قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
(71)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} قِيلَ: عَنَى لُوطٌ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بقولِهِ هَذَا نِسَاءَ قَوْمِهِ، فَهُنَّ بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهِ، لأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ جَميعًا، إِنَّما هُوَ بِمَنْزِلةِ الأَبِ لأُمَّتِهِ، ونِسَاءُ الأَنْبِياءِ كنَّ بمثابةِ أُمَّهاتِهم.
إِذًا فَقدْ كانَ مُرادُهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِنِسَاءِ قَوْمِهِم، فيقضوا شهواتِهم، ويُعِفُّوا أَنْفسَهم فهُوَ أَطْهَرُ لَهُمْ.
وَقيلَ: بَلْ عَنَى لُوطٌـ ـ عَليْهِ السَّلامُ، بَنَاتِهُ حَقِيقَةً. وَقَدْ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَطْلُبُونَهُنَّ للزواجِ ولا يُجيبُهم بالموافقةِ لِخُبْثِهِمْ، وعَدَمِ كَفَاءَتِهمْ، لا لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ المُنَاكَحَةِ آنَذاكَ بَيْنَ المُؤْمِناتِ والكَفَرَةِ في شَريعَتِهِ. وقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَرَادَ أَنْ يَقِي أَضْيَافَهُ بِبَنَاتِهِ، فقد أَخْرَجَ عنهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ فِي قَوْلِهِ: "هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُم فاعلينَ" قَالَ: أَمَرَهُمْ لُوطٌ بِتَزْويجِ النِّسَاءِ، وَأَرَادَ أَنْ يَقِيَ أَضْيَافَهُ بِبَنَاتِهِ. وِقِيلِ: رِأِى أَنَّ هؤلاءِ المحاورينَ لَهُ هم سادَةُ قومِهم وإِلَيْهمْ يَؤُولَ أَمْرُهُم، فأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهمْ بَنَاتِهِ تقرُّبًا إليهِمْ لعلَّهم أَيَمْنَعُوا قوْمَهمْ مِنَ التَعَرُّضِ لأَضْيافِهِ بالسوءِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. فإنَّ قَوْلَهُ: بَناتِي يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَنَاتُ صُلْبِهِ وَكُنَّ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَنَاتُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ بَنَاتِه، ولا بُدَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ مَحْذوفٍ تَتِمُّ بِهِ الفائدَةُ، أَيْ: فَتَزَوَّجُوْهن. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصيلُ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ مِنَ سُورةِ هُودٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذلك عِنْدَ تَفْسِيرِنا للآيَةِ: 78.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} هُوَ شَكٌّ فِي قَبُولِهِمْ لِقَوْلِهِ، فَكَأَنَّما قَالَ لَهُمْ: إِنْ فَعَلْتُم مَا أَقُولُ لَكمْ ـ وَمَا أَظُنُّ أَنَّكُمْ فاعِلُونَ. وَقِيلَ المَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ تُريدونَ قَضَاءَ شَهَوَاتِكمْ، فلْيكُنْ ذلكَ فِيمَا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، دُوَنَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَالوَجْهُ الأَوَّلُ أَوْجَهُ.
قولُهُ تَعَالى: {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى نبيِّ اللهِ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "هَؤُلَاءِ" الهاءُ: للتنبيهِ، و "أُلاءِ" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على الكسْرِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "بَنَاتِي" خَبَرُهُ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ "هؤلاءَ" مُبْتَدَأً، و "بَنَاتي" بَدَلٌ منهُ أَوْ عطفُ بَيَانٍ لهُ، والخَبَرُ مَحْذوفٌ، أَيْ: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، كَمَا جاءَ في نَظِيرَتِهَا مِنْ سورةِ هودٍ. ويَجوزُ أَنْ يَكُونَ "بَنَاتي" مَفْعُولًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: تَزَوَّجُوا هَؤُلاءِ. و "بَنَاتي" بَدَلٌ أو عطْفُ بَيَانٍ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقولُ "قَالَ".
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} إِنْ: حرفُ شرطٍ جازمٌ، و "كُنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٌ، والتاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ اسْمُهُ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. و " فَاعِلِينَ" خَبَرُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ، والجُمْلَةُ فِعْلُ شِرْطٍ لِـ "إنْ"، والجَوابُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ فِيمَا أَحَلَ اللهُ. فَتَزَوَّجُوا بَنَاتِي، والجُمْلَةُ الشَرْطِيَّةُ في مَحَلَّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ".