عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(93)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ: إِنَّ رَبَّهُمْ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ، سَوْفَ يَسْأَلُهمْ يومَ القيامةِ، عَنْ حُجَجِهِمْ فيْمَا فَعَلُوهُ بِنَبِيِّهِم، ولَيْسَ سؤالُهُ عَنِ الفِعْلِ ذَاتِهِ، فَإِنَّ أَفْعَالَهمْ كُلَّها مُدَّونَةٌ في صَحَائِفِهم بالتَّفْصِيلِ بِزَمانِها وَمَكَانِها، ولسوفَ يَقْرَؤونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فيها؛ كَمَا قَالَ تَعَالى في الآيةِ: 14، مِنْ سُورَةِ الإسْراءِ: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا). فَلَيْسَ السُّؤالُ إذًا عَنْها، وَإنَّما هُوَ عَنْ أَسْبَابِها والدَوَافِعِ التي حَمَلَتْهم عَلَى ارْتِكابِها، مِنْ سُوءِ مُعامَلَةٍ لِرَسُولِهِ الكريمِ، وكِتَابِهِ العَظِيمِ: فلِأَيِّ: شَيْءٍ نَسَبْتُمْ رَسُولِي إِلى السِّحْرِ، والكَذِبِ، والكَهَانَةِ، والافْتِراءِ عَلَى الله؟. ولِمَاذَا كذَّبْتمْ بِكِتَابي ولمْ تؤمنوا بِهِ وتُجِلُّوهُ وتَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ؟. بَلْ قَسَّمْتُمُوهُ، وجَزَّأْتُمُوهُ، واسْتَهَنْتُمْ بِهِ، واستهزَأْتمْ، واسْتَهْتَرْتُمْ، فكَفَرْتُم بِبَعْضِهِ وآمَنْتُمْ بِبَعْضٍ؟. وَمَا هِيَ حُجَّتُكُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، في قَوْلِهِ تعالى: "فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" ثُمَّ قَالَ: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} قَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا؟ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لِمَ عَمِلْتُمْ كذا وكذا؟. وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَيَقُولُ: ابْنَ آدَمَ مَاذَا غَرَّكَ مِنِّي بِي؟. ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟. ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟. وَأَخرجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يا مُعاذُ إِنَّ المَرْءَ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ سَعْيِهِ، حَتَّى كُحْلِ عَيْنَيْهِ، وَعَنْ فُتَاتِ الطِينَةِ بِإِصْبِعِهِ، فَلا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ القِيامَةِ وَاحِدَ غَيْرِكَ، اسْعَدْ بِمَا آتَاكَ اللهُ مِنْكَ)).
والعَملُ إنَّما يَكونُ بالقَوْلِ أَوِ الفِعْلِ، فالقَوْلُ باللِّسَانِ، والفْعْلُ بالأَرْكانِ: وكلُّ ذلكَ محصيٌّ على ابْنِ آدمَ، ومجزيٌّ بِهِ، يَقُولُ الحَقُّ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآيةَ: 74، مِنْ سورةِ البَقَرةِ.
وَقَدْ جَاءَ هَذَا الوَعِيدُ الأَشَدُّ هُنَا بَعْدَ وَعِيدٍ شَديدٍ، فَكَانَ الأَشَدَّ، لأَنَّهُ جاءَ مَقْرُونًا بِالْقَسَمِ، وإذا قُرِنَ الوَعِيدُ بِالقَسَمِ، كانَ في غَايَةِ التَأْكِيدِ والشِّدَّةِ.
قولُهُ تَعَالى: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عَمَّا: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِقولِهِ {نَسْأَلَنَّ} مِنَ الجملةِ التي قبلَها، وهوَ في مَحَلِّ النَّصبِ مَفْعولًا ثانيًا لَهُ، و "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ بِمَعْنَى "الذي" مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فَي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، أَوْ هيَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ. و "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ لاتِّصَالِهِ بِواوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، اسْمُ "كان"، والأَلِفُ الفارِقَةُ، و "يعملونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفْعَالِ الخَمْسَةِ، والواوُ وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وجُمْلَةُ "يعْملونَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرٌ لِـ "كانَ"، وجُمْلَةُ "كانَ" صِلَةٌ لِـ "ما" إنْ أُعرِبتْ موصولةَ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الجرِّ إنْ أُعْرِبَتْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَهُ.