الموسوعة القرآنية، فيض العليم، سورة الحجر، الآية: 95
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاصْدَعْ أَيُّها النبيُّ بِأَمْرِ اللهِ، وَلَا تَخَفْ أَحَدًا غَيْرَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، كَافِيكَ مَنْ عَادَاكَ، كَمَا كَفَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الذينَ هَزِئُوا بِكَ وبِدينِكَ. وهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِعْلَانِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَإِنَّ تَخَفِيَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِدَارِ الْأَرْقَمِ، كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا اللهُ، أَهَمُّهَا تَعَدُّدُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ، فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، بِحَيْثُ يَغْتَاظُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ وَفْرَةِ الدَّاخِلِينَ فِي الدِّينِ، مَعَ أَنَّ دَعْوَتَهُ مَخْفِيَةٌ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَمَرَ رَسُولَهُ ـ عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ وَسَلَامُهُ، بِإِعْلَانِ دَعْوَتِهِ لِحِكْمَةٍ أَعْلَى، تَهَيَّأَ اعْتِبَارُهَا فِي عِلْمِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى.
وَالمُسْتَهْزِئُونَ هُمْ رُؤُوسُ الشِّرْكِ الذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ مَرَّ بِخَمْسَةٍ مِنْهُمْ، فَأَخَذُوا يَتَغَامَزُونَ عَلَيْهِ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَكَفَاُهُ اللهُ أَمْرَهُمْ وَشَرَّهُمْ. وَذَكَرَ ـ تَعَالَى، فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ كَفَاهُ غَيْرَهُمْ. كَقَوْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ} الْآيَةَ: 137، مِنْ سُورَةُ البَقَرَةِ، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الزُمَرِ: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الْآيَةَ: 36، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الكَريمَةِ. وَالْمُسْتَهْزِئُونَ الْمَذْكُورُونَ في هَذِهِ الآيَةِ الكريمَةِ هُمْ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ. وَالْآفَاتُ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ مَشْهُورَةٌ فِي التَّارِيخِ. وقد هَلَكُوا بِمَكَّةَ مُتَتَابِعِينَ، فكَانَ هَلَاكُهُمُ الْعَجِيبُ الْمَحْكِيُّ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ صَارِفًا أَتْبَاعَهُمْ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ لِانْفِرَاطِ عِقْدِهِمْ وتفَرُّقِ صفوفِهم، وتلاشي قُواهُمْ.
وَفي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِـ "الْمُسْتَهْزِئِينَ" إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ تعالى كَفَاهُ اسْتِهْزَاءُهُمْ، وَهُوَ أَقَلُّ أَنْوَاعِ الْأَذَى، فَكِفَايَتُهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ، مِنَ الْأَذَى مَفْهُومٌ بِطْرِيقِ الْأَحْرَى. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِـ "إِنَّ" لِتَحْقِيقِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لَا لِلشَّكِّ فِي تَحَقُّقِهِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي "الْمُسْتَهْزِئِينَ" لِلْجِنْسِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، أَيْ كَفَيْنَاك كُلُّ مُسْتَهْزِئٍ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قُصَارَى مَا يُؤْذُونَهُ بِهِ هوَ الِاسْتِهْزَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَة آل عِمْرَانَ: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} الآية: 111، فَقَدْ صَرَفَهُمُ اللهُ عَنْ أَنْ يُؤْذُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِغَيْرِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَذَلِكَ لُطْفٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، بِرَسُولِهِ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ.
وَمَعْنَى الْكِفَايَةِ تَوَلِّي الْكَافِيَ مُهِمَّ الْمَكْفِيِّ، فَالْكَافِي هُوَ مُتَوَلِّي عَمَلٍ عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَبْتَغِي رَاحَةَ الْمُكْفَى. يُقَالُ: كَفَيْتُ مُهِمَّكَ، فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى مَفْعُولَيْنِ ثَانِيهِمَا هُوَ الْمُهِمُّ الْمَكْفِيُ مِنْهُ. فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا فَإِذَا كَانَ اسْمَ ذَاتٍ فَالْمُرَادُ أَحْوَالُهُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ، فَإِذَا قُلْتَ: كَفَيْتُكَ عَدُوَّكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ بَأْسَهُ، وَإِذَا قُلْتَ: كَفَيْتُكَ غَرِيمَكَ، فَالْمُرَادُ: كَفَيْتُكَ مُطَالَبَتَهُ. فَلَمَّا قَالَ هُنَا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فُهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَفَيْنَاكَ الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ وَإِرَاحَتُكَ مِنَ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَكَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِصُنُوفٍ مِنْ الِاسْتِهْزَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَسْبَابِ كِفَايَتِهِمْ زِيَادَةُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ صَارَ بَأْسُ الْمُسْلِمِينَ مَخْشِيًّا وَقَدْ أَسْلَمَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَاعْتَزَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ إِلَّا الِاسْتِهْزَاءُ، ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَخَشِيَهُ سُفَهَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الْبَعْثَةِ النبويَّةِ الشريفةِ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيّ فِي معجَمِهِ الْأَوْسَطِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ كِلَاهُمَا فِي دَلَائِلِ النُبُوَّةِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، والضِياءُ المقدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ" قَالَ: المُسْتَهْزِئونَ هم: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغيرَةِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، والْحَارثُ بْنُ عَيْطَلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَرِنِي إِيَّاهُم، فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ، فَأَوْمَأَ جِبْرِيلُ إِلَى أَكْحَلِهِ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. قَالَ: كَفَيْتُكَهُ. ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، فَأَوْمَأَ إِلَى عَيْنِهِ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. قَالَ: كَفَيْتُكَهُ. ثُمَّ أَرَاهُ الْحَرْثَ فَأَوْمَأَ إِلَى بَطْنِهِ، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. فَقَالَ: كَفَيْتَكَهُ. ثُمَّ أَرَاهُ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ، فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمُصُهُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. فَقَالَ كَفَيْتُكَهُ. فَأَمَّا الْوَلِيدُ، فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهُوَ يُريشُ نَبْلًا، فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ فَقَطَعَها، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَنَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ أَلَا تَدْفَعُونَ عَنِّي؟ قَدْ هَلَكْتُ، وَطُعِنْتُ بالشَّوْكِ فِي عَيْني، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى عَتَمَتْ عَيْنَاهُ. وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ، فَمَاتَ مِنْهَا. وَأَمَّا الْحَارِثُ فَأَخَذَهُ المَاءُ الْأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خُرْؤهُ مِنْ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْعَاصُ فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَرَبَضَ عَلَى شَبْرَقَةٍ، فَدَخَلَ مِنْ أَخْمَصِ قَدَمِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ.
وَجاءَ في سَبَبِ نُزولِ هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ مَا أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا كَاهِنٌ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مُحَمَّدٌ سَاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ أَبي مُعَيْطٍ: مُحَمَّدٌ مَجْنُونٌ يَهْذِي فِي جُنُونِهِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ: مُحَمَّدٌ كَذَّابٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ "إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ" فَهَلَكُوا قَبْلَ بَدْرٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} إِنَّا: "إنْ" حرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتَوْكِيدِ، و "نا" ضميرُ جماعةِ المُتَكَلِّمِينَ، مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌ عَلى السُّكونِ في مِحَلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "كَفَيْنَاكَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ منحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحَانَهُ وتعالى، و "نا" الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُهُ الأولُ، و "الْمُسْتَهْزِئِينَ" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ، مَنْصُوبٌ وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.