وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ
(81)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} قالَ "آتَيْنَاهُمْ" فَأَضافَ الإيتاءَ إِلَيْهِمْ ـ وإِنْ كانَتِ النَّاقَةُ آيَةً لِصَالِحٍ ـ عليهِ السلامُ، لأَنَّها آيَاتُ رَسُولِهِمْ، فَلَوْ صَدَقُوا بِها كانَتْ آياتٍ لَهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهم. والمُرادُ بِـ "آياتِنا" النّاقَةُ، وَوَلَدُهَا، فالآياتُ فِي النَّاقَةِ خُرُوجُها عُشَرَاءَ، وَبْرَاءَ، جَوْفَاءَ مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ، وَكِبَرُهَا، وَسَرِيعُ وِلادَتِها، وعِظَمُ شُرْبِها، حَتَّى أَنَّها كانتْ تَشْرَبُ ماءَ البِئْرِ كلَّهُ، وغَزَارَةُ لَبَنِها، فكانَ يَكْفِي لِيَشْرَبَ مِنْهُ القومُ كلُّهُمْ، قَالَ تَعَالَى في سورةِ الشُعَراءِ: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} الآيَةَ: 155، وَقَالَ: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} الآية: 28، مِنْ سورةِ القَمَر. وَرُوِيَ أَنَّ فَصِيلَهَا قَدْ خَرَجَ مَعَهَا، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قولُهُ ـ يُريدُ النَّاقَةَ: فَكَأَنَّ في النَّاقَةِ آيَاتٌ؛ لِخُروجِها مِنَ الصَّخْرَةِ، ودُنُوِّ نِتَاجِها عِنْدَ خُرُوجِها، وَعِظَمِ خَلْقِهَا؛ حَتَّى لَمْ تُشْبِهْها نَاقَةٌ أُخْرَى، وَكَثْرَةُ لَبَنِها؛ حَتَّى كانَ يَكْفِيهِمْ جَميعًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيها مِنَ الآياتِ. وقِيلَ: كَانَتْ لِنَبِيِّهِمْ صالحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مُعْجِزاتٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ، وَلَا يَضُرُّنَا أَنَّها لَمْ تُذْكَرْ عَلَى التَفْصِيلِ، وَقِيلَ: المُرَادُ بالآياتِ الأَدِلَّةُ العَقْلِيَّةُ المَنْصُوبَةُ لَهُمْ، الدَالَّةُ عَلَى اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، المَبْثُوثةُ فِي الأَنْفُسِ وَالآفاقِ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَقِيلَ آياتُ الكِتَابِ المُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِمْ. وَقِيلَ بِأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَيْسَ لَهُ كِتابٌ مَأْثورٌ إِلَّا أَنْ يُقالَ: الكِتابُ لا يُلْزِمُ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، بَلْ يَكْفِي كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِالأَخْذِ بِمَجموعَةٍ مِنَ التعليماتِ وتَبْليغِها لِقَوْمِهِ لِيَحفظوها ويعمَلوا بموجِبِها، وَيكونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ نُزُولِ الكتابِ عَلَيْهِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرادَ بِالآياتِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ آياتِ الرُسُلِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، والظاهِرُ هوَ التَأْويلُ الأَوَّلُ.
وهَذَا لأَنَّهم قَالُوا لَهُ مُتَحَدِّينَ: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} الآيتان: 154 و 155، مِنْ سورةِ الشُعراءِ. وَقَالَ لهم ـ عليهِ السَّلامُ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيم} الْآيَةَ: 73، مِنْ سورةِ: الأَعْراف. وقالَ في سورةِ هود: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} الآية: 64.
قولُهُ: {فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} بالكُلِّيَّةِ، غَيْرَ مُقْبِلِينَ عَلَى العَمَلِ بِمَا تَقْتَضِيهِ، بَلْ كانُوا مُعَارِضِينَ لَهَا حَيْثُ فَعَلُوا بالنَّاقَةِ مَا فَعَلُوا كما هوَ معلومٌ. وَقد بَيَّنَ ـ تعالى إِعْرَاضَ قَوْمِ صَالِحٍ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كتابِهِ العزيزِ فقَالَ منْ سورةِ الأعراف: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية: 77، وَقَالَ من سورةِ هود: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} الْآيَةَ: 65، وَقَالَ منْ سورةِ الشمسِ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} الآيات: 11 ـ 14، وَقَالَ في سورةِ القمر: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} الآية: 29. وَقَالَ منْ سورةِ الإسْراء: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} الآية: 59، وَقَال مِنْ سورةِ الشعراءِ: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} الْآيَتان: 185 ـ 186، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ: الصُّدُودُ عَنْهُ، وَعَدَمُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ. وهوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ ـ بِالضَّمِّ، وَهُوَ الْجَانِبُ، لِأَنَّ الْمُعْرِضَ لَا يُوَلِّي وَجْهَهُ، بَلْ يَثْنِي عِطْفَهُ مُلْتَفِتًا صَادًّا. وَلَمْ يُبَيِّنْ ـ جَلَّ جَلالُهُ العظيمُ، هُنَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهُمْ إِيَّاها، وَلَا كَيْفِيَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الَّتِي آتَاهُمْ: تِلْكَ النَّاقَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا لَهُمْ.
قولُهُ تَعَالى: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "آتَيْنَاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ النَّصْبِ مفعولُهُ الأوَّلُ، لأَنَّ "آتى" بِمَعْنَى أَعْطَى، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "آيَاتِنَا" مفعولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرةُ نِيابَةً عنِ الفتحةِ لأنَّهُ جمعُ المُؤنَّثِ السَّالمُ، وهو مُضافٌ، و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافة إليهِ. وَ "آتَيْناهُمْ آياتِنا" أَيْ بِآيَاتِنَا وهو كَقَوْلِهِ تعالى منْ سورةِ الكهف: {آتِنا غَداءَنا} الآية: 62، أَيْ بِغَدائِنا. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {كَذَّبَ} منَ الآيةِ التي قبلَها، عَلَى كَونِها جَوابَ القَسَمِ فَليسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} الفاءُ: عاطِفَةٌ، و "كانوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنيٌّ عَلى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مبنيٌ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُ "كان"، والألفُ للتفريقِ. و "عَنْهَا" عَنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مُعْرِضِينَ" خَبَرُ "كان" منصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. وتَقْديمُ المَعْمُولِ "عَنْها" على العاملِ فيهِ "مُعْرِضِينَ" لِرِعَايَةِ تَنَاسُبِ رُؤوسِ الآيِ. وجُمْلَةُ "كان" مِنِ اسْمِها وخبرِها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "آتيناهم" فلا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
قرَأَ الجُمْهورُ: {وَآتَيْنَاهُمْ آياتِنَا} جَمْعَ آيَةٍ، وَقَرَأَ أَبُو حَيَوَة: "وآتَيْنَاهُمْ آيَتَنَا" مُفْرَدَةً.