فَأَغْلَقُوا دُونَهُ الْبَابَ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَقُولُ: قَتَلَني رَبُّ مُحَمَّدٍ. فَقَتَلَهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَأَظْهَرَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْرَهُ وأَعْلَنَهُ بِمَكَّةَ، حرَسَها اللهُ.
قولُهُ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: أَيْ لَا تُبَالِ بِتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ وَشِركِهم، وَلَا يَصْعُبُ عَلَيْكَ تَحَمُّلُ ذَلِكَ. فَإنَّ اللهَ رَبَّكَ حَافِظُكَ مِنْهُمْ. وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ يعني الْإِعْرَاضَ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ لَا عَنْ ذَوَاتِهِمْ، ولا عنْ مُتَابَعَةِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالى وَدِينِهِ الحَنِيفِ. فإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" أَيْ: بَلِّغْ رِسَالَةَ رَبِّكَ. و "أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ"، أَيْ: لَا تُبَالِ بِهِمْ وَلَا تَخْشَهُمْ فإِنَّ اللهَ ناكثُ كَيْدِهم ورادُّهُ عليهِمْ. وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المَائدَةِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية: 67. وقد كَانَ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، مَأْمُورًا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِآيَاتِ السَّيْفِ، فَقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو دَاوُدُ فِي ناسِخِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْركِينَ" قَالَ: نَسَخَهُ قَوْلُهُ مِنْ سُورةِ التَّوْبَة: {اقْتُلُوا الْمُشْركين} الآيَة: 5. وَمِنَ الْآيَاتِ التي أُمِرَ فيها ـ عَلَيْهِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ، بالإِعْراَضِ عَنِ المُشْركينَ قَوْلُهُ تَعَالَى في سُورَةِ الأَنْعامِ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الآية: 106، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ السَجْدَةِ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} الآية: 30، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ النَّجمِ: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآية: 29، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الأَحْزاب: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا} الآية: 48، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وقد نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ، وَرَسُولُ اللهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مُخْتَفٍ فِي دَارِ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ معَ أَصْحابِهِ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ أَبي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا زَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ: "فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ" فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ، وأَرَدْتَ بَيَانَ مَا هوَ اللازِمُ لَكَ، فَأَقُولُ: "اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ"، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي} مِنَ الآيَةِ: 87، السَّابِقَةِ مِنْ هذِهِ السُورَةِ الْمبارَكةِ بِصَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ عَنِ التَسْلِيَةِ لهُ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وإيذائهم. و "اصْدَعْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سيِّدنا مُحَمَّدٍ ـ عليهِ صلاةُ ربِّهِ وسلامُهُ. و "بِمَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "ما" موصولةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في مَحلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، أو هي نَكِرةٌ موصُوفَةٌ، وَقَوْلُهُ: "بِمَا تُؤْمَرُ" يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ "مَا" مَوْصُولَةً. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ سَبْكِ الْمَصْدَرِ مِنْ "أَنْ" وَالْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسُيُّ في (الْبَحْرِ المحيطِ) وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ. قالَ السمينُ الحلبيُّ في (الدُرِّ المَصُونِ فِي عُلومِ الكِتَابِ المَكْنُونِ: (7/185)، قُلْتُ: الخِلافُ إِنَّما فِي المَصْدَرِ المُصَرَّحِ بِهِ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْحَلَّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍ وَفِعْلٍ مَبْنِيٍّ للمَفْعُولِ أَمْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ؟. خِلافٌ مَشْهُورٌ، أَمَّا أَنَّ الحَرْفَ المَصْدَرِيَّ هَلْ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يُوْصَلَ بِفِعْلٍ مَبْنِيٍّ للمَفْعُولِ نَحْوَ: "يُعْجِبُني أَنْ يُكْرَمَ عَمْرٌو" أَمْ لا يَجُوزُ؟. فَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزاعِ. و "تُؤْمَرُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، ونائبُ فاعِلِهِ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت)، يَعُودُ عَلَى سيدِ الوجودِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما" إنْ أُعربتْ مَوْصُولَةِ، أَوْ هي صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ الجرِّ إنْ أُعربتْ "ما" نَكِرةً موصوفةً، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: بِمَا تُؤْمَرُ بِهِ. وتقدَّمَ الكلامُ في جَوازِ أَنْ تكونَ "مَا" مَصْدَرِيَّةً. وجُمْلَةُ "اصْدَعْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الوَاو: للعطفِ، و "أَعْرِضْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى "اصدع" ولهُ مثلُ إعْرابِهِ. و "عَنِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "الْمُشْرِكِينَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالِمُ، والنونُ عِوضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. والجملةُ معطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "اصْدَعْ" على كَوْنِها في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ.