الموسوعة القرآنية، فيض العليم، سورة الحجر، الآية: 86
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ العِلْمَ بِمَا خَلَقَ. وهذا بمثابةِ التَّعْلِيلِ لِأَمْرِ اللهِ تعالى نبيَّهُ ـ صلَّى اللهُ تعالى عليهِ وسلَّمَ، بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ، أَيْ لِأَنَّ فِي الصَّفْحِ عَنْهُمْ مَصْلَحَةً لَكَ وَلَهُمْ يَعْلَمُهَا رَبُّكَ، فَمَصْلَحَةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الصَّفْحِ هِيَ كَمَالُ أَخْلَاقِهِ، وَمَصْلَحَتُهُمْ فِي الصَّفْحِ رَجَاءُ إِيمَانِهِمْ، فَاللهُ الْخَلَّاقُ لكَ وَلَهُم وَلِنَفْسِك وَأَنْفُسِهِمْ، وهو الْعَلِيمُ بِمَا يَأْتِيهِ كُلٌّ مِنْكُمْ، وما يدَعُ، كَما قَالَ تَعَالَى في سُورةِ فاطر: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ} الآيةَ: 8. ومناسبتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى منَ الآيةِ التي قبلها: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} ظَاهِرَةٌ جليَّةٌ.
وَفِي وَصْفِهِ تعالى نِفْسَهُ المُقدَّسةَ بـ "الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ" بِشَارَةٌ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّ اللهَ يَخْلُقُ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يكونُونَ أَوْلِيَاءَ للنَبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَلامُ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ المباركةِ، وَالَّذِينَ وُلِدُوا، وهو كَقَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ ولا يُشركُ بهِ شيئًا)). جِزْءٌ مِنْ حَديثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ بِرَقمْ: (2992)، ومُسْلِمٌ بِرَقَم: (3352). وأَخْرَجَهُ أَيْضًا الفَاكِهِيُّ (في أَخْبارِ مَكَّةَ) مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُبَيْرِ عَنْ خالَتِهِ السيِّدةِ عائِشَةَ أُمِّ المُؤمِنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، يمدحُ النَّبِيِّ ـ وَكَانَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْمُؤْذِينَ لَهُ ـ صلاةُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ:
دَعَانِي دَاعٍ غَيْرُ نَفْسِي وَرَدَّنِي ............ إِلَى اللهِ مَنْ أَطْرَدْتُهُ كُلَّ مُطْرَدِ
يَعْنِي بِالدَّاعِي النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتِلْكَ هِيَ نُكْتَةُ ذِكْرُ وصف الْخالِقُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى. وفي مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَأُبَيٍّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا "هوَ الخالِقُ" و "الخالقُ" يصْلُحُ للقَلِيلِ وَالكَثيرِ، أَمَّا "الخَلَّاقُ" فَمُخْتَصٌّ بالكَثِيرِ. وَالْعُدُولُ إِلَى "إِنَّ رَبَّكَ" دُونَ (إِنَّ اللهَ) مثلًا، لِلْإِشَارَةِ إِلَى تربيَتِهِ، وتعهُّدِهِ، ورِعايَتِهِ، وتولِّي أَمْرِهِ كلِّهِ، ورعايةِ جميعِ شأْنِهِ، وما فيهِ صلاحُ دنياهُ وآخِرتِهِ، فإِنَّ الَّذِي هُوَ رَبُّهُ وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِ لَا يَأْمُرُهُ إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَلَا يُقَدِّرُ لَهُ إِلَّا مَا فِيهِ خَيْرُهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ. و "رَبَّكَ" اسْمُهُ منصوبٌ بهِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "هُوَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ للتوكيدِ، ة "الْخَلَّاقُ" خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ بها. و "الْعَلِيمُ" صِفَةٌ لَهُ مرفوعةٌ مثلهُ، ويَجوزُ أَنْ نُعرِبَ: "هوَ" ضَميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابتِداءِ، و "الخلَّاقُ" خبرُهُ، والجملةُ في محلِّ رفعِ خبرِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" منِ اسْمِها وَخَبَرِها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلها، لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.