فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ
(98)
قولُهُ ـ تَعَالى جَدُّهُ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أَيْ: عَلَيْكَ بِتَنْزِيهِ رَبِّكَ ـ سُبْحانَهُ. فَتَسْبِيحُ اللهِ تَنْزِيهُهُ بِقَوْلِكَ: سُبْحَانَ اللهِ. فإنَّ شِرْكَهُمْ لَنْ يَضُرَّكَ. وهوَ عَلى هَذَا تَفْريعٌ عَلَى قولِهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُ يضيقُ صدرُكَ بما يقولونَ} الآية: 97، السابقة. فقد أَمْرُهُ بِتَسْبِيحِ اللهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَقُولُونَهُ مِنْ نِسْبَةِ الشَّرِيكِ إِلَيْهِ ـ سُبحانَهُ وتَعَالَى. عَلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ مَعَ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فَيُفِيدُ الْإِنْكَارَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَقُولُونَهُ، والمَعْنَى: فَاقْتَصِرْ فِي دَفْعِهِمْ عَلَى إِنْكَارِ قولِهِمْ، وَهُوَ كقَوْلِهِ تَعَالَى منْ سُورَة الْإِسْرَاء: {قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} الآية: 93. وَأَصْلُ التَّسْبِيحِ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ. وَفِي الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ ـ جَلَّ جَلالُهُ العَظيمُ. وَ "بِحَمْدِ رَبِّكَ"، أَيْ: بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ: "بِحَمْدِ رَبِّكَ" أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ فَتَعُمُّ جَمِيعَ الْمَحَامِدِ مِنْ كُلِّ وَصْفِ كَمَالٍ وَجَلَالٍ ثَابِتٍ لَهُ ـ جَلَّ جَلَالُهُ، فَتَسْتَغْرِقُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الثَّنَاءَ بِكُلِّ كَمَالٍ، لِأَنَّ الْكَمَالَ إِنَّما يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ: التَّخَلِّي عَنِ النقائصِ، وَكلِّ مَا لَا يَلِيقُ، وَهَذَا مَعْنَى التَّسْبِيحِ. وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ، وَالِاتِّصَافُ بِجميعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَمْدِ، فَتَمَّ الثَّنَاءُ بِكُلِّ كَمَالٍ. وَقدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَديثِ أبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنْ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ)) أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: (2/232، بِرَقَم: 7167)، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (7/167، برقم: 35026)، والبُخَاري: (5/2352، برقم: 6043)، ومُسْلِمٌ: (4/2072، برقم: 2694)، والتِرْمِذِيُّ: (5/512، برقَمِ: 3467)، وقالَ: حَسَنٌ غَريبٌ صَحيحٌ، وابْنُ ماجَهْ: (2/1251، برقم: 3806)، وابْنُ حِبَّانَ: (3/112، برقم: 831). والبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: (5/42)، كلُّهمْ عن أبي هريرةَ، ولهُ روايةٌ عَنْ جُوَيْرِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ جميعًا. وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمٌ فِي التَّاريخِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ، عَنْ أَبي مُسْلِمٍ الْخَولَانِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أُوحِيَ لِي أَنْ أَجْمَعَ المَالَ، وأَكُونَ مِنَ التّاجِرينَ، وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ: "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدينَ، واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ.
قوْلُهُ: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} الْأَمْرُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ عَلَى السُّجُودِ. وَ "مِنَ السَّاجِدِينَ" أَبْلَغُ فِي الِاتِّصَافِ بِالسُّجُودِ مِنْ: (وكُنْ سَاجِدًا) لَوْ أَنَّهُ قِيلَ ذلكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَنْبِيهُ عليهِ وَلَفْتُ النَّظَرِ إِلَيْهِ غَيْرَ مرَّةٍ، كما في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْبَقَرَةِ: {قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} الآية: 67، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ التَوْبَة: {يا أَيُّها الذينَ آمنوا اتَّقوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} الآية: 119، وَغَيْرِهِمَا. وَالسَّاجِدُونَ: هُمُ الْمُصَلُّونَ. فَالْمَعْنَى: وَدُمْ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ.
وَقَدْ كَرَّرَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِهاتينِ العبادتيْنِ الْمَذْكُورَتيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، غَيْرَ مَرَّةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ العَزيزِ، فقالَ في الآية: 130، مِنْ سُورَةِ طَهَ: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}. وَقَال في الآية: 55، مِنْ سُورةِ غافِر: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}. وقالَ في الآية: 39، مِنْ سُورةِ (ق): {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}. وقَالَ فِي الآيةَ: 3، مِنْ سُورَةِ النَّصْر: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. وَالْآيَاتُ التي جاءَتْ للأَمْرِ بمثلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تعالى: "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ"، أَيْ: صِلِّ لَهُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالصَّلَاةُ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ التَّنْزِيهِ وَمُنْتَهَى التَّقْدِيسِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، أَيْ: مِنَ الْمُصَلِّينَ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ، أَوْ أَعَمُّ مِنْهَا مِنْ تَنْزِيهِ اللهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِطْلَاقُ التَّسْبِيحِ عَلَى الصَّلَاةِ.
وَلِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالسُّجُودِ الصَّلَاةَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْضِعُ مَحَلَّ سَجْدَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ سَجْدَةٍ مِنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ البتَّةَ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ خلافَ ذَلِكَ.
قولُهُ تَعَالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} الفاءُ: هيَ الفَصيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطِ تَقْديرُهُ: إِذا عَرَفْتَ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ مَا هوَ اللازِمُ لَكَ، فَأَقُولُ لَكَ سَبَّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. و "سَبِّحْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ الظاهِرِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و "بِحَمْدِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ للمُصاحَبَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حالٍ مِنْ فاعِلِ "سَبِّحْ"، وَالتَّقْدِيرُ: فَسَبِّحْ رَبَّكَ بِحَمْدِهِ فَحُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عليهِ. أَو هي للملابَسَةِ، أَيْ: حالَةَ كَوْنِكَ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَ "حَمْدِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ. وَ "رَبِّكَ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إليهِ، مُضافٌ أَيْضًا، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ، مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةٍ. أَوْ أنَّ الفاءَ رابطةٌ لجواب شرطٍ محذوفٍ والجملةُ في مَحَلِّ جَزْمٍ على أنَّها جَوابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنْ ضَاقَ صَدْرُكَ فَسَبِّحْ.
قولُهُ: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "كُنْ" فِعْلُ أَمْرٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ الظاهِرِ على آخِرِهِ، وقد حذفَتْ الألفُ مِنْهُ لالتقاءِ الساكنينِ، لأنَّهُ اسمٌ منقوصٌ، واسُمُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِ الوجودِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "كانَ" المُقدَّرِ، و "السَّاجِدِينَ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ، أَوِ الجزمِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "سَبِّحْ" التي قبْلَها، أيْ: إمَّا في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ، أَوِ الجزمِ على أَنَّها جَوابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ.