الموسوعة القرآنية، فيض العليم، سورة الحجر، الآية: 85
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
قولُهُ ـ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} لَمَّا ذَكَرَ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، في الآيةِ: 83، السابقةِ أَنَّهُ أَهْلَكَ الْكُفَّارَ، فَكَأَنَّ سائلًا قالَ: كَيْفَ يَلِيقُ الْإِهْلَاكُ وَالتَّعْذِيبُ بِالرَّحِيمِ الْكَرِيمِ؟. فَجاءَ الجَوابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تعالى إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ بالحَقِّ، فَالْبَاءُ هُنَا لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "خَلَقْنَا"، أَيْ: خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ، وَمُقَارِنًا لَهُ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ بَادِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ لِيَكُونُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، فَإِذَا تَرَكُوهَا، وَأَعْرَضُوا عَنْهَا، وَجَبَ فِي الْحِكْمَةِ إِهْلَاكُهُمْ وَتَطْهِيرُ وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ، وتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالى، هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ هوَ الخالِقُ للسَمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَسْرارِ للوُجودِ لَا يُدْرِكُها إلَّا المُؤْمِنُونَ بِرَبِّ هَذَا الوُجُودِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ "بَيْنَهُمَا"، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُهَا هُوَ اللهُ ـ جَلَّ وعَلا، وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقِصَصِ تَصْبِيرُ اللهِ تَعَالَى سيِّدَنا مُحَمَّدًا ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى سَفَاهَةِ قَوْمِهِ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ أَنَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ كَانُوا يُعَامِلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ تَعَالَى بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ سَهُلَ عليْهِ تَحَمُّلُ تِلْكَ السَّفَاهَاتِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْعَذَابَ عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، وَإِنَّ اللهَ لَيَنْتَقِمُ لَكَ فِيها مِنْ أَعْدائك، وَيُجَازِيكَ عَلَى حَسَنَاتِكَ، وَيُعاقبُهمْ على سَيِّئَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَا خَلَقَ السَمَواتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إِهْمَالُ أَمْرِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَهُ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ رَغَّبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الصَّفْحِ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ.
والحَقُّ: هُوَ اسْمُ كُلِّ مَحْمودٍ مُخْتَارٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وضِدُّهُ الباطِلُ: اسْمُ كُلِّ مَذْمومٍ مِنَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَالْحَقُّ: هُنَا هُوَ إِجْرَاءُ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى نِظَامٍ مُلَائِمٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، وَالسُّمُوِّ وَالْخَفْضِ، فِي كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَلِيقُ بِمَاهِيَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ، وَمَا يَصْلُحُ هُوَ لَهُ، بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ النِّظَامُ الْعَامُّ لَا بِحَسَبِ الْأَمْيَالِ وَالشَّهَوَاتِ، ومَا أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالى لِنَفْسِهِ المُقَدَّسَةِ عَلَى أَهْلِ السَّماواتِ والأَرْضِ، ومَا أَوْجَبَهُ لِبَعْضِ خلْقِهِ عَلَى بَعْضٍ. وَقَدْ أَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بـِ: ومَا خَلَقْنا السَمَاواتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُما إِلَّا شُهُودًا للهِ بِالَحَقِّ عَلَى أَهْلِها. ولَمْ يَخْلُقْهُما لِغَيْرِ شَيْءٍ؛ وَلَكِنْ خَلَقَهُمَا للمِحْنَةِ؛ يَمْتَحِنُهمْ بالعِبادَةِ فِيها، وَإِليْهِ ذَهَبَ الحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقِيلَ: خَلَقَهُمَا وَمَا بَيْنَهُما لأَمْرٍ كائنٍ؛ أَيْ: لِعاقِبَةٍ، أَيْ: للثَوَابِ أَوِ الجَزَاءِ، ولَمْ يَخْلُقْهُمْ للفَنَاءِ وحَسْب؛ لأَنَّ خَلْقَ الشَيْءِ للفَنَاءِ خَاصَّةً هوَ عَبَثٌ؛ تَعَالَى اللهُ عَنْ ذلكَ عُلُوًّا كبيرًا، فهوَ القائلُ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، الآية: 115، مِنْ سورةِ المؤمنونَ.
قولُهُ: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} المُرادُ بـ "السَّاعَة" يومُ القيامةِ، يومُ الجزاءِ والحِسَابِ، فثوابٌ أَوْ عِقابٌ، وهوَ آتٍ لا مَحالَةَ. وفي هذا تَهْديدٌ بِأَنَّ اللهَ سَيَنْتَقِمُ مِنْ الكفَّارِ وَيُجَازِيهمْ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ، كَمَا سَيُجازِي المُؤْمِنينَ عَلَى حَسَناتِهم، فَإِنَّهُ مَا خَلَقَ السَمَواتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إِهْمَالُ أَمْرِ عبادِهِ.
قولُهُ: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} الْمُرَادُ هو الصَّفْحُ الْكَامِلُ. أَيْ: فاحْتَمِلْ مَا تَلْقَى مِنْهُمْ، وَأَعْرِضْ عَنْهُمْ إِعْرَاضًا جَمِيلًا بِحِلْمٍ وَإِغْضَاءٍ،
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ النَجَّارِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" قَالَ: الرِّضَا بِغَيْر عِتَابٍ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" قَالَ: هُوَ الرِّضَا بِغَيْر عِتَابٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" قَالَ: هَذَا الصَّفْحُ الْجَمِيلُ كَانَ قَبْلَ الْقِتَالِ. يعني قَبْلَ نُزُولِ آيةِ القتالِ.
وَقِيلَ: هَذا الحكمُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُظْهِرَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، الْخُلُقَ الْحَسَنَ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ، فَكَيْفَ يَكونُ مَنْسُوخًا.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "ما" نافيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا، و "خَلَقْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، و "نا" التعظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلٌ. و "السَّمَاوَاتِ" مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامَةُ نَصْبِهِ الكسرةُ نيابةً عنِ الفتحةِ لأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُؤَنَّثِ السَّالِمِ. و "وَالْأَرْضَ" الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "الْأَرْضَ" معطوفٌ عَلَى "السَّمَاوَاتِ" منصوبٌ مثلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَمَا" الواوُ: عَاطِفَةٌ و "ما" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ عَطْفًا على "السَمَاواتِ"، أَوْ هي نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ. و "بَيْنَهُمَا" بَيْنَ: منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ المكانيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ صِلَةٌ لِـ "ما" أَوْ صِفَةٌ لَهَا، والميمُ للتذكيرِ والألفُ للتثنيةِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ، (أَداةُ حَصْرٍ). و "بِالْحَقِّ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ للمُلابَسَةِ، متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ والتَقْديرُ: إلَّا خَلْقًا مُتَلَبِّسًا بِالحَقِّ. و "الحَقِّ" اسمٌ مَجْرورٌ بحرف الجرِّ.
قولُهُ: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "السَّاعَةَ" اسمُهُ منصوبٌ بِهِ، و "لَآتِيَةٌ" اللامُ: هي المزحلقةٌ للتوكيدِ، (حَرْفُ ابْتِداءٍ)، و "آتِيَةٌ" خبرُ "إنَّ" مرفوعٌ بها. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} الفاءُ: هي الفَصِيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ بـ : إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الساعَةَ آتِيَةٌ، وَأَنَّ اللهَ يَنْتَقِمُ مِنْ أَعْدائكَ، فَأَقولُ لَكَ اصْفَحِ الصفحَ الجميلَ، و "اصْفَحِ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ، وحُرِّكَ بالكَسْرِ لالتقاءِ الساكنينِ. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنت) يَعودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، و "الصَّفْحَ" مَنْصوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ. و "الْجَمِيلَ" صِفَةٌ لِـ "الصَّفْحَ" منصوبةٌ مثلهُ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولٌ لِجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.