فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
(92)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يُقسِمُ الحَقُّ ـ تباركتْ أَسْماؤُهُ، بِصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ التي تَعَهَّدَتْ رَسُولَهُ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بالتِرْبِيَةِ والحِفظِ والرِّعايَةِ، لِيَكُونَ أَهْلًا للرِّسَالَةِ، أَنَّهُ سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَدَقِّ التَفَاصِيلِ؛ وَالسُّؤَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ عِقَابُ الْمَسْؤولِ، كَما في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ التَكَاثُرِ: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} الآية: 8، فَهُوَ وَعِيدٌ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَمُجَرَّدُ السُّؤَالِ فِيهِ لَوْنٌ مِنْ أَلْوانِ العَذَابِ، وهوَ يَعْنِي أَيضًا أَنَّ المَسْؤولَ هالكٌ لا مَحالةَ. لِقَوْلِهِ ـ صَلاةُ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَامُهُ: ((مِنْ نُوقِشَ الحِسَابَ فَقَدْ هَلَكَ))، لِمَا أَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ السيِّدةِ عَائِشَةَ، أُمِّ المُؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، وأَرْضَاهَا، أَنّها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((مَنْ حُوسِبَ هَلَكَ)). قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {وأمَّا مَنْ أُوتيَ كتابَهَ بيمينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟} الآية: 8 منْ سُورةِ الانْشِقاق. قَالَ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((يَا عَائِشَةُ ذَاكَ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ فَقَدْ هَلَكَ)). مُسْنَدُ الإمامِ أَحْمَدٍ، برقم: (25748). وإِسْنَادُهُ صَحيحٌ، ورِجالُهُ ثِقَاتٌ رِجَالَ الشَّيْخَيْنِ، غَيْرَ عَبْدِ الجَبَّارِ بْنِ الوَرْدِ، فَمِنْ رِجَالِ أَبي داودَ والنَّسَائِيِّ، وهوَ ثِقَةٌ. وأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ: (4453)، مِنْ طَريقِ عَبْدِ الجَبَّارِ بْنِ الوَرْدِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. كما أخرَجَهُ الطَبَرانيُّ في (المُعْجَمِ الأَوْسَطِ): (8/325). وابْنُ عَسَاكِرَ، وابْنُ رَاهَوَيْهِ. والحِسَابُ اليَسِيرُ لأَصْحَابِ اليَمِينِ مَعْنَاهُ أَنَّ تُعْرَضَ عَلَى أَصْحَابِ اليَمِينِ سَيِّئاتُهُمْ التي ارْتَكَبُوهَا في الدُنْيا، ثُمَّ يَغْفِرُها اللهُ لَهُمْ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ السيِّدةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ: ((اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا)) فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ قَالَ: ((يَنْظُرُ فِي كِتَابِهِ وَيَتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهُ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ، يَا عَائِشَةُ، هَلَكَ، وَكُلُّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللهُ بِهِ عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةُ تَشُوكُهُ)). أخرجَهُ الأئمَّةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهمْ: أَحْمَدُ: (6/48، برقم: 24261)، والطَبَرِيُّ في تفسيرِهِ (جامِعُ البَيَانِ) طَ هجر: (24/237)، والحاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ على الصَّحيحَيْنِ: (1/385، برقم: 936)، وقالَ: صَحيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ: (1/252، برقم: 270)، وأَخْرَجَهُ أَيْضًا: إِسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ: (2/367، برقم: 909)، وابْنُ خُزَيْمَةَ في صحيحِهِ: (2/30، برقم: 849)، وابْنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ: (16/372، برقم: 7372). وقالَ الأَعْظَمِيُّ: إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِي الله عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). قَالَ: يَسْأَلُ الْعِبَادَ كُلَّهم يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ خِلَّتَيْنِ: عَمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَعَمَّا أَجابُوا بِهِ الْمُرْسَلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الْبَعْثِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ"، وَقَالَ في سورةِ الرَّحْمَن: {فَيَوْمئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} الآيَة: 39، قَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمَلُهُمْ كَذَا وَكَذَا، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُم بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا.
قولُهُ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ} الفاءُ: للاسْتِثْنَاءِ والتَّفْرِيعِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} الآية: 85، مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ، فَالْمُفَرَّعُ هُوَ الْقَسَمُ وَجَوَابُهُ. و "وَرَبِّكَ" الواوُ حَرْفُ جَرٍّ للقسَمِ، مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ قَسَمٍ مَحْذوفٍ، والتَقديرُ: أُقْسِمُ بِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، و "رَبِّ" اسمٌ مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "نَسْأَلَنَّ" فِعْلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ، فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، والنُّونُ الثقيلةُ للتَوكِيدِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى الرَّبِّ ـ سُبْحانَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولُهُ الأَوَّلُ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. و "أَجْمَعِينَ" تَأْكِيدٌ لِضَمِيرِ المَفْعْولِ الأَوَّلِ منصوبٌ وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ مُلْحقٌ بِجَمْعِ المُذكَّرِ السالمِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ مَنْصُوبًا على الحالِ مِنَ ضَمِيرِ المَفْعُولِ، وَهذه الجُمْلَةُ الفعليَّةُ واقعةٌ جَوابَ القَسَمِ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.